Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

كل التفاح في سلة واحدة

20 نيسان 2011
عندما تتجمع معظم المنافع في خيار معين من الخيارات التي تواجه شعباً ما، أو عندما يتفق الشعب بغالبيته على حكومة معينة، يكون الأمر سهلاً، فيختار الشعب خياره ذي المنافع، والحكومة التي تفضلها الأغلبية المريحة باعتبارها تمثل مصالح الشعب، وينصرف الشعب بعد ذلك لحصاد تلك المنافع، أو يتمتع بالحكومة التي تمثله خير تمثيل، و "يعيش عيشة سعيدة".

لكن غالباً ما تواجه الشعوب، خيارات صعبة، تكون المحاسن والمساوئ موزعة بشكل متوازن بين الخيارات التي يتوجب عليها أختيار أحدها. يضطر الشعب في نهاية الأمر إلى قرار قاس ومؤلم يخسر فيه الكثير من الأمور العزيزة على قلبه، مقابل حصوله على ما هو أكثر اساسية وأهمية في تقديره. هذا "الإنقسام" في المنافع بين جهتين متناقضتين لا يمكن جمعهما، كثير الكلفة دائماً، ككل "إنقسام" ولا مفر عادة من دفع الثمن، بعد الكثير من التفكير والتمحيص للخيار بين الخيارين الصعبين.

هذا بالنسبة للأوضاع الطبيعية للبلدان الحرة نسبياً، أما في حالة البلدان التي تقع تحت تأثير قوي لقوة خارجية او محتلة، فأن تلك القوة لا تسمح عادة لهذه الشعوب بالتمتع بـ "خيارات تتجمع فيها المنافع" أو "حكومة تمثل الشعب" فهذا السيناريو يتعارض مع مصالحها. ففي حالة الشعب تحت تأثير القوة الخارجية، إن انقسم على نفسه، فأن تلك القوة ستلقي بثقلها في أحد الجانبين فيتغلب بسهولة على الجانب الآخر، ولا يعود "الإنقسام" ملحوظاً، بل تتكون حكومة تناسب القوة الخارجية.
وفي حالة القرارات السياسية الهامة، إن انقسم الشعب المحتل إلى قسمين متكافئين في رأيه في الخيار المناسب، فأن القوة الإستعمارية تلقي بثقلها أيضاً لترجح الخيار الذي يناسبها، ولا يعود الإنقسام ملحوظاً أيضاً.
إذن متى يحدث "الإنقسام" لدى الشعب المحتل او الواقع تحت تأثير خارجي؟ لننظر إلى انقسام الشعب في بلدين يقعان تحت تأثير أو أحتلال قوة خارجية قوية، هما فلسطين والعراق.

"الإنقسام الفلسطيني" من الإنقسامات المتداولة أكثر من غيرها في الإعلام العربي، ويؤكد الجميع أنه كلف الفلسطينيين الكثير، ورغم ذلك فهو "إنقسام مصطنع" كما بينت في إحدى مقالاتي التي خصصتها للموضوع سابقاً:"أين هو الإنقسام الفلسطيني الفلسطيني؟ (1)
وتبين المقالة أن هذا المفهوم المنتشر بشكل كبير، ليس سوى وهم يناسب من يسيطر على الإعلام والسياسة، فلو قارنا الحقائق لوجدنا "أن الشعب الفلسطيني متحد أكثر بكثير مما هو منقسم، بل ويفوق اتحاده ووحدة رأيه، أغلب شعوب الأرض"، فهذا الشعب ينتخب حكومة واحدة بأغلبية كبيرة وفي جميع المناطق، من غزة إلى الضفة الغربية، وهو أمر لايتحقق لكل الشعوب، ومع ذلك لا يتحدث أحد عن "انقسام الشعب الأمريكي" أو "إنقسام الشعب الإسرائيلي" الذي لم يحقق أي منهما هذا المستوى من الإتفاق في الرأي، بل يتم التركيز على "الإنقسام الفلسطيني". لا تفسير لما يسمى "الإنقسام الفلسطيني" سوى أنه ناتج عن القاء إسرائيل ثقلها في جانب حكومة عباس غير المنتخبة، لكي توازن هذه الحكومة مع ثقل إسرائيل، حكومة حماس المنتخبة من الأغلبية. هذه هي الحال عادة عندما نرى "إنقساماً" في شعب محتل، يمثل توازناً بين حكومة يريدها الشعب وأخرى يريدها الإحتلال.

وفي العراق تتكرر الصورة في "إنقسام" بين حكومة المالكي وحكومة علاوي المفضلة بشكل شديد من قبل الإحتلال الأمريكي، والذي لم تتورع سفارته في ممارسة مختلف الضغوط التي أدت إلى صعود الأخيرة إلى منافسة حكومة المالكي، رغم فشلها في نهاية الأمر في التغلب عليها. ولم تكتف قوات الإحتلال بتوفير المال والدعم الإعلامي الشديد لعلاوي من خلال وسائل الإعلام العراقية والعربية المملوكة أو "الصديقة" لأميركا، بل ومن خلال ضغط مباشر من قبل السفارة الأمريكية على المؤسسات الصانعة للقرار العراقي، السياسية منها والبرلمانية والقضائية لتمكين افراد العراقية من تجاوز القوانين العراقية والمشاركة في الإنتخابات، كما أن هناك مؤشرات قوية جداً بأن السفارة قد شكلت نواة لتزوير الإنتخابات لصالح علاوي، من خلال الهيئة المستقلة العليا للإنتخابات والتي تميزت تصرفاتها بالشبهة والغرابة، ومن ثم حماية ذلك التزوير من خلال ضغوط وعلاقات مع الجانب القضائي العراقي الذي وصل حد أشتراط عدم استخدام المقارنات بعد العد اليدوي لإثبات التزويرات التي حدثت، وذلك بعد أن جاهدت الهيئة المستقلة للإنتخابات أن ترفض إعادة العد يدوياً.
فرغم شعبيته التي صنعها تركيز وسائل الإعلام والمال، لم يتمكن علاوي من الوصول إلى العدد اللازم من المقاعد، كما أن سمعته باعتباره "دكتاتوراً" حتى بين رفاقه، لا يستطيع أن يحتفظ بأية درجة مقبولة من الوحدة بين من يتحد تحت راية حزبه أو كتلته، حرمته من الحصول على الثقة وتكوين أي تحالف لتشكيل الحكومة.
هكذا حدث "الإنقسام" العراقي الشديد الشبه بـ "الإنقسام " الفسلطيني، وهو ليس سوى "خلاف" طبيعي ومتوقع بين الشعب وقوة الإحتلال فيمن يجب أن يحكم هذا الشعب.

إذن السيناريو في الحالتين هو أنه عندما لا يتمكن الإحتلال من فرض الحكومة التي تناسبه، فأنه يسعى لخلق "إنقسام" اصطناعي، يجعل الحكومة الأخرى غير قادرة على العمل على الأقل. فإذا رأيت "إنقساماً" في "شعب محتل فاعلم أن ذلك الشعب غالباً ما يكون متفقاً إلى درجة كبيرة تكفي لموازنة الثقل الذي يلقيه الإحتلال في الجانب المضاد للخيار الشعبي.

ليس الأمر مقتصراً على خيار الشعب لحكومته، بل يشمل الأمر كل الخيارات الأخرى الهامة للشعب، خاصة في القضايا واللحظات المصيرية التي تهم الإحتلال. فهنا أيضاً لا يكون الإنقسام حقيقياً إن وجد، فلو كان كذلك فالإحتلال كفيل بحسم مثل ذلك الإنقسام لصالحه، لذلك إن وجد انقسام فهو يعني اتفاق اغلبية كبيرة من الشعب على خيار لا يناسب الإحتلال.

هذا الإتفاق ليس سهلاً، حيث تتوزع الأفضليات بين الخيارات عادة، ويحتاج الشعب غالباً إلى ضربة حظ كبيرة لكي تكون "كل تفاحاته في سلة واحدة" فلا يتردد ولا يتألم لخسارة عزيزة وتضحية غالية. لكن ما هو "حظ عظيم" للشعب، فهو سوء حظ لمحتليه، لذلك يسعى هؤلاء بكل جهد لتشويش الواقع، لكي لا يرى أصحاب هذا الحظ فرصتهم الذهبية، وذلك من خلال تشويه الواقع وتصويره وكأن هناك توازناً ما في الفوائد والأضرار وانقسامها بين جهتين، ثم يضربون ضربتهم الثانية بترجيح الكفة التي يريدها الإحتلال. هذا لا يعني أن جميع الشعب يتفق على موقف واحد وأن كل من يصوت للموقف الآخر متآمر مع الإحتلال، لكن الجانب الآخر يكون أضعف بكثير في العادة، ويلعب الضغط الإعلامي الخطير والسياسي والإبتزازي دور إعطائه القوة لينافس الخيار الشعبي ذو الأغلبية الواضحة، لذلك يبقى مثل هذا الإنقسام "وهمياً" رغم وجود أقلية من الشعب تؤيده.
ومثلما خلق الإعلام والضغط الأمريكي الإسرائيلي "الإنقسام" الفلسطيني الوهمي بين عباس وحماس، و"الإنقسام" العراقي الوهمي بين علاوي وفريقه البعثي من جهة، والمالكي وجماعاته من الجهة الأخرى، فأن "الإنقسام" الحالي في مناقشة بقاء قوات الإحتلال الأمريكي في العراق ليس سوى وهم إعلامي آخر، يهدد أن يصبح أقوى من الحقيقة التي تقول أن جميع الفوائد في ترحيل هذه القوات، وجميع الأضرار في بقائها، وأن هذا "الحظ النادر" الذي توفر للشعب العراقي في هذه اللحظة الحرجة، يتعرض للضياع.

التفاحات

رغم ان استعادة الكرامة والسيادة وحدها يفترض أن تكفي اي شعب سبباً لطرد أي أجنبي يكون وجوده مهدداً لها، فأن في إخلاء العراق من القوات الأمريكية فوائد مباشرة كبيرة وعديدة، أهمها:

1- تآلف المبدئية والكرامة مع الفائدة المباشرة، وهي حالة نادرة، حيث تفترض الكرامة عادة التضحية بالفوائد، لكنهما هنا يقفان معاً، فليس هناك من حاجة لتقديم أي منهما كتضحية.

2- انسجام موقف الحكومة مع الشعب في الموضوع وما ينتج عن ذلك بالضرورة من تلاحم واقتراب من الديمقراطية والإستقرار، فالشعب كان ضد المعاهدة منذ البداية وهو اليوم أشد في عدائه للتمديد. والمالكي أعلن مراراً أنه يرفض بقاء جندي امريكي واحد بعد عام 2011 وقال الناطق باسم الحكومة أن بقاء الأمريكان يعقد الأمور ويجلب المشاكل.

3- إنسجام موقف الحكومة مع الموقف المعلن على الأقل لجميع الكتل السياسية (عدا الكتلة الكردستانية) في هذا الموضوع، وهو ما يبشر بتداعيات إيجابية على الوضع السياسي العراقي وعودة الإنسجام بي الحكومة وبين الكتل الآخرى مثل التيار الصدري المعارض الأشد للمعاهدة والتمديد، وتوفر فرصة إعادة الصلح واللحمة بينهما وإصلاح ما خربته أيام جيش المهدي من جهة، وأيام "صولة الفرسان" وأعتقالات الصدريين بضغط لا شك فيه من الأمريكان وبتنسيق وتنفيذ من المجلس الأعلى، الذي مازال بامتياز، الممثل الأعلى للجانب الأمريكي من الطيف السياسي الشيعي العراقي. أي أن خروج القوات الأمريكية خطوة عملية كبيرة نحو "الوحدة الوطنية"، تختلف عن تلك الخطوات "الإعلامية" الباهتة.

4- تآلف "صوت العقل" الذي يدعو إلى تجنب العنف وعسكرة البلاد وتكوين التكتلات أو المشاركة فيها، كما عبر عنه تصريح لرئيس الوزراء المالكي، مع صوت الحماسة الوطنية الداعي إلى إزالة سلطة الإحتلال.

5- تآلف أهداف الديمقراطية مع الحرية، فالحرية تريد رحيل الأمريكان كآجانب لا يمكن الإحساس مع وجود أسلحتهم بالحرية، وفي نفس الوقت فأن التخلص من السلطة الأمريكية أو على الأقل تخفيفها من خلال رحيل قواتهم العسكرية يمثل انتصاراً ديمقراطياً كبيراً. فالتاريخ لم يسجل وجود جيش أجنبي في بلد على أنه دعم للديمقراطية، كما أن وجود الأمريكان وسلطتهم في العراق قد برهن عملياً بأنه عمل مضاد للديمقراطية العراقية من خلال تدخل السفارة الأمريكية في الإنتخابات الأخيرة والضغط على المؤسسات الدستورية والقضائية العراقية علانية وبصراحة، مما ادى إلى أن تهدد الحكومة، ولأول مرة منذ احتلال العراق بطرد السفير الأمريكي من العراق. كذلك نتذكر استبدال رئيس الحكومة المنتخب السابق (الجعفري) التي أشرفت عليها كونداليزا رايس بشكل مباشر.

6- إنتفاء الحاجة للميليشيات وعدم توفر أي مبرر لتواجدها، والذي قد تجد في بقاء الإحتلال مبرراً قوياً وشرعياً لعودتها، أما انسحاب الجيش الأمريكي برمته فهو لا يدع مبرراً أو مجالاً لعودتها إلى شوارع العراق حتى لو أراد اصحابها ذلك.

7- رغم تظاهر الأمريكان باهتمامهم بمحاربة الفساد العراقي، إلا أنهم من الناحية العملية يعتبرون الداعم الأكبر للفساد، ويبدو أن الموقف الأول ليس إلا للتغطية على الموقف العملي الثاني. فالفساد الأعظم كان مدعوماً من الإحتلال وقد توفرت براهين قاطعة عليه وعلنية وصلت حد أن يهاجم الجيش الأمريكي الشرطة العراقية بالسلاح لإطلاق سراح وزير مدان بالسرقة، وهي وقاحة وصلف نادرين في دعم الفساد، الذي تقوم به عادة حكومات الإحتلال في السر، وتضطر للتخلي عن مفسديها عندما يتطلب الأمر عملاً مكشوفاً، لكنها وصلت في العراق مراحل نادرة في فضائحيتها.

8- إن خروج القوات الأمريكية، والبرهنة أنه لا توجد عفاريت عربية سوف تهاجم كردستان، خير طريقة للبرهنة على خرافة ذلك المنطق، واستعادة علاقة التآخي والمحبة، ليس بين الشيعة والسنة فقط، بل ايضاً بين العرب والكرد وكل مكونات العراق الأثنية والدينية والطائفية، تماماً كما برهنة ساحة التحرير المصرية انسجام الشعب المصري وخرافة الكراهية بين مكوناته الدينية وأنها كانت من اختراع وإدامة القوى المضادة للشعب.
فليس من الطبيعي أن يبقى الكرد يحسون بأن وراء سور الجيش الأمريكي "الحامي"، وحوش تتربص بهم وتريد أن تلتهمهم. ويبقى الشيعة والسنة مقتنعين بأنهم سيئين وغير ناضجين وغير آهلين لحل مشاكلهم بأنفسهم وأن القوة الأجنبية القوية هي التي تمنعهم من الإندفاع الجنوني لتحطيم بعضهم البعض.

9- التخلص من بقايا الصداميين، فقد برهنت الإنتخابات الأخيرة أن السفارة الأمريكية هي الحصن الحصين والصديق الأمين للصداميين وأن أميركا تسعى بجهد محموم لإعادة الصداميين إلى الحكم، أو السيطرة على الأمن، وكان ذلك مكشوفاً في فترة الإنتخابات إلى الدرجة التي دفعت بالسفير الأمريكي إلى التصريح بأن "أميركا لا تريد إعادة البعث"! (2)
لذلك فأن سحب القوات الأمريكية وإضعاف سلطة تلك الدولة على أرض العراق إضعاف لبقايا الصداميين الذين يحتمون بها.

10- الإستقرار الإقليمي. فليس هناك عامل على زعزعة الإستقرار الإقليمي أكثر من تواجد جيش أجنبي عدائي (بالضرورة) في إحدى دول المنطقة. فماذا لو بقي الأمريكان في العراق، وحشدت إيران جيوشها على الحدود العراقية بسببه، وماذا لو قال الإيرانيون مثلاً أن طائرة بدون طيار أمريكية جاءت من العراق وقصفت مواقعهم او مناطق مدنية لهم كما تفعل في أفغانستان وباكستان؟
وماذا لو أنكر الجيش الأمريكي ذلك؟ من سنصدق؟ هل لدينا طريقة للتحقيق أصلاً؟ ولو عرفنا الحقيقة، فماذا بإمكان الحكومة ان تفعل؟ هل تستطيع أن تطلب منهم مغادرة البلاد بعد توقيع معاهدة، حتى لو كان ضمن بنودها عدم التحرش بالجيران؟ من سيخرجنا عندها من تلك المعمعة التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، بل ورطة لا مخرج منها؟

11- وأخيراً فحتى الصداقة الأمريكية، أو أحتمالها لا يتواجد إلا في سلة خروج القوات الأمريكية! فحتى لو انزعجت الإدارة العسكرية الأمريكية من عدم وجود رغبة لتمديد بقاء عساكرها في العراق، فأن ذلك الغضب لا يمنع الصداقة مستقبلاً، حين تجد الإدارات الأمريكية أن طريق الإستفادة من العراق مسدود إن كان من خلال صداقة الفاسدين فيه وتمكين اللاأخلاقيين فيه من بقايا الصداميين واشباههم أخلاقياً من السلطة، وأن طريق التدخل لتعويج الديمقراطية ودعم الإرهاب ومحاولات تغيير الحكومات لا توفر طرقاً للإستفادة من خيرات العراق، ولا من خلال سفارة رهيبة هي عبارة عن قلعة عسكرية استخباراتية تجسسية على كل عراقي، و أن طريقتها الوحيدة للإستفادة من تلك الخيرات تكون بصداقة شعبه، فربما يمكن بدء علاقة "صداقة" أو على الأقل علاقة منفعة مقبولة.
عندما يكون المرء حراً في سلطته على بلده تكون له المرونة اللازمة لكي يجعل المقابل يرى أن الفائدة التي يمكن أن يجنيها ذلك المقابل منه، لا تتم إلا برضاه وصداقته، أما من يشعر أن أموره بيد قوة عسكرية أجنبية بحجة الحاجة إليها للأمن أو للتدريب أو أية حجة وهمية أو حقيقية، فلن يكون له تلك المرونة ولن يتحكم بالفائدة التي يجنيها المقابل منه، ولن يجد المقابل أي سبب لصداقة مثل هذا المستسلم الغير قادر على الرفض.
يقول المدافعون عن تمديد بقاء القوات أن أميركا "ليست وحشاً مصاصاً للدماء" والحقيقة أن ما يجعل من أميركا مصاصاً للدماء أكثر من أي شيء آخر، هو هذا التساهل في السيادة والتراخي في دفعها بعيداً عن بيتنا لكي ترى أن من أراد دخول البيت مجبر على أن يكون صديقاً لأصحاب الدار، فمن هو داخل الدار أصلاً، ولا يبدو أصحاب الدار لديهم الإرادة الكافية لإخراجه، لن يجد داعياً لمثل تلك الصداقة. الصداقة تتحقق، وخاصة على المستوى الدولي، حين تجد الدول أن الصداقة هي خير ما يحقق مصالحها، لذلك فعلى من يريد الصداقة ان يجعل المقابل يفهم أنها الطريق الأنفع لتعامله معه، وأن بقية الأبواب مغلقة، وهذا مستحيل في بلد تتواجد فيه قوات البلد الآخر الأقوى بما لايقاس.
بالمقابل فأن بقاء العراقي يحس أن أرضه تحت بساطيل القوات الأمريكية، وتحس اميركا أنها مسيطرة على العراق ولها القدرة على التحكم والمناورة فيه واحتمال التأثير في القرارات حول من يحكمه من خلال القوة العسكرية والتجسسية التي يوفرها له مركز العمليات الهائل المقنع بشكل سفارة، في مثل هذه الحالة فأن التفكير في "صداقة" يعتبر من أوهام تفكير التمني لمن يتمنى صداقة أميركا. والحقيقة أن احتمال تحول العلاقة العدائية بين أميركا وإيران إلى "صداقة" أكبر بكثير من إمكانيتها مع دولة شبه خاضعة لها. فالعداء يمكن أن يتحول إلى صداقة، إن كان فيه بعض الإحترام المتبادل، حيث يمكن ان يكتشف الطرفان أن الصداقة من مصلحتهما بدلاً من العداء، أما الإحتقار من جهة والخوف والكراهية من الجهة الأخرى، فلا ارى كيف يمكن أن تتحول الى صداقة. هذا الخوف والكراهية أثبتتها الإحصاءات المتتالية والتقارير عن راي الشعب العراقي بالجيش الأمريكي، ويثبتها اليوم من جديد تحذير في 14 نيسان من حكومة الولايات المتحدة لجميع الأمريكان من السفر إلى العراق في اي من محافظاته (3) فكيف لهذا الحال أن يتحول إلى صداقة، إلا في أذهان الحالمين؟ فالإحتلال اشد معوقات الصداقة.

إذن ليس هناك "إنقسام" في الأفضليات بين خيار رحيل القوات وبقاؤها، وما يطرحه الإعلام ليس سوى انقساماً وهمياً يعتمد على المراوغة الإعلامية بالحقائق والأكاذيب، ككل "الإنقسامات" في البلدان الواقعة تحت تأثير قوة أجنبية. ففي خيار الإصرار على عدم تمديد الإتفاق، وعلى مغادرة القوات الأمريكية العراق، تكمن كل التفاحات للعراق: إحساس العراقي بكرامته، واحترام الجوار والآخرين له، وبدء الإعتماد على النفس، وحماية الديمقراطية، وتراجع الفساد وخوفه من العقاب، ووحدة الصف العراقية بين الطوائف والقوميات، وإحساس العراقي بأن سياسة بلده الخارجية ومواقفه تمثل رأي مواطنيه، وسياسته الداخلية في توزيع الإقتصاد بشكل يحترم فائدة مواطنيه كمبدء وحيد، وليس أولويات البنك الدولي أو مبادئ حرية السوق، التي ليست سوى حرية الشركات في استغلال البلاد بالضد من مصلحة اصحابها كما تشير تجارب جميع دول العالم الثالث، وعدم وجود ميليشيات في شوارع البلاد، بعدم وجود حاجة إليها أومبرر لها، واحتمال صداقة أميركا لمن ير في تلك الصداقة فائدة هامة، دون أن يتهم هؤلاء بالعمالة للمحتل من قبل الآخرين، ودون أن يتحملوا تبعات الجرائم التي يمكن أن تقوم بها القوات الأمريكية إن تواجدت في البلاد كما هو الحال الآن.

من كل هذا نرى بوضوح أن الخيار العقلاني الوحيد، حتى من يرى في صداقة أميركا حلمه الأكبر، هو في دفع القوات الأمريكية إلى الخروج، لأن أية مشاعر إيجابية تجاه أميركا لا يمكن أن تبدأ بين الشعب العراقي إلى أن يخرج آخر جندي امريكي من البلاد ويتبخر ما يسببه وجوده من خوف وكراهية وقلق لدى العراقيين تجاه الأمريكان، وكل ما ينغص اعتزاز العراقيين بوطنهم ومحبتهم له واستعدادهم للتضحية من أجله.

(1) http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2009/11/08/179253.html
(2) http://www.yanabeealiraq.com/articles/saeb-khalil250809.htm
(3) http://www.ekurd.net/mismas/articles/misc2011/4/govt1824.htm

Opinions