Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

قيادةٌ إداريّة أمْ زعامةٌ سياسيّة ؟

في خضم متغيرات العالم التي نشهدها اليوم في بدايات القرن الواحد والعشرين ، وتآكل المفاهيم القديمة التي عاشت في القرنين الماضيين ، إذ رحل الأباطرة والقياصرة القدماء أولا ، ثمّ رحل زعماء الأمم ثانيا .. تبدو ظاهرة الزعامة اليوم في مأزق حقيقي . وخصوصا في دولنا ومجتمعاتنا . فلا الزعامة القومية قد نجحت ، ولا الزعامة الدينية قد انتصرت .. وباتت مجتمعاتنا في انتظار قادة جدد يديرون دولهم على الأرض ، ولا يتزعمون شعوبهم من السماء ! وبالرغم من وجود بقايا زعماء الماضي في الحكم ، فان قادة عربا من شباب جدد ، يبدون أكثر نضجا من هذه الناحية ، مقارنة بمن مضى من الزعماء الذين اختلفت صفحاتهم من واحد إلى آخر ، فلقد عشنا تجربة زعيم وحد بلاده وطّور دولته ، ووجدنا المستبد غير العادل ، وشهدنا الدكتاتور الظالم ، ومررنا بالملك الرحيم ، وسمعنا بالزعيم الأوحد ، وصعقنا الرئيس الفذ والرئيس الضرورة .. وأدهشتنا أسطورة البطل القومي ورائد الأمة ، أو الحاكم السوبرمان الخ وسواء كانوا ملوكا ، أم رؤساء جمهوريات ، فان زعاماتهم لم تعد اليوم تفعل فعلها عند أجيال جديدة تراقب ما يجري في أصقاع دول هذا العالم ..

إن دولنا العربية، أو تلك المنتشرة في العالم الإسلامي ، بحاجة ماسة إلى قادة جدد ، وشباب يدرك معنى إدارة الدولة ، ويعرف تماما كيف يمكن بناء العلاقة الطبيعية بين الدولة التي يقوم على إدارتها ، وبين المجتمع الذي يقوم على خدمته .. إن ثمة تجربة عربية ناجحة في تقديم أمثلة حقيقية لتطور مفهوم القيادة السياسية والاجتماعية معا ، عندما يجد الزعماء الشباب الجدد أنفسهم منساقين إلى تجسير الفجوة بينهم وبين كافة نخب المجتمع ، بعيدا عن كل الأخطاء التي ارتكبها زعماء الأمس . وخصوصا أولئك الذين وجدوا ملاذهم في السلطة ، فجعلوها اكبر من الدولة ومؤسساتها ، بل وجعلوها أيضا مخيفة بالنسبة للمجتمع والناس كلهم .. وما دامت الدولة هي مجموعة مؤسسات ، فإنها بالضرورة ستكون بحاجة إلى إدارة متطورة ، والى إداريين فنانين في عملية جعل تلك المؤسسات في خدمة الشعب .

إن أزمة السلطة لم تزل موجودة في عالمنا ، وان من أسوأ ما يمكن سماعه اليوم ، هو مقترحات عفا عليها الزمن ، يقدمهّا أناس عاشوا في أزمنة مضت .. أو مشروعات يبتدعها مسؤولون ما زالوا يتخيلون أوهام الماضي حقائق ، سواء قد تمّثل ذلك بزعيم خالد ، أو رئيس مقدّس ، أو ولي فقيه .. الخ ! إن إدارة الدولة ، لا تشترط صفة محددة ، أو لقبا معينا لهذا الذي يحكم أم ذاك ، بل تشترط أن يكون واحدا من أبناء زمن جديد ، وان ينافس غيره من خلال الكفاءة والجدارة ، وان يحمل ثقافة هذا العصر .. ليس ثمة مانع أن يكون ملكا أو رئيسا .. مدنيا أو عسكريا .. ولكن شريطة أن يثبت اضطلاعه في صنع القرار ، سواء كان استراتيجيا أم تكتيكيا ، وتميّزه عن غيره في فهم مستلزمات قيادة دولته ومجتمعه معا ، ناهيكم عن مؤهلاته الثقافية والعلمية والفنية واللغوية .. الخ وعليه ، أن لا يؤمن بالفردية بل بالعمل الجماعي والاستشارة الفعلية ، وتقديم الأهم على المهم .

إن من أهم مستلزمات تغيير معنى القيادة في عالمنا ، والسياسية في مقدمتها ، مزاوجة الواقع بالنظريات العلمية ، والاستفادة من خبرات الماضي الصعب . ومن أهم ما يمكن فعله ، كي تنال دولنا تنال احترام العالم ، هو جعل السلطة متداولة سلميا ، وان تمنح الدساتير حق المشروعية القانونية لإدارة التغيير .. فلا يمكن أن يجد الزعيم الشاب نفسه في سلطة ، من دون أن يمنحه الدستور صلاحيات لإجراء التغييرات المتنوعة ، على ضوء ما يتطلبه واقع كل بلد من البلدان . انه مهما قيل وكتب ونشر عما يسمّى بـ " المستبد العادل " ، فستبقى المسألة تقوّض أسس الحكم المدني الذي من المفترض أن تمّثل القيادة فيه إرادة المجتمع وخياراته المسؤولة .. أو في تجديد الولاء للقيادة الذكية الناضجة التي تحقق مستويات عليا من التقدم .

ثّمة زعماء عرب شباب في دولة أو دولتين عربيتين معروفتين ، قد تخطّوا حاجز الزعامة السياسية ، ليكونوا قادة إداريين من طراز ممتاز .. ونقلوا مهامهم السلطوية لخدمة المجتمع . فهل سيتعلم بقية الزعماء العرب شيئا من هذه التجربة ؟ وهل ستتحول السلطات والزعامات في دولنا العربية والإقليمية ، على اقل تقدير ، من حالاتها القديمة إلى حالات جديدة ؟ وهل ستتطور كياناتنا السياسية إلى مؤسسات حقيقية ، تسود الكفاءة فيها ، وتجدد عناصرها البيروقراطية من حين لآخر، وتنجز كل أعمالها بسرعة وكفاءة أفضل ؟ هل ستبدأ دولنا تاريخا جديدا بعد أن تتخلص من كل مواريثها القديمة التي تأسست عليها منذ بدايات القرن العشرين ؟ إن الشعارات الجديدة لا تنفع ، والتهريج باسم الحريات والديمقراطيات لا ينفع ، بقدر ما ينفع تبديل الذهنيات ، وزرع أسس وقوانين جديدة ، وإصلاح كل المهترءات المألوفة !

وأخيرا ، إن سألني احدهم عن مستلزمات أساسية أخرى في تطوير مفهوم السلطة في عالمنا ، فسأطلب من أي قادة عرب شباب أن لا تتمركز السلطة في أيديهم فقط .. وان لا يتحّملوا أعباء المسؤولية السياسية وحدهم ، وان يكون أي قائد ، واحدا من أبناء شعبه ، يشاركه همومه ومصاعبه ويعمل على حل مشكلاته .. وان يؤمن بالتداول السلمي للسلطة ، ويكرّس النظام المدني في بلاده ، بعيدا عن أي مؤثرات غير دستورية وغير مدنية .. وان ينتقل بالسلطة من رهاناتها في الزعامة السياسية إلى مستلزماتها في القيادة الإدارية ، وعند ذاك ، سنرى حجم التغيير نحو الأفضل ، الذي سيصيب حياتنا في كل دولنا ومجتمعاتنا .



نشرت في جريدة البيان الاماراتية ، 19 مايو / آيار 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com
Opinions