Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

قوة الضعفاء

فى مقال نشرته قبل حوالى عشر سنوات فى مجلة ( كولان العربى ) التى كانت تصدر فى أربيل ، قلت فيه حرفيا ما يلى " يعتقد المناهضون لنمط العولمة الحالي , إن الفعاليات الجماهيرية (التظاهرات والمسيرات الحاشدة والمطالبات المستمرة والملحة ) يمكنها إجبارالخصوم على التراجع . ويلجأ المناهضون للعولمة الى تنظيم نظاهرات احتجاجية صاخبة( بمشاركة مئات الألوف من الشبيبة من شتى انحاء العالم)، فى اى مكان يعقد فيه اجتماع القمة لدول الأتحاد الأوروبى او الدول الصناعية المتقدمة.. ويحدث احيانا ان تخرج مطاهرات احتجاجية كبرى فى عدة عواصم فى ان واحد..... ومما يثير الدهشة حقا , المستوى التنظيمي الرفيع لمناهضي العولمة : عشرات الألوف من الشباب من شتى بقاع العالم يتحركون نحو نقطة محددة وكأن عصا" سحرية تحركهم وتوجههم , حيث أن تظاهراتهم تتسم بحسن التنسيق والتنظيم وربما يكمن السر في ذلك ،أن مناهضي العولمة يستخدمون – وياللمفارقة – أحد أهم انجازات العولمة ونعني بذلك الشبكة الدولية للمعلومات ( الأنترنيت ) في إتصالاتهم ."



كتبت هذه الكلمات فى وقت لم تكن خدمة ( الأنترنيت ) قد أنتشرت على نطاق واسع فى الدول العربية ، بل كانت تقتصر على جمهور محدود للغاية . و لكن أستخدام ( الأنترنيت ) أخذ ينمو و ينتشر بوتائر متسارعة ليس فى الدول المتقدمة فقط ، بل فى الدول النامية أيضا . و قد رأينا كيف ان شبكة ( الأنترنيت ) لعبت دورا رئيسيا فى الأنتفاضات الشعبية فى العديد من بلدان العالم مثل مولدافيا و أوكرانيا و جورجيا و أيران و تونس و مصر و ليبيا .

و لكن أليس من المبالغة القول بأن شبكة الأنترنيت وراء هذه الثورات ؟ و اذا كان الأمر كذلك ، كيف نفسر بقاء أحتجاجات المعارضة فى دول كثيرة ( تستخدم الشبكة العنكبوتية على نطاق أوسع بكثير من العالم العربى مثل روسيا والصين ) محصورة داخل الشبكة العنكبوتية و لا تنعكس خارج الشبكة على الرأى العام أو الشارع ؟

عندما لجأ الشهيد محمد البو عزيزى الى حرق نفسه ، سرعان ما انتشر هذا الخبر بين مستخدمى الأنترنيت فى تونس. عن طريق مواقع التواصل الأجتماعى و كان له وقع الصدمة على جيل الشباب . ثم تحولت الصدمة الى غضب عارم و دعوة للأحتجاج فى الشارع . و لم تمض سوى ساعات قليلة حتى غصت الشوارع بعشرات الألوف من المحتجين الذين أنضمت اليهم جموع غفيرة من التوانسة من مختلف الشرائح الأجتماعية و الأعمار .



و كان لمواقع التواصل الأجتماعى ( فيسبوك و تويتر و يوتيوب ) دورا بالغ الأهمية فى ثورة 25 يناير فى مصر ضد النظام البوليسى . و لم تدرك السلطات المصرية لمدة طويلة أبعاد هذا الدور الجديد العظيم لتكنولوجيا المعلومات حتى ان جمال مبارك سخر من احد الشبان المصريين فى اجتماع عام ، عندما سأله الشاب عن رأيه فى موقع الفيسبوك و مواقع التواصل الأجتماعى الأخرى ، و لم يكلف جمال نفسه عناء الرد ، بل غرق قى ضحكة طويلة ، ثم طلب من أحد أصدقائه الرد على السؤال . و لم يكتشف نظام مبارك أهمية الأنترنيت عموما و مواقع التواصل الأجتماعى خصوصا فى تبادل و توحيد الآراء و حشد الجماهير للتصدى لنظامه البوليسى الفاسد الا فى ذروة ثورة 25 يناير التى أجتاحت مصر من أقصاها الى أقصاها , فقطع خدمة الأنترنيت لعدة أيام و لكنه أضطر الى اعادتها تحت الضغط الأميركى ، حيث نددت هيلارى كلينتون بقطع خدمة الأنترنيت و طالبت بأعادتها على الفور .



ثمة من يطلق على الثورات الشعبية العارمة فى البلدان العربية اسم ( ثورة الفيسبوك ) و ( ثورة التويتر ) نظرا للدور المشهود لهذين الموقعين الألكترونيين فى تسهيل التواصل و التنسيق بين زوارهما ، و يقول البعض أنه لولا الأنترنيت لما حصلت تلك الثورات !! و هذا قول مبالغ فيه كثيرا , و الحقيقة أن الأنترنيت أداة فعالة فى تحريك الجماهير الغاضبة و لجوء الأنظمة الشمولية فى أيران و تونس و مصر الى قطع الأنترنيت ئؤكد الدور الفعال لهذه الأداة الثورية حقا و لكن ليس بالأنترنيت الثورى و حده تندلع الثورات .



ان الظروف و العوامل الموضوعية لأندلاع الأحتجاجات الشعبية فى تونس و مصر بالأمس و فى اليمن و ليبيا و البحرين و عمان و غيرها من الدول العربية اليوم قد نشأت و نضجت قبل الأستخدام الواسع للأنترنيت و ظهور مواقع التواصل الأجتماعى .

و نعتقد ان حشد مئات الألوف من المحتجين فى الشارع يتطلب نضوج البيئة الأحتجاجية وان تكنولوجيا المعلومات و حدها لا تكفى لأزاحة الطغاة عن السلطة و أسقاط الأنظمة الشمولية , و لن تكون هذه التكنولوجيا من دون البيئة الحاضنة للأحتجاجات ، سوى منفذا للتعبير عن الرأى و التنفيس عن الهموم .



وعندما تتعمق و تنضج الأستياء الشعبى و يصل سخط الناس على النظام القائم الى درجة الغليان ( بسبب قيام السلطة بتزوير الأنتخابات و أنتهاك حقوق الأنسان و فرض قيود على الحريات و أستشراء الفساد السياسى و الأدارى و المالى و تفاقم مشاكل الفقر و البطالة و البيروقراطية و تردى الخدمات العامة ) ، تتحول شبكة الأنترنيت الى أداة ثورية فعالة للتنظيم عبر تبادل و تقريب الآراء و حشد التأييد لفكرة الأحتجاج العلنى و كسر حاجز الخوف و تحديد مواعيد التحرك الجماهيرى و مكانه، أقول عند ذلك فقط تتحول شبكة الأنترنيب الى قوة تنظيمية تمارس تأثيرا سياسيا هائلا تعصف بالأنظمة الشمولية الفاسدة .



منذ أكثر من ألف عام و الشعوب العربية تئن تحت سياط حكام جائرين أذاقوا شعوبهم الذل و الهوان و سرقوا لقمة الخبز من الجياع . و لكن الزمن تغير و نحن نعيش اليوم عصرا جديدا ، اصبحت فيه ( المعلومة ) متاحة للجميع بعد أن احتكرها الحكام الطغاة طويلا ، و نشأ لأول مرة فى التأريخ البشرى مجتمع أنسانى يتقاسم فيه البشر السراء و الضراء الى حد كبير و لم يعد بوسع حاكم جائر ان يحجب الحقيقة ، فشمس الحرية و الديمقراطية تسطع فى كل مكان من عالمنا ( الصغير ) و لم يعد بوسع طاغية ، مهما أمتلك من أدوات البطش و القمع و و سائل التضليل و الخداع أن يخفى جرائمه بحق شعبه عن العالم الخارجى أو ان يستمر فى الحكم . و بفضل التكنولوجيا الثورية الجديدة أمتلك المضطهدون و المسحوقون قوة خارقة . أنها ( قوة الضعفا ء ) التى لا تقهر.

جودت هوشيار
Opinions