Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

قراءة تحليليّة لرواية عراقي في باريس، لصموئيل شمعون

عراقي في باريس، عراقي ضاربٌ في العراقة والأصالة والإبداع، متشرّبٌ من مياه الحبّانية حيث عذابات وانكسارات وطموح الطُّفولة، طفولة مترجرجة بالجراحِ الثَّخينة وشغفٌ عميق للعمل منذ أن تبرعمَ هذا الطّفل العراقي في أزقّة الحبّانية، مسقط الرّأس، ولعٌ عميق للسينما يزرعه قرياقوس في عوالم هذا البائع المتجوّل/ الطّفل.
يفرش الرّوائي المبدع صموئيل شمعون عوالم طفولته وصباه وشبابه بانسيابية نديّة وجرأة شفيفة نادرة، تلامس العوالم الخفيّة لجراحِ الرّوح، بأسلوبٍ عفويّ إنساني روائي سردي نقدي حالم ساخر ومرتكز على حميميات الذَّاكرة منذ أن نقشَتْ على خمائلها نكهةَ المطرِ الأوّل، كاشفاً بطريقةٍ طازجة الانشراخات العميقة في محطّات الطّفولة والصّبا والشَّباب، يعرّيها بجرأةٍ نادرة، آخذاً من كلِّ مرحلة من هذه المراحل الوعاء النَّقي لبناء عمل روائي متعانق مع بهجة السِّيرة بكلِّ تلاوينها ومراراتها وآهاتها ونزوعها العميق إلى عوالم السِّينما والصَّداقة والأسرة والمكان والإنسان والحياة!
يفتح صموئيل شمعون عينيه على أرضٍ طينيّة خصبة، كانت يوماً مهد الحضارات، وإذ به يتلقّفها أرض المرارات، مرارات تحاصره من كلِّ جانب، معفّرة بالدّم والفقر المدقع، متشرشرة بحروب فاقعه، كريهة، حروبٌ بلا نهاية تتزاحم على جماجم أعرق حضارة على وجه الدُّنيا.
ترعرعَ على هذه الأرض المفخّخة ببراكين الدَّم، هذا الـ "عراقي في باريس"، فلم يجد أجدى من هذه العوالم الفسيحة المكتنزة بالجراح الغائرة كي يفرشها بكلِّ تلاوينها أمام عرش الشَّرق المهلهل، وأمام الغرب الناهض، المسترخي بثعلبيّة غير مرئية فوق صياغة عذابات الكثير من فقراء الشَّرق وفقراء العالم!
يسخر شمعون عبر قلمه المنساب مثل مياه دجلة، من مراراته وعذاباته وتشرُّدهِ ويدوّن همّه وغمّه بجرأةٍ صافية قلّما تجد مثيلاً لها في عالم الروائيين العرب ممّن كتبوا في هذا السِّياق ذات الطابع السِّيروي، محوّلاً الهموم المتراكمة على صدره الغضِّ إلى نصٍّ روائي يبهج القلب، وكأنّه يقدِّم لنا وصفة سحرية عبر الكلمة تشفي هذه الجراح الثّخينة، حتّى أنَّ القارئ يلمس وكأنّ هدف الروائي لبَلْسمةِ جراحه كان مرهوناً على الكلمة، على النصّ، على تراكمات الهموم كي يصنع منها إنتصاراته الإبداعية، فلا نجده محبطاً ولا متململاً، يستقبل التَّشرُّد والجوع والعراء كأنّه كان يكتب نصّه الروائي عبر منعطفات عمره المسربلة بالانكسارات.
ينجح صموئيل شمعون في أسلوبه العفوي، مبتعداً عن الجملة الفضفاضة الرَّصينة الجزيلة القوية، مركّزاً على حوار متعانق مع كلِّ شخصية من شخصيات روايته، حوار وسرد وبناء مدروس بعناية بديعة، لهذا جاء النصّ كمرآة صادقة تعكس ما كان يراه ويحسّه ويعيشه فترجم هذه الأحاسيس بمصداقية روائية رائدة، تحلّق عالياً، محقّقاً المتعة والفكاهة والسّخرية والجدّية والعفوية في بناء نصٍّ متماسك يقودكَ إلى متاهاته التي عاش في رحابها متشرِّداً تشرّداً لا يخلو من نكهة طيبة وبهيجة رغم عذابات التشّرد، لأن صموئيل بصبره الأيّوبي استطاع أن يحوّل انشراخات محطَّات عمره إلى فيلم سينمائي عبر طريقة استقباله للحياة بكل قساوتها وتمكّن أن يسخرَ منها بنجاحٍ مأمول، متحايلاً على شظف العيش ببناء حلم وأمل ربَّما يتحقَّق وربَّما لا يتحقَّق أبداً، لكنَّ الذي تحقَّق هو بناء هذه العوالم الألمية عبر عمل روائي يحلّق في فسحة عذبة أقل ما نقول عنها أنها فسحة دافئة رغم النَّوم الذي كان في محطَّات القطارات وعند أصدقاء طريق ومصادفة وغربة وغرابة لا تخطر على بال، لكن صموئيل يجرّ كلّ الغرابات والغربات نحوه مبتسماً لهدير الرِّيح والأقدار العاصفة غير آبه إلا بكأس من النّبيذِ وفسحة أمل على ضوء شوارع باريس كي يدلق نصّه على وجنةِ الحياة، لأنّه منبعث من أنينِ الحياة.
يزرعُ صموئيل شوارعَ باريس بتساؤلات لا حصر لها، يسيرُ بهمّةٍ لا تلين جيئة وذهاباً حتى يبزغ الفجر أو حتّى يفتح مقهى ما أبوابه للزائرين فيعبر المقهى وكأنّه آتٍ محمّلاً من ثمارِ معركةٍ إنتصر فيها على أنين الغربة والصعلكة، غربة ذات أنياب شرسة لكنّها لا تخيف صموئيل بل تزيده تشبّثاً بحلمه الكبير بكتابة سيناريو سينمائي عن والده الأصم والأبكم، هذا الوالد الذّي أحبّه صموئيل حبّاً عميقاً، من خلال تواصله الجميل مع عوالمه عن طريق الاشارات، وأرجح الظنّ أن الّذي خلق في أعماقِ صموئيل شهوة الإبداع والبحث وقدرة التحمّل والتسكُّع هو والده، فقد منحه قدرة خارقة على تحمّل مرارات الحياة، فربّما تساءل صموئيل في قرارة نفسه مراراً، أنّه بألف خير طالما يرى ويسمع ويحكي ويبتسم ويرتشف نبيذه المسكّر بلذّة فائقة، مقارنةً بوالده الأطرش والأبكم، لهذا نراه يتواصل مع والده أكثر مما كان يتواصل مع والدته وبقية أسرته، من خلال لغة الاشارات التي اخترعاها وكم كان حوارهما عبر الاشارات حميماً وساخراً ورشيقاً وانسانياً، متعلّقاً به تعلّقاً رائعاً، ووفاءاً من صموئيل أطلق على موقعه الرَّاقي اسم كيكا، وكيكا كان لقباً يكنّى به والد صموئيل إشارة إلى أنه أطرش وأبكم، إلا أن صموئيل لا يكترث إلا للمحبة، محبة والده ومحبة الحياة كلّها رغم مرارتها، يعبر صموئيل اليابسة والبحر بدون مجاذيف لأنّه يعتمد على المصادفات تارةً وعلى مغامرات تصلح أن تكون مواضيع لأفلام سينمائية، ويلمس القارئ أن رواية "عراقي في باريس" هي عشرات القصص وأكثر من رواية، إنّها رواية الرّوايات ..
إنَّ أكثر ما لفت إنتباهي عبر متون الرّواية كلّها، أن صموئيل لم يتوقّف عند جنون الحرب وويلاتها ولا عند السياسة والسياسيين الذين زجّوا وطنه في حروبٍ مفتوحة على قبّة السَّماء إلى أجلٍ غير مسمَّى، ومع كلّ هذا الغليان الكوني والمحلّي على العراق، فإنّ صموئيل لم يتوقَّف عند هذه المحطّات كي لا تبرقع تشردّه الجميل، وكي لا تخدش اِيقاعات شخيره وهو مسترخٍ في محطّات القطار بعيداً عن ضجيج الحرب وويلاتها التي لا ترحم حتى أعماق الحلم، لهذا فقد شطب شمعون غطرسة الحرب وجنون ساسةِ الحرب من شهقته الروائيّة وكأنّه يقول أنتِ يا حرب وأنتم يا ساسة لا وقت لديَّ للحديث عنكم وعليكم، إنَّ كأساً من النّبيذ المعتّق بعد تشرّدٍ طويل أفضل من رحى حروبكم المغبرة بترهَّاتِ الحياة!
صموئيل شمعون، روائي من نكهة الفرح وساخر سخرية جامحة مكتنزة بعفوية الأطفال الكبار، يحوّل بدهاءٍ راقٍ كلّ هذه المصائب إلى بسمة طفل في صباح باكر، ولا يفوته أن يسخر أحياناً حتّى من ذاته ومن محيطه ومن الدُّنيا برمَّتها فلا أهداف عملاقة لديه، ويرى أنَّ الذين لديهم أهداف عملاقة، ما هي أكثر من أبراج طينية هشّة، تقتلعها الرّيح وهي أشبه ما تكون أبراج من الرَّماد والتّبن المتبقّي من طعام الأحصنة التي يمتطيها في أحلامه في اللَّيالي القمراء بعيداً عن مادّيات وشرور العالم، لأنه يرى أن جنون الإنسان منبعث من شراهة الإنسان ولهاثه خلف مادّيات الحياة، خلفَ قشور الحياة، فلا يهمّه شيئاً، حتى ولو فشل في تنفيذ حلمه، لأن صموئيل روائي بارع من خلال تصعلكه وتشرُّده في محراب الحياة، يستقبل التشرّد بطريقة طريّة وكأنه مندلق من صدرِ نيزك للقيام بهذا الدَّور في سيناريو الحياة، بحثاً عن تحقيق سيناريو فيلم سينمائي يكون بطله روبيرت دونيرو.
يمتلك الرِّوائي خصائل إنسانية راقية، فلا يملك ضغينة في قلبه، يدافع عن نفسه وعن أصدقائه بكلّ شهامة، ويدوّن نصّه وكأنه يعيش لحظة التَّدوين والكتابة، فلا يميّز القارئ فيما إذا يقرأ نصّاً روائيّاً أم أنّه يعايش المتشرد تشرُّده الحقيقي، فلديه قدرة كبيرة على نقل تصعلكه إلى بياض الورق بدون أيَّة تحفُّظات وتزويقات، فهو أمين وصادق في ترجمة تجربته بكلِّ تلاوينها ومراراتها، حتّى أنّكَ تشعر وأنتَ تقرأ النصّ، أنَّه يأخذ أشدّ المواقف قساوةً بنوع من الدُّعابة والطرافة وكأنَّ ما حصل له لا يؤلمه أو يعرف كيف يتجاوزه بصبرٍ أيّوبيّ، مركّزاً على أقرب حانة كي يخلخل كلّ ما جار عليه الزَّمن بكأسٍ من النبيذ المسكّر.
توقّفتُ عند صداقات صموئيل شمعون خلال النصّ الرِّوائي مع عوالمِ الِّنساء، وإذ به يبني علاقات رومانسية مع صديقة ما عابرة أو يعرف أنها كانت ذو تجربة مع فلان ومع هذا يعمّق علاقته بهذه أو تلكَ، وتبدو لي وكأنَّ غرامياته كانت أشبه ما تكون بحلول مؤقّته لتشردّه وطموحاته الغرامية بسيطة ومتواضعة مقارنةً بصولاته وجولاته في الحانات، فكان على ما يبدو يقارن بين التسكّع والنّوم على أرصفة محطَّات القطارات وصداقة أنثى تحضنه في فراشها الدافئ، أفضل على الأقل من تشرُّده، لكنّه عندما كان يجد نفسه في الشَّارع، فلا تراه يندم على ما فاته من نومٍ دافئ في سرير ناعم وحضن طريّ، فكان يرمي ثلاث مرات ثلاث حجرات خلف الأنثى التي تطرده من مخدعها، لكنّه سرعان ما كان يسامحها لو طلبت منه العودة، فيعود لا لأنه بحاجة إليها بل لأنّه طيّب القلب من جهة ويحنُّ إلى سقفها وأحضانها الدافئة من جهة أخرى، وكان يخيّل إليّ قبل قراءتي للنصّ، انني سأصادف عالماً عشقياًً من عوالم صموئيل، أشبه ما يكون بزير النّساء، خاصة أن الرواية تحمل عنوان: عراقي في باريس، فتساءلت، ماذا ممكن أن يقدِّم لنا هذا العراقي المتسكِّع في باريس، لعوالم نساء باريس، غير شبقٍ مفتوح على وجنة الرّيح، خاصةً أنّه معروف بشغفه في عوالم الحانات وكؤوس النبيذ؟! إندهشت عندما وجدت هذا الآشوري التائه في سماء باريس صعلوكاً طيّباً، بسيطاً، عفوياً، أميناً، صادقاً مع من يعاشر، ولا يغدر بمن تأتمن له على بيتها، مع أنّه كان يجمح أحياناً بأن يستخدم كلّ الطُّرق لاستمالة اِهتمام الأنثى مثلما حصل مع ساعية البريد المؤقّتة، فقد اخترع لها الأقاصيص وعوالم جامحة كي يستميل اِهتمامها ونجح في أسلوبه وحقَّق مآربه وتمكّن من الحصول عليها لفترة من الزَّمن، لكنّها سرعان ما اكتشفت أهدافه وأسلوبه، فتركته على غير عودة!
هنا أودّ الوقوف إلى أنّ الروائي يزجّكَ في عالم أشبه ما يكون بالخيالي حتى في قمّة عوالمه الواقعية، والغريب بالأمر أنه لم ينحُ نفس المنحى مع نساء أخريات، وفعلاً أدهشني عدم تركيزه على أنثى بطريقة أكثر حذاقة ودهاءً كي يقطع الطريق عن عالم التسكّع والتشرُّد، وكي يتمكَّن على الأقل من كتابة سيناريو فيلمه بعيداً عن حياة التشرُّد في أزقّة باريس وشوارعها التي ألفته كأنّه غدا جزءاً منها. في هذا المنحى يبدو لي أن صموئيل، ذو الطَّبيعة الشَّرقية، البدوية، الرِّيفية، العفوية، لم يتمكَّن في المرحلة الأولى أن يحقِّق الانسجام والتوازن مع أنثى كي يستقر ولو بشكل مؤقت معها، كما يفعل الكثير من مهاجريّ شمال أفريقيا، مع أنّ أغلب أصدقائه في دنيا الغربة كانوا من شمال أفريقيا، لكنّه يبدو أنّه اِعتاد على التشرُّد، ولديه طاقة أيوبيّة على مواجهة حياة الصعلكة، لكنّه مع كلّ هذا ظلّ نقياً من الدّاخل، لم ينحرف إلى عوالم الضّياع فقد كان يقظاً في تشرُّده وتصعلكه يعرف ماذا يريد، تجده يفرش أوراقه وكاربينتره/ الآلة الكاتبة ويكتب سيناريو فيلمه على إيقاع تأوُّهات الوصالات العشقية، غير آبه لصديقة صديقه وهي تخرج من مخدعها شبه عارية نحو الحمّام، ثم تطوّر بها الأمر إلى أن تخرج عارية، لأنها اعتبرته غائصاً في العزف على آلته ينقش السيناريو ولا يهمّه مرورها العاري، جلّ تركيزه على الكتابة، لكنّه كان يصاب بالاحراج عندما كانت تتقدّم نحوه وتسأله عن أمرٍ ما فيصبح وجهاً لوجه لمثلث العشق، حيث دهشة الشَّرق تستيقظ بهمّة غجرية جامحة، لكنّه مع هذا كان يأخذ الأمر بروح رياضية عالية! ولا يفوته أن يلوذ بعيداً عندما يرى اندلاع المشاكل مع أصحاب البيوت التي يرتادها فيترك البيت حاملاً حقيبته وأوراقه بحثاً عن رصيفٍ آمن بعيداً عن مشاكل أصحاب البيت، وتفادياً من نشوبِ مشاكلٍ بسببِه.
يكتب صموئيل شمعون، روايته من لبِّ الحياة، يريد أن يردَّ على طغاة بلاده الذين جرّوا وما زالوا يجرّون البلاد إلى ويلات لا حدود لها، معبّراً عن هذا الأمر دون أن يكتب كلمة واحدة عن هؤلاء، لكنّه قال كلمته من خلال تشرُّده في دنيا الشَّرق والغرب، فقد استقبلته دمشق على أنّه جاسوس اسرائيلي، لمجرد اسمه صموئيل شمعون، اسم يهودي، لكنَّ المحقِّقين هناك نسوا أنَ اِسمه آشوري وسرياني قبل أن يكون يهودياً، ونسوا أن بلاد الرافدين، بلاد الحضارات بُنيت على أكتاف الآشوريين والآراميين والسُّومريين والبابليين والكلدانيين، وهم من بنى حدائق بابل المعلّقة، إحدى عجائب الدّنيا، فيأتي واحد من أحفاد هؤلاء يحمل أسماء أجداده فتصبح هذه الأسماء وبالاً عليه!
أنه لمن الغرابة أن تتعامل دولة، نظام، سياسة ما مع كائن حيّ يعبر حدودها بشكل شرعي لمجرد التشابه بالاسم بهذا الشكل المريع، مسألة في غاية الأهمية والخطورة والجفاء، وما حصل في دمشق حصل في بيروت الشَّرقية، فقد كانت رصاصة جندي سياسي أهوج على وشك أن تخترق رأسه، وبقدرة قادر استطاع صموئيل أن يقنع هذا السياسي الذي (سيحرِّر) العالم برؤاه الطائشة، حيث تذكّر وسرد للجندي أسماء الكثير من الممثلين والممثلات والأفلام وهكذا تمكّن أن يفلت من جحيم العبور في عواصم العروبة والإباء، متوجّهاً إلى الأردن وهناك يتشرشح بالتمام والكمال نتيجة العمل مع شخص تبيّن أنّه معارض للنظام هناك وبقدرة قادر يفلت مرة أخرى من جحيم السّجون، عائداً إلى دمشق فبيروت ويعمل فترة من الزَّمن مع الاذاعة في منظمة التّحرير ويشرف على نشرة تصبح مرجعاً للأخبار في ذلك الوقت، مع أنه لا يستهويه العمل السياسي، لكنه كان بأمس الحاجة للعمل من أجل لقمة العيش ثم التخطيط للرحيل إلى أميريكا كي ينجز مشروعه السينمائي، فيعمل بشكل دؤوب ثم نتيجة للظروف والمتغيرات السياسية يفرّ من بيروت متوجّهاً إلى قبرص وتونس، وينتهي به الرحال في باريس، مدينة النّور، وإذ بهذا النّور يسطع عليه عبر تشرُّده في الأزقة، ضارباً صحبة قوية مع أزقّة وشوارع باريس، إلى أن غدت شوارع باريس كأنّها صديقة حميمة لصموئيل لا يفارقها حتى في ساعات النَّوم العميق، آخذاً من أرصفتها مخدعاً مريحاً للنوم!
رواية صموئيل شمعون، عراقي في باريس، هي كشف المستور عن الكثير من عورات الشَّرق، كشف حالة المثقف العربي، هي تعرية لحالة المواطن الشرقي، المتشرّد بامتياز في عقر داره، هي رسالة واضحة، إلا أنَّ لكلٍّ من المثقَّف الطَّموح والمواطن العادي، نصيبه من عالم التشرُّد والتَّسكع والضّياع، وللدول التي انبثق منها هذا المواطن أو ذاك المثقف نصيب كبير في تشكيل هذا التشرُّد بطريقةٍ أو بأخرى، ناهيك عن أنَّ هذا المواطن نفسه لو ظلّ في وطنه لكان مغترباً ومتشرداً أكثر وهو في مسقط رأسه، وقد وجدنا كيف تمَّ تجريف بيت صموئيل شمعون وهو طفل، من قبل أزلام نظام الدَّولة الجارفة، حامي البوَّابة الشرقية، فتتشرّدُ الأسرة في ليلة وضحاها مع أب أطرش وأصمّ وأولاده الصغار يلتحفون العراء، أليست أزقّة باريس ومحطّات القطار أرحم وأجمل وأبهى من تشرُّد صموئيل الطّفل في حيِّه وبلده وشارعه وزقاقه ومسقط رأسه؟!
أسئلة عديدة ممكن أن نطرحها في سياق قراءتنا لرواية: عراقي في باريس، لغة عفويّة، بسيطة، طريّة، مشبّعة بالواقعية، خالية من التكّلف، وأسلوب رشيق، يقود القارئ بسلاسة إلى الشواطئ الآمنة، حيث الهدوء والأمان رغم التسكّع والتشرّد تحت أضواء المصابيح على مساحات اللَّيل والنّهار، لماذا شوارعنا تهرب منّا أو نهرب منها، لماذا تجتاحنا الحروب، نحن عشّاق الأمن والأمان والسلام، لماذا تضيق بنا الدُّنيا، ولا نجد مسنداً مريحاً لرؤوسنا، فننام في مترو الأنفاق آمنين غير قلقين أن يُهَدَّم علينا النَّفق في عتم اللَّيل، غير قلقين حتّى ولو نمنا في العراء؟!
رواية "عراقي في باريس" ردٌّ مريع على طغاةِ الشّرق، تتضمَّنُ تساؤلاً كبيراً يطرحه علينا صموئيل شمعون: ما ذنبي لو حملت اسماً يدعى صموئيل شمعون، فيقتلعون ويجرفون بيتي وتستقبلني العواصم العربية العتيدة بالزَّنازين المعتمة والإهانات المتاخمة لخشخشات القبور، ثم أهرب إلى عالم التسكُّع والتشرّد في شوارع باريس لمجرّد أنّني أحمل هذا الإسم ولدي حلم وطموح أن أكتب سيناريو فيلم سينمائي عن والدي الفرّان الأطرش الأصم؟!
عراقي في باريس، رواية في منتهى العراقةِ والحداثةِ والإبداع!

كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
Opinions