غربال الذاكرة : نزار قباني
اول ما حفظت وانا في بداية الشباب من شعر نزار قباني ، مقطعين يتحدثان عن خيبة امل مرأة برجل ، ولا ادري الان لماذا كنت ارددهما باعجاب ، فانا انذاك لم اكن قد عرفت بعد شيئا من تجارب الحب الخائبة او الموفقة ، اهو تعلق غريزي بالمآسي والميلودراما !!
لا تدخلي ..
وسددت في وجهي الطريق بمرفقيك
وزعمت لي
ان الرفاق اتوا اليك
اهم الرفاق اتوا اليك
ام ان سيدة لديك
تحتل بعدي ساعديك ..
لا تعتذر يانذل لا تتأسفي
فانا لست آسفة عليك
انما على قلبي الوفي
قلبي الذي لم تعرف ِ
ربما كانت رقة الشعر وعذوبته هي التي دفعتني الى حفظه في عمر لا يمكن ان نفكر فيه بغلق الباب بوجه امرأة ، او ان ندير لها ظهرنا وهي جنبنا في الفراش :
لا, لا اريد..
وادرت وجهك للجدار ..
ايا جداراً من جليد ..
وقد اعلمت نزار قباني عندما التقيته بعد ثلاثين سنة بان ذلك كان اول ما حفظته من شعره وانا طالب ثانوي ، فضحك ولم يستغرب ، وقال ان ذلك مني من باب تغني المرء بشيء يتمناه ، كمن يقرأ احدهم باعجاب شعرا في الشجاعة او البطولة وهي لم تسنح له بعد !!
قلت له انني اجد في شعر الغزل عنده اكثر من مجرد تغني بالمرأة وجمالها وعشق عينيها وجسدها وشعرها ، انه دفاع عن حق المرأة بالحياة والحب وادانة لانانية الرجل ، انه يعرض قضية المرأة في المجتمع العربي فيقول على لسانها ما لم تستطع هي ان تقوله ..
كان نزار قباني قد تأثر كثيرا في شبابه بانتحار اخته – وهي من عائلة دمشقية عريقة – انتحرت عندما ارادوا ان يجبروها على الزواج من رجل لا تحبه ، فنذر شعره لحب المرأة منذ صدور ديوانه الاول ( قالت لي السمراء ) عام 1944 ! وأصبح نزارقبانى من وجهة نظر مثقفى الخمسينات مجرد شاعر مترف برجوازي يكتب عن المرأة وطفولة نهدها !!
صدمة اخرى حولت نزار قباني من شعر الحب الكاسح الى شعر السياسة والوطنية الغاضب .. هي نكسة خمسة حزيران1967 فكانت انتقالة نوعية نحو شعر الرفض والنقد الذاتي تجسدت في قصيدته ( هوامش على دفتر النكسة ) التي صدرت بعد النكسة بشهرين تدين التقصير العربي المرير بجرأة وتنكىء الجرح وتضرب على الوتر المشدود , صاغها ببلاغة – كما في شعر الغزل – في لغة تأخذ من القصحى منطقها وحكمتها ورصانتها .. ومن اللغة العامية حرارتها وشجاعتها وابتكاراتها :
"مالحة فى فمنا القصائد / مالحة ضفائر النساء
والليل والأستار والمقاعد/ مالحة أمامنا الأشياء.. "
كانت هذه القصيدة لحنا جنائزيا يستهوى الأفئدة . فلقيت رواجا مذهلا واعتبرها النقاد المعارضون من موجات شعر"التشفي" التى انتشرت فى أعقاب النكسة واعتبروا نزار قبانى من أبرز وجوهها . وتحول من شاعر الحب واالمرأة إلى شاعر يكتب بالسكين ..
ياوطنى الحزين.. حولتنى بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين
***
كانت زيارتي الى نزار قباني منتصف عام 1979 في بيروت حيث كنت اقوم باخراج فيلم (القناص) بطولة روجيه عساف وامال عفيش وسامي قفطان وهو انتاج لمؤسسة السينما العراقية وتدور احداثه ذات يوم في بيروت ايام الحرب الاهلية والدمار ، وكنت اريد ان اضمن الفيلم مقاطع من قصيدة نزار قباني ( يا ست الدنيا يابيروت ) وكانت مهمتنا اقناع نزار قباني ان يمثل في فيلمي ، ان يظهر في مشهد وهو يقرأ مقاطع من قصيدته تلك امام جمع من الناس وان يدخل معه في نقاش وحوار حول بيروت التي يعشقها !!
طرقنا باب المنزل ففتحته لنا زوجته العراقية بلقيس الراوي ، واوسعت لنا الطريق ببشاشة ثم جاءنا صوت نزار قادما نحونا مرحبا .. وقادنا الى صالة الضيوف بينما توجهت السيدة بلقيس الى الداخل وهي تبشرنا بانها ستعد لنا بنفسها الشاي العراقي المعطر ..
بلقيس الراوي ، ام عمر وزينب قباني ، قتلت في حادثة تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1982 ورثاها نزار قباني في قصيدة يدين فيها اغتيال الانسان العربي والشعر والحضارة .. تصلح ان نرثي بمقاطع منها قتلى العراق الان اللواتي يسقطن كل يوم في شوارع المدن الحزينة :
شكرا لكم.. / شكرا لكم..
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم
ان تشربو كأسا على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت..
وهل من امةٍ في الأرض../ -إلا نحن- نغتال القصيدة؟
سأقول، يا قمري، عن العرب العجائب
سأقول في التحقيق:
إن اللصَّ يرتدي ثوب المقاتل
وأقول في التحقيق:
إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول
ها نحن.. يا بلقيس..
ندخل مرة ً أخرى لعصر الجاهلية..
ها نحن ندخل في التوحش..
والتخلف.. والبشاعة.. والوضاعة..
ندخل مرة ً أخرى.. عصور البربرية..
بلقيسُ..
مذبوحون حتى العظم..
والأولاد لا يدرون ما يجري..
ولا أدري أنا .. ماذا أقول؟
بلقيس..
هذا موعد الشاي العراقيِّ المعطـَّرِ..
والمعتّق كالسلافة..
فمن الذي سيوزع الأقداح.. أيتها الزرافة؟
ومن الذي نقل الفرات لبيتنا..
وورود دجلة والرصافة؟
بلقيس: أيتها الأميرة
ها أنت تحترقين.. في حرب العشيرة والعشيرة
إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عربٌ..
ويأكل لحمنا عربٌ..
ويبقُر بطننا عربٌ..
ويفتح قبرنا عربٌ..
فكيف نفرّ من هذا القضاء؟
فالخنجر العربيُّ.. ليس يقيم فرقا
بين أعناق الرجال..
وبين أعناق النساء..
بلقيس:
إن هم فجروك.. فعندنا
كل الجنائز تبتدي في كربلاء..
وتنتهي في كربلاء..
سأقول في التحقيق..
إني أعرف الأسماء.. والأشياء.. والسجناء..
والشهداء.. والفقراء.. والمستضعفين..
وأقول إني أعرف السيَّاف قاتل زوجتي..
ووجوه كل المخبرين..
سأقول في التحقيق:
إني قد عرفت القاتلين
يدمرون.. ويحرقون..وينهبون.. ويرتشون..
ويعتدون على النساء..كما يريد أبو لهب..
لا سجن يفتح..دون رأي أبي لهب..
لا رأس يقطعدون أمر أبي لهب..
يا بلقيس..يا أحلى وطن..
لا يعرف الإنسان كيف يعيش في هذا الوطن..
لا يعرف الإنسان كيف يموتُ في هذا الوطن..
استهوت فكرة فيلم القناص نزار قباني ، وكانت مبنية على خبر سمعته ذات يوم من راديو مونتكارلو مفاده ( كان الوضع هادئا نسبيا هذا اليوم في بيروت ولم يسقط سوى قتيل واحد برصاص قناص من احدى البنايات ) وقد بنيت سيناريو الفيلم على تلك الحادثة .. على القانص والمقنوص .. وجعلت المقنوص يخرج من امسية شعرية يستمع بها الى شعر نزار قباني فيرصده قناص عبثي من فوق السطوح ويرديه قتيلا فيكون الضحية الوحيدة ذلك اليوم في بيروت !!
كانت المرحومة ام عمر عونا لنا في اقناع نزار قباني بالمشاركة في فيلم القناص وقد وصل حماسه الى درجة ان كتب مقطعا اضافيا للقصيدة استوحاه من جو احداث الفيلم .. وكان نزار قباني صبورا معنا اثناء التصوير الذي استغرق ثلاثة ايام بسبب تكرار انقطاع التيار الكهربائي في المركز الثقافي العراقي في بيروت حيث كنا نصور مشاهد الامسية الشعرية :
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ...
مَنْ باعَ أسواركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟
من ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينيكِ الخضرواينْ؟
من شطبَ وجهكِ بالسّكّين،
ها نحنُ أتينا.. معتذرينَ.. ومعترفينْ
أنّا أطلقنا النارَ عليكِ بروحٍ قبليّهْ..
فقتلنا امرأة.. كانت تُدعى(الحريّهْ(
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ ..
يا حيثُ الوعدُ الأوّلُ .. والحبُّ الأوّلُ ..
يا حيثُ كتبنا الشعرَ ..
وخبّأناه بأكياسِ المُخملْ ..
نعترفُ الآنَ .. بأنّا كُنّا يا بيروتُ،
نُحبّكِ كالبدوِ الرُحّلْ ..
وكُنّا نجهلُ ما نفعلْ ..
نعترفُ الآنَ، بأنّا كُنّا مِن بينِ القَتَلَهْ ..
ورأينا رأسكِ ..
يسقطُ تحتَ صخورِ الرَوْشَةِ كالعصفورْ
نعترفُ الآنَ ..
بأنّا كُنّا - ساعةَ نُفِّذَ فيكِ الحُكمُ -
شهودَ الزورْ ..
وعندما تجولنا في اسواق بيروت المهجورة والمخربة والتي نمت داخلها الحشائش والادغال وعلت جدرانها اثار الرصاص والقذائف ، وتحفرت ارصفتها ، كان يرافق كامرتنا السينمائية صوت نزار قباني وهو ينشد ..
من كانَ يفكّر أن نتلاقى - يا بيروتُ - وأنتِ خرابْ؟
من كانَ يفكّر أن تنمو للوردةِ آلافُ الأنيابْ؟
من كانَ يفكّر أنَّ العينَ تقاتلُ في يومٍ ضدَّ الأهدابْ؟
من أينَ أتتكِ القسوةُ يا بيروتْ، وكنتِ برقّةِ حوريّهْ؟
** ينتهي فيلم القناص باغنية شجية بصوت طالب القره غولي ومن الحانهوقد اختار ابياتها نزار قباني من قصيدته حيث تدور الكاميرا بانحاء المدينة المستباحة من اهلها ، ومع استعراض الخراب والاذى الذي ساد بيروت يرتفع صوت المنشد هاتفا بكلمات نزار قباني :
قومي من تحتِ الموجِ الأزرقِ، يا عِشتارْ
قومي كقصيدةِ وردٍ ..
أو قومي كقصيدةِ نارْ
قومي من أجلِ الحبِّ، ومن أجلِ الشّعراءْ
قومي من أجل الخبزِ، ومن أجلِ الفقراءْ
قومي كي يبقى العالمُ يا بيروتْ..
ونبقى نحنُ..
ويبقى الحبّْ...
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ ..
قومي من تحتِ الرَدمِ، كزهرةِ لوزٍ في نيسانْ
قومي من حُزنكِ ..
إنَّ الثورةَ تولدُ من رحمِ الأحزانْ
قومي أكراماً للغاباتِ ..
وللأنهارِ ..
وللوديانِ ..
قومي إكراماً للإنسانْ ..
ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ القلبِ الطيّبِ ..
يا بيروتُ الفوضى ..
يا بيروتُ الجوعِ الكافرِ .. والشّبعِ الكافرِ ..
ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ العدلِ ..
ويا بيروتُ الظلمِ ....
ما زلتُ أحبُّكِ رغمَ حماقاتِ الإنسانْ
ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ ..
** مات نزار قباني بعيدا عن بيروت التي احبها حيث هجرها بعد مقتل زوجته بلقيس عام 1982 ، وتوفي بتاريخ 30 /4/1998 في لندن