في الذكرى الثانية والخمسين لمصرع الملك فيصل الثاني 14 تموز / يوليو 1958
روزاليندا راميريس..المربيّة الانكليزية لفيصل الثاني ملك العراق ..
تحكي قصة ملك صبي حزين وجد عندها الحنان والدفء
قبل أن يقتله ضباط جيشه ، ويتشفّى به شعبه !!
" أريد أن اجعل من وطني العراق جنائن معلقة يراها كل العالم ! "
الملك فيصل الثاني – رحمه الله -
مقدمة
كنت قد نشرت فصلة ذكريات مختزلة منذ سنوات ضمن كتابي : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ، والذي نشرت فصلاته متسلسلة في مجلة الأسرة العصرية بين 2002 - 2005، وسأعيد نشره قريبا بجزئين أو أكثر .. هنا أعيد نشر هذه ( المقالة ) على صفحة التجمع لمناسبة مرور الذكرى الثانية والخمسين على مصرع المغفور له الملك الشاب فيصل الثاني ، الذي حكم العراق رسميا ودستوريا 1953- 1958 . وأنني إذ اكتب عنه بعض ما توصّلت إليه من سيرته التاريخية ، ليس لأسباب سياسية ، ولكن خدمة للتاريخ المعاصر وللأجيال القادمة ، فلقد كتبت ونشرت عن اغلب الزعماء العراقيين الذين حكموا العراق في القرن العشرين ، ولكنني اكتب عن فيصل الثاني ، هنا أيضا من الناحية الإنسانية ، إذ كنت قد ولدت وترعرعت في عهده الذي يعد عهدا زاهرا وزاخرا بالتقدم والإبداع والاعمار بالرغم من كل المثالب والأخطاء ، مقارنة لما كان عليه العراق من قبل ، أو لما لحق به من بعد ! لا كما أساء إليه خصومه الذين ما زالوا حتى اليوم لا يعترفون بحقائق التاريخ وبعد مرور أكثر من نصف قرن على سقوط ذلك العهد الذي أسموه بالعهد البائد !
إن مصرع الملك فيصل الثاني وعائلته فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958 ، سيبقى حدثا تراجيديا يثير الاهتمام والتعاطف معا ، ليس لأنه يمثل نهاية إنسان في ريعان الشباب ، بل لأنه يعّبر عن نهاية تاريخ ومجتمع وثقافة وأسلوب حياة .. وبدأ تاريخ عراقي يختلف تماما عما كان سابقا .. وبالرغم من كل المبررات والمسوغات التي يسوقها كل الذين أيدّوا وما زالوا يؤيدون ما حدث ، فان كل المقربيّن إلى زعيمي الانقلاب عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ـ رحمهما الله ـ ينفون نفيا قاطعا دورهما في اقتراف ذلك القتل ، وان المسؤول الأول والأخير كان النقيب عبد الستار السبع .. في حين تشير الدلائل إلى أن قرار قتل الملك قد اتخذ من قبل قاسم وعارف معا بعد استشارة بعض رؤساء الاحزاب ، إذ تقول إحدى الروايات نقلا عن احد الضباط الأحرار إن احد رؤساء الأحزاب وكان له مكانة عند عبد الكريم قاسم أجاب قاسم بعد سؤاله عن مصير الملك قائلا : كل يوم يذبح ببغداد مائة رأس غنم ، اجعلها مائة وواحد فلن يحدث شيئا !
لقد اصرّ الزعيمان على تنفيذ ذلك بالرغم من نفي عائلتيهما على مسؤوليتهما في قتل الملك ، كما سمعت ذلك بنفسي من كل من الطرفين قبل سنوات ، وقد نشرت كل عائلة قصة ذلك فأخت عبد الكريم لامته لوما شديدا على قتل فيصل ، فسكت واغرورقت عيناه ـ برواية ابن أخيه الصديق الأستاذ طالب حامد قاسم لي قبل سنوات بعد أن سألته عن ذلك ـ ! وزوجة عبد السلام لامت زوجها على فعلته عندما رجع إلى بيته ، فأجابها بالنفي ! وكأنهما لم يكونا بمسؤولين عن اخطر حدث شهده العراق . إنهما قد حكما العراق معا أو على انفراد ، فان صحّت براءتهما من مشروع القتل ، فقد كان باستطاعتهما أن يعلنا ، أو أن يعلن أيا منهما براءته رسميا أمام العالم والتاريخ . لقد تسلمّت رسالة خاصة من احد الأصدقاء المخلصين للمشير الركن عبد السلام عارف ، وكان الأخير يبرّه كثيرا جاء فيها أن الرئيس عبد السلام كان مؤرقا ومتعبا جدا قبل مصرعه بأيام ، وقد اسّر صديقه قائلا بأنه " سيسّلم الحكم إلى احد الزعماء العراقيين العسكريين ، ويذهب مجاورا وتائبا للرسول (ص) في المدينة المنورة ، كي يقضي ما تبقى من حياته هناك ، عسى الله يقبل توبته في الذنب الذي اقترفه فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958 بالاشتراك مع عبد الكريم قاسم في قتل فيصل الثاني والعائلة المالكة وكلهم أبرياء .. ويضيف له : إن أرواحهم تلاحقني أينما أكون " . وسواء كانت الرواية برغم سذاجتها ، صحيحة أم غير صحيحة ، فان زعيمي الثورة يتحملان المسؤولية التاريخية في كل ما حدث !
حاجتنا ليس إلى كلمة اعتذار .. بل الى ثقافة اعتذار
هنا أقول متسائلا : ماذا لو بدء العراقيون ثقافة اعتذار .. إنهم سوف لن يرجعوا التاريخ إلى الوراء ، وسوف لن تأخذهم العزة بالإثم إن اعترفوا بأخطاء ارتكبت ، وجّرت على البلاد والعباد كل الويلات . وعليه ، فقد كنت قد طالبت بإنصاف دور الملك فيصل الثاني ـ رحمه الله ـ ، إذ يجمع اغلب العراقيين على براءته ومحبته .. بل وتقديم الاعتذار لهدر دمه وسفحه في بغداد فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958 . ولقد علّق أحد العراقيين قائلا : إن مجرّد إنصاف ذلك الدور ، أو تقديم أي اعتذار ، سيعني بالضرورة التشكيك بمشروعية ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، فأجبته قائلا : لا أبدا ، فربما كان التغيير سيحصل من دون سفك دماء ! إن المشكلة ليست بالتغيير ، بل بفورة الدم . إننا لسنا بحاجة إلى كلمة اعتذار ، بل إلى ثقافة اعتذار ، وان هذا أو ذاك سيحصل من قبل العراقيين ، ولكن بعد مرور أكثر من جيل ، وعندما ستعرف الأجيال القادمة حقائق تاريخية أكثر مع ازدياد الوعي التاريخي ، وزوال الخصوم السياسيين الذين ناصبوا العداء لهذا العهد أو ذاك ، وسيقول العراقيون كلمتهم مع توالي الأيام والسنين في كل ما شهده العراق من مآس يندى لها الجبين سواء في عام 1958 أو عام 1959 أو عام 1963 ، وهلم جرّا ، بعيدا عن المزايدات السياسية أو الأحقاد الإيديولوجية ومقاربة من الإدراك والمعرفة والعقل .
نعم ، عندما طالبت العراقيين أن ينصفوا تاريخهم وقت ذاك مقارنة بما كان عليه الحال سابقا وما آل إليه المآل لاحقا ، قامت الدنيا ولم تقعد من قبل خصوم فيصل الثاني ، أو حتى أولئك البعض من المخدوعين الذين لم يعرفوا عنه شيئا ، ولكنهم حملوا على امتداد خمسين سنة مضت ، ثقافة حقد وكراهية ضد ذلك العهد الملكي في العراق الذي كانت له حسناته وسيئاته معا ، فليس ثمة مثالية في التاريخ ، ولكنهم لم ينزهوا حتى هذا الملك الشاب الذي تربى منذ طفولته ملكا على البلاد ، وقد تثقف ثقافة ممتازة ، كما وكان يحمل أخلاقا حميدة قلما يحملها شاب عراقي يتمتع بميزات الملك ، إذ لم يكن فيصل طائشا ، أو أحمقا ، ولم يكن ارعنا أو مغرورا .. وكان العالم كله يتطلع إلى دوره منذ طفولته ، إذ تربى ملكا متواضعا بين الأطفال العراقيين ، ويجمع كل الذين عرفوه انه عشق العراق وأحبه كثيرا ، وكان ينوي أن يجعله في مصاف المجتمعات المتقدمة .. ولكن ما يثير حقا عند العراقيين ، عاطفيا وليس موضوعيا ، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على نهايته المفجعة ، أن يتمّ الترحّم على الزعيمين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف عند ذكرهما ، ويحجبوا الرحمة على فيصل الثاني ، علما بأنه كان شهيدا كونه قتل من دون وجه حق! وحتى إن افترضنا أن عهده قد غطس بالسيئات ، فانه كانسان لم يشهد أحد من العراقيين انه قد آذى أحدا ، أو ارتكب معصية معينة ، أو انه كان ملكا فاسدا أو شريرا !
زعماء العراق في رحاب الله
إننا عندما نكتب أو نتكلم في تاريخ كل من حكم العراق في القرن العشرين ، وهم اليوم في رحاب الله ، ينبغي أن تقال كلمة حق وبموضوعية وحيادية تامة عن كل واحد منهم ، وان من يستحق أن يذكر ذكرا جميلا ، يستوجب ذكره عنه ، خصوصا وان هذا الملك لم يستهتر أبدا في حياته ، وكان ملكا دستوريا على الرغم من كل ما يوصم به عهده من صفات غير لائقة على السنة الجيل ( الثوري ) الذي شهد نهايته في 14 تموز 1958 ، وصفق ورقص متطلعا إلى حياة جديدة وحرة وديمقراطية ونيابية ودستورية وتقدمية .. الخ ولكن كل ذلك لم يتحقق في تجارب حكم سياسية عديدة في العراق على امتداد نصف قرن بعد الثورة ، وبالرغم من كل ذلك ، فان الكره لفيصل وعهده لم يزل يكمن في الصدور ، وخصوصا عند الذين كانوا مادة دسمة للاستلاب من قبل مؤدلجات الصراع الدولي .. بل والانكى من ذلك عندما يجيبك احدهم بكل بلاهة : وماذا يعني قتله ؟ الم تذهب الآلاف المؤلفة من العراقيين قتلى وضحايا ؟ من دون أن يدرك هذا ويا للأسف الشديد ، بأن فيصل الثاني لم يكن شخصا عاديا ، بل انه كان رمزا للبلاد .. وان مصرعه قد غيّر تاريخ العراق بجملته ، كما هو حال كل الثورات الدموية في العالم كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية وغيرهما ، ولكن لا يمكن مقارنة مصرع فيصل الثاني بمصرع ملك فرنسا لويس السادس عشر عام 1795 ، ولا مقارنته بقيصر روسيا نيقولا الثاني عام 1917 ، فلقد اتجه تاريخ العراق اتجاهات متعددة ومتصارعة بعد العام 1958 اثر ثورة 14 تموز التي تعتبر مفصلا تاريخيا بين زمنين اثنين ، سيحكم التاريخ عليهما بعد مضي أزمان .
دعوني هنا أقدم ما كنت قد سجلته منذ أكثر من ثلاثين سنة من أحاديث نقلتها عن مربية فيصل الثاني ، لنتعرف عليه عن قرب ، وقد وجدت من خلال الحوار الطويل الذي جرى بينها وبيني ، كم كانت تلك المرأة صادقة في كل الذي حكته لي عن فيصل الثاني ، وكانت تحمل إزاء مصرعه ذكرى مؤلمة جدا ، كونه لا يستحق تلك النهاية وذلك المصير على أيدي أبناء شعبه .
صفحة ذكرى
التقيت بها في يوم دافئ من أيام 1979 وفي قرية اسكتلندية ساحرة ، وكانت قد بلغت من الكبر عتيا .. لم يزل في نظراتها ثمة اختراق للإبصار .. ولم تزل ذاكرتها حية متوقدة ، وكأنها تعيش الحدث لتوه وتتذكر كل الناس الذي عاشت بينهم منذ قبيل الحرب العالمية الثانية .. لم أكن أسعى للتعرف بها ، فلم أكن اعرفها ، أو قد سمعت بها ، بل قادتني الصدفة العادية اليها ، اذ كنت قد تعرّفت في واحد من أندية أدنبرة العاصمة الاسكتلندية الجميلة على كل من المسز ساره كلنت وزوجها دوكلاص كلنت وكلاهما قد عاشا في العراق لأكثر من عشر سنوات وفي مدينة البصرة بالذات ، إذ كان دوغلاص يعمل مديرا لشركة نفط البصرة ، وكانت له علاقاته الواسعة بالمجتمع البغدادي وببعض الأسر والعوائل ، بل وكانت عقيلته السيدة كلنت قد وثّقت علاقتها بالقصر الملكي كما أطلعتني في مرات عدة على رسائل وصور فوتوغرافية نادرة لها مع الملك فيصل الثاني في الخمسينيات من القرن العشرين ، واهدتني بعض تلك الصور التي لم أزل محتفظا بها .. كما أطلعتني على رسائل متبادلة بينها وبين السيد احمد محمد يحي الذي كان صديقا حميما لها ولزوجها منذ العهد الملكي ، وكان مواليا للنظام القديم من الدرجة الأولى ، بل ومواليا لبريطانيا .. تقول وقد عاتبته وسأبقى أعاتبه كيف أصبح مواليا بسرعة للنظام الجديد ، بل وأصبح موضع ثقة الزعيم عبد الكريم قاسم ، بحيث اسند إليه وزارة الداخلية طوال عهده وحتى العام 1963 ! تقول : يبدو انه كان يرتبط بغيري من البريطانيين سواء قبل 14 تموز أو بعد ذلك !
اتصّلت في يوم من الأيام المسز كلنت بي وقالت : ما رأيك تزورنا عصر يوم السبت .. فوافقت على دعوتها وشكرتها .. وكان بيتها بعيدا في الأرياف الاسكتلندية الجميلة ، وفي قرية قريبة جدا من جامعة سانت اندروس العريقة التي كنت احّضر أطروحتي للدكتوراه بكل من كلية سانت سلفيتر وسانت لاندرس فيها . كانت تلك القرية تسمى بـ ستراثكنس Strathkinness.. عند ذلك المساء المخملي الجميل ، وعلى ربوة خضراء يمر فيها طريق ريفي قديم وعند سفح يجري جدول ماء رقراق ينحدر من جبال قريبة وأمامي من بعيد كثافة أشجار غابات خضراء داكنة ، أوقفت سيارتي الفولكس واكن البيتلز البيضاء وطرقت الباب ، فإذا بالمستر كلنت يستقبلني ، ويدخلني لأجد في بيتهم لفيف من أصدقائهم وكلهم بنفس أعمارهم التي كانت قد تجاوزت السبعين والثمانين من السنين .. وكنت لوحدي لم أصل بعد الثلاثين من العمر . تعّرفت بالموجودين بعد أن قدمّوني إليهم واحدا واحدا .. ولاحظت عجوزا تجلس من دون حراك على كرسي متحرك .. قالوا وإنا اتقّدم لمصافحتها أنها المس روزاليندا راميريس مربية صاحب الجلالة الراحل فيصل الثاني ، وكانت مفاجأة مدهشة بالنسبة لي أعدّتها لي صديقتها المسز كلنت ، فسررت بهذه المصادفة العجيبة التي قد لا تتوفر لغيري وأنا احد طلبة علم التاريخ العراقيين .. فاتخذت مكانا إلى جانب المس روزاليندا لأتبادل الحديث معها ، ووجدت أنها كانت متلهفة أيضا للحديث معي عن العراق الذي عاشت فيه ردحا من الزمن . لم التق بها إلا مرتين حدثتني فيهما طويلا عن فيصل الثاني وعن خاله الأمير عبد الإله – رحمهما الله - وعن العراق الملكي إبان الأربعينيات .. حدثتني عن طفولته وعن صبوته .. عن تكوينه وعن سجاياه .. عن هدوئه وتواضعه .. عن هواياته وأصدقائه .. عن صبره وتحمله يتم الأب ، ومن بعد يتم الأم التي كان يحبها حبا جمّا .. عن مرضه وتحمله المصاعب ..
روزاليندا .. من هي ؟
يبدو أن المس روزاليندا قد كانت تتمتع بمسحة من الجمال أيام شبابها ، إذ بدت أنها في نهاية العقد السادس من العمر ، شعرها ابيض قصير ولها وجه مدوّر ، ونظرات تطلقها بابتسامة هادئة ، وتتمتع بذاكرة حادة ، وتتكلم بلغة ارستقراطية عالية المستوى . حدثتّني عن حياتها باختزال وكنت أسرع لأكتب ما تقول ، فلقد ولدت روزاليندا راميريس في العام 1912، وافتقدت عطف الأب عند افتراق أبويها عن بعضهما ، وتزوجت أمها ثانية من مواطن من تشيلي. وأمضت روزاليندا جزءا من طفولتها برفقة أمها في أميركا اللاتينية. وعندما بلغت الفتاة الثانية عشرة ، عادوا وأرسلوها إلى انكلترا التي وجدت في ذلك فقدانا للحنان والاهتمام ، ونظرا لاختلافها الشديد مع أمها ، فلقد افترقت معها إلى الأبد . وتبناها وهي مراهقة ، القس كينيت ورنير، الذي أصبح بعد ذلك أسقف إدنبرة ، وأحبتها زوجته مرجريت حبا جمّا . ورافقتهما روزاليندا إلى البلاد العربية ، فلقد عمل الزوجان ورنير لفترة من الزمن في فلسطين التي كانت في ظل الإدارة البريطانية، وطافت روزاليندا الشرق الأوسط ، وأمضت سنة في التطواف في المنطقة. وفي العام 1932 ، وحينما كانت في الأردن ، تعرفت الشابة الانكليزية على الأمير طلال بن عبدالله ولي عهد إمارة شرق الأردن ، ووالد الملك الراحل الحسين بن طلال ، وكانت تعتني به وبصحته ، مما قرّبها من البيت الهاشمي الحاكم هناك في عمّان . وترك هذا اللقاء أثره في حياة روزاليندا التي عادت إلى انكلترا بعد ذلك لتكمل دراستها ..
وبعد مرور عشر سنوات، فرحت فرحا كبيرا ، حينما تلقت دعوة رسمية لتكون مربية لقريب الأمير طلال ذي السنوات الست، ملك العراق فيصل الثاني ، فأستعدت لذلك وقرأت الكثير عن البيت الهاشمي الحاكم في العراق .. وفعلا وصلت بغداد بطريق الجو ، وأصبحت منذ تلك اللحظة مربية لفيصل الثاني وصديقته الوحيدة عدة سنوات . غادرت روزاليندا بغداد بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها أبقت علاقاتها مع العائلة المالكة في العراق. وقد سمعت بأن روزاليندا قد توفيت في العام 1999 . ولم يكن ابن الملك غازي تلميذها الوحيد، وإنما أيضا ، كان هناك ولدا دوق جلوستير شقيق الملك جورج السادس وعم ملكة بريطانيا الحالية إليزابيث الثانية. ولم تتزوج مسز راميريس ورحلت دون أن يكون لها أبناء.
من يحلم بالعراق جنائن معلقة ؟
قالت لي بالحرف الواحد : لقد كنت أتلهف له صبيا لأنه كان يعاني نفس ما كنت قد عانيته في صغري ، فهو مثلي قد فقد منذ طفولته عطف الأبوة ، وفقد بعد ذلك عند مطلع نشأته حنان الأمومة لرحيل والدته الملكة عاليه التي كانت تبّرني كثيرا ، وقد كانت الملكة عاليه قد أعلمتها بأن ابنها الطفل الوحيد يتعّلم بسرعة ، ويتصّرف بذكاء منقطع النظير وكأنه رجل له وعيه بالمهمة التي انيطت به !! وكانت روزاليندا تردف وهي تصفه لي وكأنها معه قائلة : كان هادئ الطبع ، قليل الأكل ، عفيف النفس .. كان يعشق الصمت ، ويصغي لمن يصف له العراق القديم ويريد أن يجعل من العراق بلدا اخضرا وكله أشجار تزدان بالأضواء ، كما يرسم ذلك في لوحاته على الورق ، وينتشي عندما يسمعه الآخرون انه برسام موهوب وهو ابن عشر سنين ! وكان يعجب دوما بوصف الجنائن المعلقة في بابل عندما يقرأ عنها ، ليقول : " أريد أن اجعل من العراق جنائن معلقة يراها كل العالم ! " .
لقد كان هذا جوابه على سؤال سألته إياه – كما تقول - لقد تعّلق بي ، وكأنه يرى في مربيته ، امّا له ! كان يصغي اليّ ، ولا يناقش توجيهاتي له بصدد الاتيكيت وأدب التعامل وطريقة الكلام والتصرفات العامة والنمط الملكي في الأصول ، علما بأن تربيته عراقية صرفة ، ولهجته بالعربية البغدادية المفخمّة .. أما انكليزيته ، فكانت رائعة اكتسبها بالإنصات والتعلم والقراءات المتنوعة .. كان يعشق السينما عشقا لا يوازيه شيء ، ويفكّر بالرواية أو القصة التي يتابعها بشغف على الشاشة بالأسود والأبيض ، وكثيرا ما أجد دموعه تنسل من عينيه على مواقف عاطفية يندمج معها . ولقد تبيّن لي أن هذه السيدة كانت تعرف فيصل صبيا وشابا كانسان من دون أن تتوغل في التفاصيل السياسية .
حكايات الارشيف / السجل التاريخي
يقول أرشيف هذه المرأة إنها عملت في القصر الملكي العراقي للفترة 1943 - 1946. وهي فترة قالت لي إنها غير كافية جعلتها تتعلق بحب ذلك الصبي الملك الحزين ، وتعلمه الكثير وتلتقط معه أجمل صور ذكرياتها معه بكاميرتها القديمة التي لم تزل تحتفظ بها حتى الآن في منزلها - كما قالت - .. إنها لم تزل تتذكر ألعاب ذلك الملك الصغير وأفلامه السينمائية المفضلة وكانت بالأسود والأبيض ومراقبتها له إبان الفعاليات الرسمية التي قدر له أن يشارك فيها ، وتتذكر الأزمات التي يمر بها إذ تجتاحه بين فترة وأخرى نوبات الربو Asthma الذي يؤذيه جدا خصوصا عندما تتوعك سماء بغداد ، ويحل الغبار ضيفا ثقيلا على تلك السماء أياما عدة . تستطرد وتقول بكلماتها التي ترصها رصا ، وهي تنظر اليّ وكأنني نزلت عليها من بلاد العجائب والغرائب : قد لا تدري أنني احتفظ بعدة رسائل جميلة كتبها صاحب الجلالة فيصل الثاني لي بانكليزيته الرائعة في سنوات عدة من الخمسينيات ، وتعّلق قائلة بأنه كان يجيد الانكليزية أكثر من العربية !! وكانت تقوم على خدمته والعناية به في بريطانيا ، أثناء دراسته فيها .. صحيح انه كان يعيش في قسم داخلي في مدرسة سانت هيرست ، وأيضا في كلية هارو ، لكنني أكون معه في أوقات فراغه .. وهو لا يعرف أي وقت للفراغ ، فهو يقضي جّل أوقات عطله بالرياضة ويعشق الهوكي ويغرم بكرة القدم والملاكمة .. كان يقرأ كثيرا ، وهو يختار كتبه ويشتريها بنفسه ، وأكثر ما كان يعجبه أن يجد كتابا عن العراق بين يديه ، ويهوى كتب التاريخ ، وخصوصا عن بلاد ما بين النهرين ، ليتعّرف على ملوكها بدلالة أستاذه مستر هاشمي ( هو الاستاذ الدكتور محمد الهاشمي الذي رافقه في دراسته ببريطانيا ) ، وغرس فيه حب قراءة سير الزعماء والملوك .. كان فيصل إنسانا بمعنى الكلمة ، لا يفرّق بين البشر أبدا ، لا على أساس الدين ، ولا اللون ، ولا العرق ، ولا اللغة .. وكنت أجده يسأل عن عادات وتقاليد شعوب أخرى ، ويهوى بعض الأطباق لعدة شعوب ، ويفّضل الطبق الصيني على الرغم من قلة شهيته للطعام ، إذ كان أكله قليلا .. كان كريم النفس وكريم اليد ، ولكنه يعرف كيف يصرف نقوده .. كان يتصّرف تصرفات الكبار ، إذ لم يكن كبقية المراهقين ، ولا يستهتر بالآخرين . أبدا ، فهو يحترم التقاليد والقيم التي ترّبى عليها ، ويدرك انه ترّبى ويتعلمّ من اجل الملك .. كان لا يصدر قراراته بسرعة ، بل يتأنّى كثيرا في صنعها ، ويستشير غيره في أمرها ..
انطباعات تاريخية مهمة
حدثتني في أكثر من لقاء معها بأن فيصل الثاني لم يكن كبقية من كان في عمره ، كان يرسم على وجهه ابتسامات حزينة .. ولم يتكلم إلا إذا سئل، ولم تعجبه الثرثرة أبدا .. وهو اجتماعي بطبعه ، تعّلم ألا يكون لوحده أبدا ، فمنذ طفولته تعّود أن يحيطه الكبار ، وقد عرفت أن خالته الأميرة عابدية بدأت ترعاه بعد وفاة أمه التي كانت له سندا ، وبموتها فقد الملك الصبي فيصل الثاني كل فرحه ، ولكنه كان إنسانا عجيبا في كظم حزنه ، وهو لا يغتاظ أبدا ، إذ عرف بهدوء طبعه ، ويأخذ الأمور بسلاسة ، ويستمع طويلا حتى يقول كلمته .. كان يعجبه احتساء الشاي بالحليب ويعجبه استقبال الشباب العراقي من الفتوة والكشافة ، ويتعامل معهم كصديق وواحدا منهم .. ويرحب دوما منذ صغره ، بجولات في شوارع بغداد ، إذ كان يرغب أن يكون في سيارة مكشوفة ليحي شعبه الذي يصفق له كلما يراه .. كان يعشق الصور الفوتوغرافية ومراقبة الأفلام السينمائية .. كان يحب الرسم وبدأت هوايته منذ سن مبكرة . كان يتكلم مع مربيته ومعلمته بالانكليزية التي نجحت في غرس جملة كبيرة من التعابير والمصطلحات النادرة والثمينة في ذهنيته ، وعلمته كيفية النطق بها منذ صغره حتى يمكنه في المستقبل أن يتمّيز بها على ملوك الأرض وزعمائها .. ولكن القدر لم يمهله لينفع العراق بمثل هذا الملك الذي يبدو انه لم يخلق للعراق أبدا !
أطرقت روزاليندا قليلا ، وكأنها كانت تفكّر في أمر مهم ، ثم التفت وقالت لي : أتدري ما قاله لي فيصل في احد الأيام التالية ، وفي آخر لقاء معه ؟ قلت لها : ماذا قال ؟ قالت : قال : انأ عند وعدي لك ، أريد أن اجعل من وطني العراق جنائن معلقة يراها كل العالم ! وهنا انتبهت ، فقلت لها : ولكن لم يستطع أن يحقق أمنيته إذ لفّه القدر البائس ، ليأخذ العراق طريقا من نوع آخر في مسيرة تاريخه ! قالت : لا ادري لماذا نفذ صبر العراقيين ليقتلوا ملكهم وكل عائلته .. أجبتها : انك لا تعرفين الظروف التي عاشها العراقيون .. وان فيصل ذهب ضحية لسيئات ارتكبها غيره ، واستطردت قائلا : لقد ولد وعاش ورحل وهو لم يدرك المشكلات الصعبة التي كان يعيشها العراق منذ زمن طويل .
الأمير عبد الاله : الوصي على العرش
بدا لي ان روزاليندا تجهل العديد من الأمور والتفاصيل التي لا تهمها أصلا .. فذاكرتها لا تعرف إلا أنها كانت مربية للملك .. وقد سألتها عن الأمير عبد الاله الذي كان وصيا على العرش ، والذي كانت سمعته سيئة للغاية بين العراقيين ! فأجابت : كان عبد الاله منطويا على ذاته ، ويخجل من الغرباء ، ويعتبر فيصل بمثابة ابنه ، إذ يحبه حبا جما ، ويعتني به ويخاف عليه ، إذ أن هاجسه أن لا يصاب فيصل بأي أذى ، فيكون هو موضع اتهام .. كان يوصيني عليه صباح مساء .. وكان يريد من ابن أخته ملكا مثقفا بين زعماء العالم ، إذ كان يفخر به أمام الآخرين عندما يتكلم فيصل ويصغي خاله إليه .. وكان يحرص على أن يتكلم فيصل معي بالانكليزية ، ولكنه يحرص على أن يتكلم معه ومع صديقه وابن عمّه الأمير رعد بن زيد الذي كنت أشاهده معه دوما ومع كل أفراد البيت بالعربية ، كان عبد الاله يشرف بنفسه على تطبيق برنامج تربية ابن أخته يوما بيوم ، وكان يعتبره صديقا له أكثر من خال له . وكان فيصل قد فرض احترامه على الجميع حتى وهو في سني المراهقة .
إن أصعب أيام عبد الاله عندما يكون الجو مغبرا في بغداد ، إذ يخشى على فيصل من الغبار ، بسبب مرض الربو المزمن الذي لازم فيصل منذ طفولته ، إذ يبقى تنفسه صعبا لعدة أيام . وتواصل روزاليندا حديثها لي عن خاله الوصي الأمير عبد الاله ، فتقول عنه بأنه كان يعتني بفيصل عناية فائقة تفوق التصور ، وكأنه ولده ومحبته للملكة عالية لا يمكن أن توصف . وبقي عبد الاله منطويا على ذاته ، ويخشى صرامة والدته الملكة نفيسة ، وكان يهتم بجيش العراق اهتماما فوق العادة .. كما كان يؤجل اخذ أي قرار من دون أن يستشير كبار الساسة العراقيين في كل صغيرة وكبيرة .. كان ينتظر فيصل الثاني ليكبر ويزوّجه لينعم العراق بولي للعهد من صلب فيصل الأول ، إذ لم يكن عبد الاله طامعا بالحكم ، بل وجدته متشائما دائما ، إذ كان يعيش هواجس القتل ، وقد ترّسخ في عقله ووجدانه أن الهاشميين كلهم يذهبون قتلى .. سألتها هل تعرف بأن الشعب العراقي كان يكره عبد الإله كراهية كبيرة .. أجابت بالنفي ، ولكنها علقّت بعد أن راحت تستذكر وتقول : ربما لانعزاليته وكبريائه وشعوره بالتعالي على الآخرين .. كنت لا اقترب منه وهو يجلس في حدائق القصر لوحده وليس له إلا الشراهة في التدخين وبشكل لا يمكن تصورّه .. كان يعاني من الشعور بالوحدة المركبة وفشل زيجاته المتعددة !
14 تموز 1958 : يوم لاهب ودموي في التاريخ
تستطرد روزاليندا تقول : ولا يمكنك تخّيل حالتي ومشاعري التي خنقتني كوابيس ما حدث في فجر 14 يوليو 1958 ، عندما تناهت إلى سمعي أنباء مصرع فيصل الثاني في صباح ذلك اليوم الصعب وإبادة العائلة المالكة .. لقد كدت اجنّ ، وأنا أتابع أحداث ذلك اليوم من إذاعة لندن البي بي سي ، وهو اليوم الذي قتل فيه ذلك الملك الوديع الذي كان قد أكمل الـ 23 سنة من العمر !! سكتت قليلا ثم أخرجت منديلا من حقيبتها الصغيرة السوداء ، وراحت تمسح دموعها المتساقطة .. أطرقت وأنا انظر إليها بوجوم وحزن ، ولم أتكلم !
وكان أن قامت مجموعة عسكرية أسمت نفسها بالضباط الأحرار بانقلاب عسكري أعقبه حدوث زخم ثوري عارم في الشوارع يوم 14 تموز / يوليو 1958 ، وقتل الضباط ملكهم وأبادوا جميع أفراد الأسرة العراقية المالكة وطالوا حتى جدّته لأمه الملكة نفيسة ( أرملة الملك علي بن الحسين وأم كلّ من الملكة عاليه والأمير عبد الاله ) ، وهي امرأة عجوز مع جميع خدمهم .. ففي 14 تموز 1958 حينما سيطرت مجموعة من ضباط الزعيم عبد الكريم قاسم على قصر الرحاب ، وضرب بالهاونات ، هبطت العائلة الملكية الى الطابق الاسفل على رأسها الملك فيصل الثاني مع خاله الوصي عبدالاله، ومعهم خدم البيت، وتقدمت نحوهم بعد خروجهم إلى حديقة القصر ، مجموعة عساكر وأطلق احد الضباط ، واسمه عبد الستار العبوسي النار العشوائي عليهم دون إنذار. كانت الحركة قد قام بها مجموعة ضباط تزعمهم الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وبرفقته كل من العقيد الركن عبد السلام عارف والعقيد عبد اللطيف الدراجي .. ولقد قرروا قبل يومين من الحركة تصفية كل أركان الحكم السابق ، ولم يرحم " الضباط الأحرار" النساء والأطفال، بعد ان كان صوت العقيد الركن عبد السلام يشق الأسماع ، داعيا الناس إلى الهجوم على قصر الرحاب ، والاقتصاص من الخونة والعملاء وعلى رأسهم عبد الاله وسيده ! وسحلت الجموع بفرح غامر في شوارع بغداد جثة الأمير عبدالاله بعد أن ربطتها في مؤخرة سيارة،.ولكن احد الضباط الشرفاء ابعد الناس الغوغاء عن جثة الملك الشاب، واكتفى بنقلها على وجه السرعة إلى المستشفى ، ويقال أن نبضه كان لم يزل يدق ، ولكن احد زعماء الانقلاب كان بباب المستشفى ينتظر جثة فيصل التي نقلت إلى إحدى الردهات ، فدخل مسرعا ليقضي عليه قضاء تاما ، ويتأكد تماما من قتله ، والممرضات يبكينه بكاء مرّا ، ثم أخذ جسده كي يواروه التراب رفقة الجثث الأخرى بسرية تامة ، باستثناء جثة عبد الاله التي سحلت وقطعت وعلقت في اكثر من مكان بشوارع بغداد .
14 تموز 1958 : ماذا تعني ؟
1/ هل من تآمر خارجي ؟
أعدت السؤال نفسه على المس روزاليندا ، والذي كنت قد ألقيته على المسز كلينت قبل زمن طويل : هل كانت بريطانيا تعلم بما كان يحاك ويجري في العراق من قبل الضباط الأحرار ؟ وهل كانت المخابرات البريطانية ضالعة في صناعة الحدث الذي نزل كالصاعقة في العالم اجمع .. لم تجب روزاليندا على السؤالين ، إذ قالت بأنها لا تعرف أية معلومات عن أي تواطئ أو تآمر قد حدث ، ولكنها لا تستبعد أبدا تدخل أيادي أجنبية ! أما المسز كلينت ، فلقد كانت قد أعلمتني منذ أن تعّرفت عليها ، بأن ثورة 14 تموز / يوليو 1958 هي حصيلة صراع دولي في الشرق الأوسط ، وقد كان الحدث نفسه تنفيذا لمخطط واسع الأبعاد ، اشترك فيه ضباط عراقيون برفقة بعض المدنيين .. وكلهم كانوا من أعوان السلطة القديمة ويصفقون لها ، ولكنهم انقلبوا عليها بعد ساعات من سقوطها !
2/ انقسام الثوار
وبهذا أسدل الستار على حكم الهاشميين في العراق ، وأصبح عبد الكريم قاسم أول زعيم للجمهورية العراقية ، ليبدأ تاريخ صعب جدا يكتنفه مسلسل المؤامرات والانقلابات، وإراقة الدماء. نعم ، لقد بدأ صراع الثوار فيما بينهم على السلطة ، واعتمد كل طرف على إيديولوجية معينة وتيار معين ليركب موجته في دوامة الحرب الباردة التي كانت تجتاح العالم .. لقد ولدّ ذلك " الصراع " صراعات أخرى لتعيش البلاد قرابة عشر سنوات في إطار حكم العسكريين على عهد كل من الزعيم عبد الكريم قاسم والرئيسين عارف ، عبد السلام وعبد الرحمن ، كي يستعيد البعثيون السلطة عام 1968 والتي كانوا قد افتقدوها عام 1963 ، اثر إطاحتهم بحكم الزعيم قاسم 8-9 آذار / مارس 1963 ، ولكن المشير الركن عبد السلام عارف أطاح بهم في 18 تشرين الثاني 1963 ، حتى 17 تموز / يوليو 1968 عندما رجعوا مرة أخرى ، وبأسلوب غاية في القسوة ، فبقوا يحكمون العراق قرابة 35 سنة على عهدي كل من احمد حسن البكر وصدام حسين كي يسقط كل العراق في قبضة الاحتلال الأمريكي عام 2003 .
3/ الخيانة والولاء
النقطة الأخيرة التي أود تسجيلها هنا ، إن النخبتين العراقيتين العسكرية والمدنية قد أثبتتا طبيعة ولاء من انتسب إليها من عراقيين سواء لما قبل 1958 أو بعده ، وتوضّح الصور الفوتوغرافية والأفلام المكتشفة حديثا ، وهي وثائق تاريخية دامغة عن تأرجح المصداقية لدى عناصر من الضباط والمثقفين العراقيين الذين تخضرموا بين زمنين اثنين : ملكي وجمهوري .. إن صورا وأفلاما تعلمنا بمدى ولاء أسماء مشهورة للملك فيصل الثاني شخصيا ، ولم يثبت أبدا أنهم كانوا ضده ، ولكنهم اثبتوا للعالم عكس ما كانوا عليه بعد حركة 14 تموز 1958 ، بل والتصفيق لعهد جديد بعد أن صفقوا طويلا لعهد قديم .. فهذا شاعر يمدح فيصل تارة وبعد أيام يمدح الزعيم عبد الكريم ! وذلك آمر لواء يقدّم طاعته وولاءه بكل دماثة ، ولكن لا يستثني ملك البلاد من المقصلة ! وآخر كان مواليا للبلاط الملكي ولاء تاما .. فإذا به يغدو وزيرا في العهد الجمهوري ! وذاك فنان شهير كان الملك فيصل يؤثره ويعتز بلوحاته كثيرا عندما يقدمها إليه هدايا منه ، لكنه يصنع اكبر جدارية شهيرة في قلب بغداد تدين عهد فيصل إدانة تاريخية ! ومرافق عسكري للملك وكان يؤثره على أقرانه لما كان يمثله من دور أمامه ، لكنه يغدو عضوا في هيئة الضباط الأحرار ، ويشمت بمقتل ذلك الملك الذي كان قد منحه أكثر من نوط ، اعتزازا به وبدوره !
النهاية والرحيل
مضت الأيام ، وأكملت دراساتي ومنحت الدكتوراه عام 1982 ، ورحلت عن بريطانيا في العام 1983، وكنت أسأل المسز كلينت عن المس روزاليندا في كل زيارة لي إلى بريطانيا ، فكانت تحدّثني أنها بخير ، حتى انقطعت عني أخبار المسز كلينت والمس روزاليندا منذ أكثر من عشرين سنة .. وبعد سنوات طوال سمعت بأن روزاليندا قد رحلت رحلتها النهائية في العام 1990 ، ولا اعرف ماذا حّل بأشيائها وأوراقها العزيزة ، فان هناك مقتنيات أثرية وتاريخية مهمة جدا تفيد تاريخ العائلة الهاشمية التي حكمت العراق 37 سنة من القرن العشرين ، ومنها رسائل وصور ورسوم ومعايدات بيد فيصل .. ولم اعرف ماذا حل بالمسز كلينت وزوجها أيضا !
وأخيرا : ماذا اقول ؟
بالرغم من كل ما قالته مربيته عنه ، فان الملك فيصل الثاني حكم العراق في زمن صعب جدا ، وبالرغم من اعتزازه بالعراقيين وعشقه للعراق ، إلا انه لم يدرك الظروف الصعبة التي كان يعيشها العراقيون ويدرك المؤامرات التي يحوكها الساسة وراء الكواليس ، لكنه لم يدرك ابدا ان العراق على ابواب انتقال تاريخي الى زمن جديد .. كان طيبا اكثر مما يلزم ، وقد خدعه الجميع . لقد كان يعلم ببعض الأخطاء التي يقترفها بعض المسؤولين ، لكنه كان مقيدا تماما ، ولم يدرك حجم النقمة السياسية التي كانت تتفاقم في بلاده ضد الحكم الملكي ، وشراسة الحرب الباردة ضده ، مع الهجمة الإعلامية الناصرية ضد سياسة الأحلاف والمعاهدات التي جعلت بغداد مركزا لها في الشرق الأوسط .. إضافة إلى اهتمام النخبة السياسية الحاكمة بمنجزات الاعمار الكبيرة من دون الالتفات إلى ما يريده الناس في حياتهم اليومية ، مع بقاء قانون دعاوى العشائر والمصالح الفئوية على حساب المصالح الوطنية .. ناهيكم عن بقاء النخبة الحاكمة القديمة مسيطرة على مقاليد السياسة العراقية من دون ان تفتح لها دروبا جديدة أمام الشباب الجدد الذين كان من المستلزم أن يمثلهم الشاب فيصل الثاني. ولعل تربيته وثقافته الانكليزية لم ترحمه ، بل زادت من مفارقته عن شعبه الذي لم يعرف حتى يومنا هذا ان يفّرق بين السياسة والثقافة ، بل انه يدمجهما معا باسم الاستعمار ، علما بأن فيصل كان معجبا بالحياة الاميركية منذ زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة عام 1952 . ربما لم يمنحه القدر أية فرصة كي يعّبر عن أفكاره وما يمكن عمله إبان تلك المرحلة الصعبة التي كان العالم فيها منقسما على اشد ما يكون الانقسام ، وتعّلق المسز كلينت على ذلك قائلة : لو منحه القدر خمس سنوات اخرى فقط ، لظهر للعالم ان ملكا شابا وحكيما وعاقلا كان يحكم العراق ، ولكان العراق قد تخّلص من ازمة الحرب الباردة .. ولكنني لا اعتقد ذلك ابدا ، اذ اخالفها تماما ، ذلك ان فيصل الثاني لم يكن بشخصية قوية او ماردة ، يمكنها ان تحكم العراق في مثل تلك المرحلة ، فهو يختلف كثيرا عن ابن عمّه الملك حسين بن طلال والذي تمتع بمزايا غير مزايا فيصل الثاني !
وإذا كان مشروع زواج فيصل الثاني من أميرة تركية قد بدأ لأهداف سياسية واضحة ، ومن اجل توثيق عرى العلاقة العراقية ـ التركية ، فان وعي العراقيين لم يصل إلى القناعة بذلك ، وبقوا يتساءلون : لماذا لم يتزوج فيصل بفتاة عراقية ؟ وآخر ما يمكنني قوله بأنني واثق ثقة كاملة بادوار نسوة ورجالات بريطانيين في العراق ، وأن بريطانيا كانت ذكية جدا في توظيف سيّدات راقيات جدا في العديد من مستعمراتها أمثال روزاليندا راميريس ، وأنا واثق من ارتباطاتهن بالسياسة العليا لبريطانيا كجزء من واجباتهن الحقيقية الخفية . رحم الله فيصل الثاني رحمة واسعة .. وسيذكره التاريخ دوما ، كيف ترّبى تربية خاصة كي يكون دمه ثمنا لخطايا غيره .. لقد ترّبى يوما بعد يوم كي يقتل في عز شبابه رحمه الله .
ـ عن كتاب للمؤلف سيار الجميل ، زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ .
الملاحظات والمراجع على النص تنشر في الكتاب المذكور اعلاه .
www.sayyaraljamil.com