مؤتمر أنابوليس فرصة يجب عدم تفويتها
يعتبر مؤتمر أنابوليس الذي عقد يوم أمس 27/11/ 2007، في الولايات المتحدة وبحضور القيادة الفلسطينية والإسرائيلية ووفود من أربعين دولة، فرصة ذهبية يجب عدم التفريط بها وضياعها كما أضيعت فرص أخرى غيرها من قبل. فمنذ ولادة المحنة الفلسطينية في الربع الأول من القرن الماضي، أضاع العرب فرصاً عديدة لحل هذه المعضلة، لسبب واحد، وهو إصرارهم على سياسة ( كل شيء أو لاشيء). وقد أثبت التاريخ أن الذي يصر على كل شيء ينتهي دائماً بلا شيء. والثمن الباهظ لهذه السياسة دفعته الشعوب العربية، وخاصة الشعب الفلسطيني. لقد نسي قادة العرب أن السياسة هي فن الممكن، أي خذ وطالب بالمزيد.ومع الزمن فقد شاهدنا أن كل حل لاحق للأزمة الفلسطينية كان أسوأ من الحل السابق الذي رفضه العرب. ولتوضيح ذلك، نذكر الأحداث التالية وحسب تسلسلها الزمني: في عام 1937 اقترحت بريطانيا تخصيص ربع مساحة فلسطين لقيام حكم ذاتي لليهود ضمن الدولة الفلسطينية، فرفضه العرب والفلسطينيون. كما ورفضوا مشروع التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948، وأصروا على فكرة (كل شيء أو لا شيء) ورفعوا شعار (تحرير الأرض من النهر إلى البحر) وإلقاء إسرائيل في البحر لتأكلها الأسماك. وفي عام 1960 اقترح الرئيس العراقي، الزعيم عبدالكريم قاسم، قيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية التي كانت تحت سيطرة الأردن، وقطاع غزة تحت سيطرة مصر، فرفضها العرب وشن الرئيس المصري جمال عبدالناصر حملة شعواء عليه واعتبره مجنوناً وعميلاً للصهيونية والاستعمار. فلو تبنى العرب اقتراح قاسم لتأسست الدولة الفلسطينية منذ الستينات في القرن الماضي، ولما استطاعت إسرائيل احتلالها وإلغاءها في حرب حزيران/يونيو 1967. وفي عام 1964، اقترح الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة على عبدالناصر، لحل الصراع العربي-الإسرائيلي بالاعتراف بإسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية وبذلك يمكن تحرير الثروات العربية للتنمية بدلاً من صرفها على سباق التسلح وأمور غير مجدية. فوافقه عبدالناصر على ذلك في بداية الأمر سراً وطلب منه الإعلان عن مشروعه. ولما فعل بورقيبه ذلك وقوبل باستنكار شديد من قبل الشارع العربي العاطفي، انضم عبدالناصر إلى جوقة المستنكرين بدلاً من تهدئة الرأي العام العربي وإقناعه بالحلول العقلانية الواقعية الصائبة، خاصة وكان ناصر يتمتع بشعبية واسعة، كان بإمكانه التأثير على الرأي العام العربي والتخفيف من حماسه المدمر. والنتيجة، كانت الهزيمة الكبرى في حرب حزيران عام 1967 وضياع كل فلسطين وأجزاء من الدول العربية المحيطة بها.
ولما جاء السادات ووافق على اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 حيث استرجع بموجبها كل الأراضي المصرية المحتلة بدون قطرة دم واحدة، قاطعه العرب وحرضوا الغوغاء ضده ودفع الرجل حياته ثمناً لموقفه الصائب. وفي عام 2000 جاء الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي فتح البيت الأبيض للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وكان من أمنياته أن يدخل التاريخ من خلال حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية والقدس الشرقية عاصمتها. فرفض عرفات الحل خوف أن يغتاله الفلسطينيون كما اغتيل السادات، ثم ندم على ذلك بعد فوات الأوان حيث المزيد من الكوارث قبل وفاته.
لذلك، وبعد أن جرب الفلسطينيون والعرب كل الطرق والوسائل الخاطئة التي أدت بهم إلى المزيد من الكوارث والخسائر، ورفضوا جميع الحلول المطروحة أمامهم، تعلموا الدرس أن إسرائيل لا يمكن إزالتها، بل يجب الاعتراف بها والتعايش معها بسلام. وهذا ما حصل. لذلك على قادة الشعب الفلسطيني ومعهم القادة العرب عدم التفريط بهذه الفرصة التي سعى إليها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش وهو في السنة الأخيرة من رئاسته، عليهم بالقبول بالممكن. لقد تعلم الفلسطينيون وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس الدرس القاسي من السياسات السابقة والفاشلة التي لم تجلب سوى القتل والدمار على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب المنطقة.
إن الظروف الحالية تختلف كثيراً عن الظروف السابقة، فالرأي العام العالمي متعاطف مع حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، كما ومعظم الشعب الفلسطيني عدا أتباع حماس، يرغبون في العيش بسلام مع إسرائيل مقابل قيام دولتهم المستقلة. كذلك النظام البعثي الصدامي الذي كان يمول الانتحاريين في فلسطين وكان له تأثير سلبي على القيادة الفلسطينية، قد ألقاه التاريخ في مزبلته وإلى غير رجعة. كما ويبدو أن الرئيس محمود عباس قد استوعب الدروس الماضية القاسية وبلغ الحكمة كما ظهر ذلك من مواقفه الواقعية منذ تسلمه الرئاسة، وظهر ذلك جلياً في كلمته التي ألقاها يوم أمس في افتتاح المؤتمر عندما أكد على أن «مثل هذه الفرصة لن تتكرر مرة أخرى ولن يتوفر لها، لو تكررت، ذات الإجماع ونفس الزخم». لذلك يعرف الجميع أن أي ضياع لهذه الفرصة معناه المزيد من الدماء والدموع على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
نعم، هناك إيران ومعها حماس تحرضان على إفشال العملية، ولكن إيران تعرف أن دورها لن يغير من مجرى الأمور شيئاً، وسوف يؤدي بها إلى المزيد من عزلتها وعزلة حماس التي هي في وضع لا يحسد عليها أحد، حيث نراها غارقة في ورطتها التي دفعتها إلى المزيد من التطرف وبالتالي يقود إلى نهايتها. أما السوريون الذين يتبعون سياسة حافة الهاوية، فيبدو أنهم أدركوا في اللحظات الأخيرة، أن معارضتهم للمؤتمر ستجلب لهم المزيد من العزلة والخسائر، لذلك فضلوا اللحاق بالركب قبل فوات الأوان. وحضور سوريا المؤتمر هو انتصار لجبهة الاعتدال وهزيمة لجبهة المتطرفين التي تقودها إيران، كما وإنه يعني بداية نهاية التحالف السوري - الإيراني. لذلك نرى إيران غاضبة على سوريا لحضورها المؤتمر وراحت تخطط لعقد مؤتمر في طهران تدعو له الرافضين لأنابوليس من الإسلاميين المتطرفين في المنطقة. وهذه خطوة جيدة في رأيي لأنها ستزيد من عزلة إيران وحماس وبالتالي تعجل في نهايتهما.
لا شك أن المتطرفين العرب والإيرانيين سيواصلون النفخ في الطنبور في وسائل إعلامهم والتشكيك بنوايا أمريكا وإسرائيل في إقامة الدولة الفلسطينية، لذلك فقد شنوا هجوماً على المؤتمر وحكموا عليه بالفشل حتى قبل انعقاده. لذا على الرئيس محمود عباس عدم إعطاء أي اهتمام بهذه الصيحات والتي كانت هي السبب في جلب المزيد من الهزائم، على العرب وعلى القضية الفلسطينية وشعوب المنطقة كلها، بل، عليه أن يواصل السير وفق السياسة الواقعية وعدم إضاعة الفرصة.
ومن إيجابيات المؤتمر ومؤشرات نجاحه، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، هو الآخر جاد في قبول التسوية عندما قال في كلمته في المؤتمر أن «تسوية مؤلمة مليئة بالمخاطر من أجل تحقيق تطلعات (السلام) هذه»، وأن «المفاوضات بيننا لن تكون هنا في أنابوليس ولكن في وطننا وفي وطنكم». وهذا لا يعني أن الدولة الفلسطينية ستولد غداً، وإنما غاية المؤتمر هي تمهيد الطريق لولادة هذه الدولة عبر مفاوضات ماراثونية طويلة وربما مؤلمة في العام القادم، تحتاج إلى الصبر والحكمة من جميع الأطراف.
كل هذه المؤشرات تدل على انبثاق الأمل في إلحاق الهزيمة بالمتطرفين من الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، وانتصار صوت العقل والحكمة، وأن الدولة الفلسطينية هي آتية لا ريب فيها ومهما حاول المتطرفون إفشالها. فالسياسة الحكيمة هي فن الممكن، خذ وطالب بالمزيد، وليست سياسة (كل شيء أو لا شيء) التي تنتهي غالباً بلا شيء.