قيمة العمل بين الثبات والتعويم
لطيف القصاب/لاشيء يرتقي بمكانة الإنسان مثل العمل ولاشيء يهوي به إلى الدرك الأسفل مثل البطالة، هذه الفرضية ليست محسومة في المجتمعات الاستهلاكية بخلاف المجتمعات التي تنتج ما يفيض عن حاجاتها وتصدره للآخرين بأثمان باهظة.
إن العمل في المجتمعات التي تمتلك وسائل الإنتاج وتلك التي تسعى للحصول عليها يمثل قيمة إنسانية لا تعلو عليها قيمة أخرى، بينما تجد أن قيمة العمل في مجتمعاتنا مندسة في سياق جملة من الاعتبارات المزيفة الخاضعة غالبا لمبدأ (التعويم الديني سياسي)، هذا التعويم الذي ينحدر بقيمة العمل أحيانا إلى قاع الحضيض المعنوي فتغدو لفظة العمل حينئذ مرادفة لنقيضتها البطالة.
ففي ميدان التنافس الاجتماعي بين قيمة وأخرى ليس مضمونا لقيمة العمل الفعلية في المجتمعات الراكدة أن تظفر بالفوز على قيم اجتماعية مفتعلة أو اقل منها شأنا واهبط منها منزلة، فعندنا أن تحصل على فرصة عمل لا يعني في غالب الأحيان أكثر من أن تحصل على أجر، وقديما قال الشاعر معروف الرصافي واصفا بعض سياسي زمانه:
وليس له من أمره غير أنه يعــدد أيامـا ويقبض راتبـا
إن الأسئلة التي تخوض في نوع العمل وجدواه وطبيعة الإنتاج الذي يفضي إليه العمل، والمردود الاقتصادي المتحقق منه، ومدى مساهمة هذا اللون من العمل أو ذاك في نهضة الشعوب ورقيها وتقدمها، وما هي البطالة المقنعة وما اثر تعطيل الأعمال على مجمل حياة الفرد والمجتمع، إن هذه الأسئلة ومثيلاتها تعد أسئلة غير واقعية وترفا فكريا نادرا ما يلتفت إليه احد من طلاب فرص العمل لدينا، انه أمر مفهوم في واقعنا الذي يحيا سواده الأعظم تحت خطوط الفقر والجهل وتعيش بعض نخبه الدينية والسياسية قطيعة مع واقعها وما يفرزه من معطيات وما يمليه من نتائج مستقبلية لكنه يظل في الوقت ذاته أمرا مؤسفا جدا.
قبل أيام تناولت وكالات الأنباء خبرا مفاده تسلم 325 برلمانيا عراقيا رواتبهم وبدلات إيجارهم بأثر رجعي. هذا الخبر تناولته بعض الأقلام المستقلة مخلوطا بغير قليل من الاستغراب والاستهجان، وصيّره بعضهم كمنصات لإطلاق رسائل سياسية متعددة الاتجاهات والأغراض، وانبرى فريق آخر بالدفاع عن البرلمانيين والهجوم على خصومهم وهم في مجملهم أما فاشلون سياسيون أو مرضى يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله...
ليس الكتاب الحاذقون من انتبه لهذه المفارقة المضحكة بل إن عددا كبيرا من عامة الناس انتابته علامات الأسى حالما استقبل الخبر بكرا ومجردا من أي رأي سياسي مغرض، ذلك أن حقيقة هدر كميات هائلة من المال العام مقابل أتعاب لنواب لا تكاد تذكر على صعيد أداء مهامهم في التشريع والرقابة والإشراف وفرز الحكومة، تستدعي الأسى والأسف إلى النفس البشرية لاسيما المحرومة منها والتي لا دخل لها في السياسة وترى في قوله تعالى "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ" تفسيرا يتجاوز ما ذهبت إليه بعض الآراء الحزبية المنافقة.
غير أن عدد الجماهير العراقية التي استشعرت الحسرة لم يكن من حيث الكم يتناسب مع إجمالي عدد السكان بل عدد المحرومين العراقيين، فضلا عن غياب التنظيم الذي حال دون تحول السخط الجماهيري المكبوت إلى رد فعل شعبي ظاهر للعيان مشابه لما شهدناه مؤخرا من مظاهرات المطالبة بتحسين الخدمة الكهربائية يراها البعض انها حملت بين طياتها أجندات حزبية، إننا لم نشهد بل لا نتوقع أن نشهد مظاهرة عارمة تجوب مدن البلاد وتطالب النواب بإرجاع ما تقاضوه من أموال الشعب بغير استحقاق، إذ إن المزاد السياسي الحالي لا يتيح فرصا سانحة أمام عمل فاعل من هذا القبيل، وبالتالي سيظل رد الفعل الشعبي - حتى حين- إزاء فلسفة (العمل الحق والأجر المستحق ) ابعد ما يكون من المعنى الواقعي للعمل الايجابي المنظم.
إن غياب ردة فعل شعبية منظمة قوية تستنكر تبديد ثروات البلاد بلا طائل عملي نافع مرده إلى أسباب متعددة يتقدمها تدني النظرة العامة إلى العمل بشكل عام والى العمل السياسي بشكل خاص والذي لا يعدو كونه مجرد فرصة لجني الأرباح والمكاسب بصرف النظر عن تقديم الخدمة العامة الواجبة، ولهذا فلا عجب أن يكون القاسم المشترك الأكبر الذي يجمع بين صغار الموظفين المسئولين عن ركام معاملات المواطنين المتأخرة وبين أعلى هرم السلطة والنفوذ في العراق هو ذلك التزاحم على أبواب المحاسبين في مواعيد صرف الرواتب والمستحقات المالية، هذا التزاحم المبارك غالبا ما يبر بتفسيرات دينية مسيسة.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net