قطار الإصلاحات .. هل فات وتركنا ؟
من المعروف جيدا أن مجتمعاتنا قاطبة لا تنعم إلا بالتجديد من زمن إلى آخر ، وأنها تتلهف إلى كل المتغيرات الحضارية من خلال النخب والفئات المنتجة .. وان تاريخنا الحضاري يشهد لها بذلك .. وبالرغم من كل الأزمان الصعبة والمتيبسة التي مرت بها مجتمعاتنا ، فإنها سرعان ما تستعيد حيويتها وأنشطتها بالرغم من كل التحديات التي تمر بها من الداخل والخارج . إن هذه المبادئ تبدو مستقرة تاريخيا وفكريا وحضاريا في الأدبيات المتوارثة التي يدركها العالم جيدا ، إلا أنها تعتبر في الواقع من المبادئ الجديدة في ثقافتنا السياسية وهي تطرح اليوم من اجل إيقاف ثقافة مناقضة وممارسات هزيلة وعادات سقيمة سادت حياتنا على مدى قرون طوال .. وهي حياة تسلطية من قبل الدولة والمجتمع متمثلة باحتكار السلطة والثروة والحكمة وصنع القرار وبالتالي نفي المشاركة وإرادة الشعب واختياراته وترجيح أهل الثقة على أهل الخبرة وتفضيل المؤيدين والمنافقين والمصفقين على المفكرين والمستقلين بالرأي والموقف ، ومن ثم فان تطبيق هذه المبادئ في مجتمعاتنا ، يحتاج إلى ثورة فكرية وتربوية ونهضة ثقافية حقيقية‚ تغير العقول الحاكمة والمحكومة‚ وتنبع من قلب حركة المجتمع ، ومن مراجعة الذات ونقدها‚ وإعادة النظر في مفاهيمها وطموحاتها في ضوء التحديات التي تواجهها عند مفتتح زمن جديد. ولعلنا نشير بهذا إلى ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في المنظومة الثلاثية‚ التي تشكل العقل وتصنع الوجدان وتصوغ الأفكار والمواقف ونعني منظومة التعليم والثقافة والإعلام‚ تلك التي تعاني اليوم من قصور واضح وتخلف هائل‚ في ظل هيمنة الدولة واحتكارها وسياساتها الأحادية التي لا مثيل لها إلا في الدول المتخلفة كثيرا ، الأمر الذي لا يكابر فيه إلا مكابر يعادي التطور والحرية.اذكر أننا نادينا بـ " التسارع التاريخي " وإحداث التغييرات منذ سنوات خلت وقبل أن تصدر وثيقة الإسكندرية الإصلاحية بخمس سنوات ! وهو مشروع " لا يرنو تقديم وصفات علاجية مؤقتة سرعان ما تتبخر فاعليتها ، بل يدعو إلى إصلاح منظومة مركبة ومعقّدة ، وهو بحاجة إلى زمن طويل وجهد كبير ، ولا ينبغي أن يبقى المشروع الإصلاحي ينتظر أو يتلكأ‚ كما حدث في الماضي بحجة التلاؤم وعدم التعجيل حتى يحدث التطور الطبيعي ، وبحجة أن مشروع الإصلاح هو أمريكي صرف وهذا زيف وبهتان ، بعد أن أضاعت مجتمعاتنا قرنا كاملا في الانتظار والمصابرة ، وكل العالم يتقّدم بسرعة مذهلة أمام أعيننا ونحن أسرى الترسبات القديمة العقيمة وهي ذرائع مختلفة وحجج مختلفة .
لقد تأجلت خطط التنمية العربية الشاملة بحجة مقاومة الاستعمار ، واستبعدنا تطبيق الديمقراطية بحجة تكريس الجهد لتحرير فلسطين ، ورفضنا مطالب شعوبنا بالتطوير والتحديث وإطلاق الحريات بحجة أنها قاصرة جاهلة بحصولها على الحريات ، إذ تنفلت إلى الفوضى وتغرق في الكوارث والصراعات ، ودوما ما تؤخذ اليوم تجربة العراق نموذجا فاضحا ! لقد دقت أسافينها في مراكبنا العتيقة ، وصحونا في زمن من نوع جديد ، لنكتشف أننا لم نحرر فلسطين‚ ولم نتحرر من إرادة الآخرين ، وفي الوقت نفسه لم نصلح مناهج التعليم ، ولم نحقق تنمية حقيقية تقاوم الفقر والبطالة والتخلف‚ ولم نطبق أنظمة قانونية سليمة تقاوم الفساد والاستبداد ! وبقيت المجتمعات تراوح وتتراجع أيضا من دون أن تخرج من أطواق مواريثها المتعبة التي أبعدتها عن الوعي والتفكير السياسي وصناعة المستقبل مقارنة بما يحصل في مجتمعات أخرى انطلقت نحو الآفاق الجديدة .
وعليه ، أقول بأن لم يعد من صالح الحكام والمحكومين معا البقاء في هذه الحالات الكسيحة والاستسلام لهذه الورطة التاريخية من خلال العجز عن الأداء .. وهناك من يؤكد بأن قطار الإصلاحات قد فات ، ولم تعد باستطاعة مجتمعاتنا الالتحاق بركب العصر ! ونقول بأن الصالح لهؤلاء وأولئك يكمن في المبادرة ليس بإصلاح البيت من الداخل حسب ، بل الشروع بالتغيير الجذري وبمشروعات وطنية ، وأيدي الأبناء وفكر العقلاء ، وبوسائل سلمية والعمل بمقترحات وخبرات .. وتكون محاولة جادة لوضع إجابات صعبة للأسئلة الأصعب . وبالرغم من أهمية وجدية أسس الإصلاح وركائز التغيير، إلا أن ثمرتها لا يمكن التمتع بها من دون أن يفّعلها أصحابها ، وخصوصا الزعماء كونها تبقى مرتهنة بجدية تنفيذها ومدى استجابة الحكومات لما جاء فيها من " مضامين " على بداية الطريق ، ناهيكم عن الاستفادة من تجارب بعضنا البعض فهناك نماذج عربية حقيقية للتغيير الحضاري.
لقد انقسم الناس حول دور الحكومات بين فريقين : فريق متشائم يرى أن لا بصيص أمل في أن تبادر الحكومات إلى التنفيذ، وهي حتى لو استجابت فستكون استجابة شكلية ومراوغة ولف ودوران من اجل أن تنجو من ضغوطات الخارج والداخل على السواء ! وهناك فريق آخر متفائل يتأمل بالحكومات العمل على تفعيل هذه المبادئ خصوصا وأنها قد أصبحت في ظل المناخ الدولي أكثر رشدا ووعيا كما وبدت أكثر استعدادا لتجرع الدواء المر وقبول التحدي الصعب ، ولكنني متشائم جدا من أي تطبيقات حقيقية تلتزمها الأنظمة السياسية التي تعيش ترهلا وبؤسا وأمراضا كسيحة لا تقوى على أن تتنفس هواء جديدا .. فهل ستتحرك مجتمعاتنا سلما من اجل مستقبل أجيالها ؟؟ وهنا ينبغي الإشادة بتلك النخب المستنيرة التي تتطلع إلى مستقبل من نوع جديد بعيدا عن كل المفبركات والشعارات والإعلاميات البليدة ومجرد البيانات السياسية التي لا نفع منها أبدا .. فهل يمكن لمثل هذا " المشروع " أن ينطلق عربيا أم أن الإخفاق سيكون نصيبه أو بالأحرى سيغمره النسيان والإهمال كالعادة في غمرة أمواج الجهالة والخديعة ؟؟ هذا ما ستكشفه الأيام في قابل !
نشرت في جريدة البيان الإماراتية ، 2 سبتمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com