Skip to main content
قيمُ الخطّ واللون والانفعال: في رسومات التشكيلي خالد ستار Facebook Twitter YouTube Telegram

قيمُ الخطّ واللون والانفعال: في رسومات التشكيلي خالد ستار

شبكة اخبار نركال/ ايلاف/

اللونُ وطنٌ آخرُ مُثار تجوال الفن والفنان، صاعقة ٌ تزلّزلُ كيان اللوحة والرائي والرسّام. تجيءُ تموجانُه زرافات وأسراباً. هو يسبقُ المبادرة ويتماهى مع الخط صدقاً لا مجاملة ً. كلّ لوحة مشروعٌ بداهة وتصميم، تسهم في انجازها خبراتٌ كانت قيد التخطيط والقراءة الاولى. وربّما هميت برفقة مزن الحلم. والحلم مكوّنُ أيّ مشروع ابداعي. هو البدءُ والشرارة. خالد ستار رسامٌ حالم، يحلمُ يقظان، وهو في اتون العمل الوظيفي، وحلمه يعبقُ بالابتكار ولا يعيقُ واجبه. لكنه يختزنُ ابعاضه، أو ما يسعف تذكّره عليه. واجملُ الفن / بكلّ اجنحته / ما يتمرأى للمبدع في ضحى اليقظة، او في سرابيل النوم. وتتجمّعُ كينونة ُالفن من شظايا متناهية البعد، تضفرها الذاكرة وتمنحها حياة ً / خطوطاً وألواناً وافعالاً / وحين يكون الفنانُ جارياً خللَ سوانحه تحمله مخيّلتُه الى سّدم مجهولة / مأهولة برؤى غيبية عجائبية / يلتقط منها ما تتقوّت عليه الألوانُ والخطوط. يعني ذلك أنّه سيبدأ من مكان زمانه الأول. يمرّ بالوجوه والحارات والحالات الانسانية ثمّ يرسمها وفق منهج واقعية عيانية، وينبغي له أن يُغادر مثواه بحثاً عن بدايات اخرى. الحلمُ، اذن، يمنحه طاقات ٍمُضاعفة ومجانية لخوض تجارب جديدة. جدةُ الحداثة سكنٌ موقّت للابداع، وليست مثوى ابديّاً ليُقيم فيه. ثمة َ يلتقطُ ما ينسجمُ مع مزاجه وطموحه، ويمنح لوحاته عمقَ الدهشة والفرادة. آناً يُجاورُ الواقع، وأواناً اخرى يتجاوزه كثيراً، بل يغتربُ عنه ويختلفُ. ثمّ... الفنُ تنوّعٌ، يعني استشرافَ الأبعد والأعمق والأدهش من قيم الجمال.هنا الذاتُ الواعية مهمّشة ٌ مسترخية، والمجازفة هي النسغُ والضرع يستمدُ منهما زاده الابداعي. والذاتُ / كالحلم / لا تستقرُّ على نمطية ساكنة، بل تنتقلُ من مشهد الى سواه، والمشاهدُ تتالى وتتشعبُ لا يُشبهُ بعضها غيرها. لهذا تكون مصدرَ الهام وابداع. وهي في نظري عينٌ ثالثة ٌ ثاقبة تلتقطُ من الحياة قُوتَها اليومي. لذلك تتعرّضُ الى هزّاتٍ شعورية / حزن وفرح، تفاؤل وتشاؤم، قبول ورفض، هدوء وثورة، صراخ وصمت / هذه التموجات تمتحُ غناها من سيرورة الحياة، وهي التي تصنعُ الابداع... من طينها وعجينها، من ترابها وغبارها، من مدّها وجزرها تجيءُ اللوحة وكائناتُها المنظورة والمقروءة. لقد تمرأيتُ بنفسي هذه الانتقالات الذاتية والشعورية لدى خالد ستار، وبانت في لوحاته مرحلة ً فمرحلة. لقد ملّت ريشته تجسيدَ تفاصيل الواقع بكلّ خلائقها الحيّة والشاخصة، ولا بدّ له من خوض مجاهل اخرى، فجالَ في افضية الأمكنة، خللَ الجدران والحارات واسطح المنازل فتناولها حدّ التخمة والاستهلاك. ثمّ غادرها، الى أين؟ الى التجريد والرمز والكتلة العدمية، فجرّدها من خوائها وتسطحها لتكون خلقاً آخر، فمَن ظلّ في فلك رؤاه المنغلقة اختنقَ، بل انتهى وهو حيٌّ. وان ابدع فكرّر واعاد ما صنع قبلاً. ولا جديد يمنحه موقع ابداع مستثنى. وميزةُ خالد / كأيّ فنّان حداثي مُثابر، لا يمكثُ على حال ولا يستقرُّ في مآلٍ، بل غدا جوّاب آفاق، جوّالاً في تخوم الأقاصي. ففي ذاته مجاهلُ لم تُكتشفْ بعدُ، والذاتُ / ذاتُه / لا بدّ أن تتقوّتَ لتغتني، لذلك تنالُ حصتها من ديمومة الحياة ومراحلها العمرية والتجربية. فيلجأ الفنُّ الى اختراق قشرتها المرئية الى ما وراءها اللامرئي العميق، يسحبُ منه ما يملأ به مائدته.لذلك تتنوّعُ مرئياتُه التي تخصُّ الرسّامَ وحدَه، ولا يُشبهُ اولُه تاليه، وليست له نهاية ٌ ابداً.افقٌ مفتوحٌ على الجدّة التي تتماهى في رسوماته. يتسيّدُ فيها الخط اللامرئي / لنقل الوعاء / مع اللون المتشظي طبقات والذي يراوح بين جميع الالوان، لكن الأزرق يكاد يتفوّقُ على سواه. وكلّ لون يلد من جنسه غيره بين باهت وغامق وشفيف ومتموّج، يتشرذمُ متجاوراً أو متباعداً. وقوامُها الضابط خطوطٌ ٌهي مداراتٌ ومنارات تتورّمُ بالدهشة. فيلج بنا خالدٌ حجراته المرئية واللامرئية برفقة خزين الوان ذي قرابة ونسب.يمنحُها خصوبة حلمية تزهرُ فيها مهارتُه. واللونُ وتكريسه طبقة ً فطبقة فنٌّ آخرُ وموهبة ٌ لا تتأتى لأيّ كان، سوى مَنْ تمترسَ بفوضى التجربة والممارسة.لذلك يستغرقُ رائي لوحات خالد وقتاً لهضم ثيماتها وتعرّف كائناتها. وقد تندرجُ تحت فهم بصري سديم. في لوحاته الأخيرة تتمظهرُ حركية ُ النبض بين حيوات تتعايشَ بحميمية : افضية مفتوحة أو منكمشة تطلّ عبرها وجوهٌ مغبرة ومضببة ممّا يحيطُ بنا لكنْ تفتقرُ الى الوضوح كما لو البسها اقنعة او رمى عليها اغطية. وقد يكون مردُ ذلك قصداً من لدنه كي لا تسفّ الى مستوى العادي المستهلك. هنا يكمنُ سرُّ تفوّق اللوحة، انجازاً وابداعاً، أمّا اللونُ الأسود فحظّه ضيلٌ في رسوماته، ما عدا استثناءات شحيحة. وربّما يُذكّره بظلمة الليل وكوايسه البغيضة. وخطّ خالد بالرصاص أو الفحم او الحبر لا يُضاهيه خط ٌّ حين يرسم حركات الجسد والأعضاء، وحتى المشاعر، ولا احد يبلغُ شأوه في نظري. لكنّ لوحاته في المرحلة الوسطية لا تحظى بذلك الاستثناء.فتجيء هلامية مسترخية متذبذبة. وليس هذا بدواعي الضعف بل لاعتبارات فنيّة.وكأني به يدعونا الى الاعتقاد أنّ زمنَ الواقعية الخالص قد ولّى كما الحال مع اجنحة الأدب ولا سيّما القصة والقصيدة. فحلّ زمنٌ حداثي تبلور في حقل الابداع برمته. وكلُّ لوحة من رسومات خال ستار حكاية ٌ، يرويها بواقعية الخطّ واللون، تنطوي على بداية ونهاية وحدث وحوار تكادُ العينُ تسمعُه. فثمة صراخٌ ونغم وكلام هاديء وحركة. لقد بات في رسوماته قصّاصاً يحكي قصصه بلغة الرسم فيها جريانُ الزمن وتحولاتُه مجرّدات ومجسمات. وأراني أراه يحرّكُ سيرورة حكاياته. فهذه الظاهرة لم تعد يقتصر على رسومات خالد ستار وحدَها، بل باتت حالة جدلية تغشى اجنحة الفن جميعاً / من القصيدة حتى الموسيقى / مروراً بالرسم والنحت والمسرح والقصة... خالد ستار في لوحاته الأخيرة يتقدّمُ بخطوات واثقة تجاه افق مستقبلي حداثي لا يتصادم مع ماضيه، بل هو سائقها الى فسح ضوئية يُقيمُ فيها آناً قصيراً ويرحل الى ما بعده.. الى المجهول اللامأهول فيرتاده ليكون أنيساً تعتادُه واعيةُ الناس. خالدٌ مُبدعٌ لا يعرفُ التعب / برغم متطلبات الحياة الصعبة / ولن يتوقف عن البحث والمجازفة وغشيان المجهول.     عشُّ اليمامة  قصّة قصيرة   مستطيلٌ على الجدار، لا هو لوحة ولا نافذة، بل كينونة موضوعة امام العين. يراها الغادون والآيبون. بعضُهم لايكترثُ بالفن كقيمة جمالية، ولا يعنيه ما يتمرأى للنظر.والبعضُ الآخرُ يقفُ هُنيهة ً متطلعاً الى الفضاء الغرائبي، لكني اختلف عنهم، فأنا كلفٌ بالفن اغشى صالاته كلما اتيحت لي الفرصة. هذا الفضاء استوقفني بشدّة، كونه منطوياً على مستطيل ازرق في اعلاه، وتحته مثلُه اسودُ باهتٌ، ثمّ جرمٌ غريب،لا هو ضريحٌ ولا جدارٌ، بل كتلة ٌ من مرتفعين ومنخفضين.وتضطلعُ يمامة ٌ بيضاء بالجثوم على المنخفض الأيسر، لا هي نائمة ولا هي صاحية، وقد تكون ثاوية ًعلى بيضها. لكنّها على كلّ حال مستغرقة ٌ مثل البشرفي التأمل. تُرى اتستغرقُ اليمام في التفكير مثلنا؟ تفكّرُ في ما مضي وما سيأتي. وخللَ الكتلة التي تعلوها اليمامة ُ كائنات سوداء وخضراء باهتة هلعة تمضي ابعاضُها يساراً واخرى يميناً. وربّما كانت تخوض مياهاً. وفوقها سماء شاحبة بيضاء شفيفة.لم تزلِ اليمامة ُ جاثية تجترّ تأملاتها.تُرى ألها أفكارٌ مثلنا؟ سألتُ نفسي بغباء عشوائي. وتحت ذا المشهد / اليمامة والكتلة المتورمة بمخلوقاتها الفوضوية / شريطٌ ُ نار، فهل سيسببُ ضرراً؟ يُحرق تلك المخلوقات أو يُجبرُها على الفرار. ذلك يشملُ اليمامة الوادعة المسترخية عبر تأملاتها الحلمية. لكنْ، اذا كانت جاثمة على بيضها فهل بوسعها عند اندلاع الحريق ان تنقلها الى مكان آمن؟ سؤالٌ يجرحُ فضاء المشهد.وحين اجلتُ بصري في كل الاتجاهات تمرأى لي على الميسرة كائنان ازرقان متماهيان : احدُهما واقف والآخرُ منحن ٍ. وقد يكونان مضرمي النار التي تصعدُ من خلال فرن اشبه بصحن كبير، على حاشيته العلوية ثلاثَة عشر ثقباً اصفر تبدو مثل عيون وامضة. وثمة ظلمة من تحت وسماءٌ من فوق.اليمامة لمّا تزلْ ساجية متماهية في حلمها السديمي.تنسى أو تتناسى الخطر المشتعل تحتها.لن تتخلَ عن بيضها حتى لو احترقت، وأيّ معنى للحياة من دون افراخها الا ُلى ستفتحُ اعينها بعد ايام أو اسابيع. لكنْ أنّى للنار أن تهدأ ولا تُحرق َ؟ إبانئذ ٍ كانوا يمرّون الى جواري وأنا ارنو الى هذا المشهد الغرائبي من ابتكار ريشة خالد ستار. يمرّون بلامبالاة، وقد يظنّونني جرماً ملحقاً بهذا المشهد. لكنّ الأغرب أنّ اليمامة لم يفزعْها مكوثي الطويل جوارها، وبحلقتي فيها. وما دمتُ لا اضمرُ خطراً عليها فلا بأس أن أكون الى جوارها. وقد أكون منقذها حين تنتشرُ النار وتأكل ما حولها وماعليها، امدّ يدي احملها وبيضَها، واجدُ لها عشّاً آخر جوارعُشّيْ اليمامتين في شرفة غرفة نوم صديقي فاضل الجاف المُطلة على فضاء اخضر، تلك الشرفة في الطبقة التاسعة من المبنى لا يفتحها ابداً خشية ان تهجرها اليمام الثاوية في حضن أمانها. وقبل أنْ اترك مكاني مرّت امرأةٌ بصحبة ابنها الصغير فاستوقف امّه : / ماما اليس جميلاً هذا المرأى / أجل، انّه احتجاج على مُضرمي الحروب وقتل الأبرياء / ماما، وأين القنابلُ والمدافع؟ / هذا فنٌّ، فيه رمزٌ وايحاء، انظر الى اليسار، كلا الرجلين يُزوّد الفرن بالحطب، وما فوق شريط النار هو عالمنا، الا ترى الناس هلعين خائفين لا يدرون الى أين يذهبون، الارض برمتها مهددة / والحمامة؟ سأل الطفلُ/ هي ايضاً تحتجُّ بطريقتها الخاصة، انها أجمل رمز للسلام / سحب الطفلُ يدَ امّه ومضيا، تركاني في حيرة : / ما اغباني، لمَ لمْ يخطرْ ببالي ما خطر ببالها؟ لكني لم اخطيء، انا حوّلتُ المشهد الى قصة، والمرأة ُ فسّرتها جدليّاً بلغة بسيطة يفهما الطفل الصغير.

Opinions