ما الموقف المطلوب إزاء الفكر الشمولي لقوى حزب البعث في العراق؟
حين يجري الحديث عن حزب البعث في العراق يتصاعد ضغط الدم لدى نسبة عالية جداً من العراقيات والعراقيين وتختل الدورة الدموية ويشعر الكثير من الناس بالغضب والرغبة في الانتقام. والمشكلة تكمن في أن الغالبية العظمى من سكان العراق, وخاصة من كان يعمل في السياسية بشكل مباشر أو غير مباشر أو من هجر قسراً أو من فقد له قريب وحبيب أو صديق, قد تلظوا بنيران وشظايا مختلف أسلحة صدام حسين والبعث الصدامي الحاكم. ومنهم من تلظى مرتين بنيران هذا البعث في فترة 1963 ومن ثم في الفترة الثانية منذ العام 1968 التي استمرت طوال 35 عاماً وكانت على الشعب في العراق وكأنها قرون عجاف مليئة بالظلم والضيم والقهر والموت والتعذيب والتهجير القسري والأنفلة.ومثل هذه الحالة المريرة لا يمكن أن تنسى ولا يمكن أن تهمل, فهي لم تكن ألماً جسدياً على الناس فحسب, بل وكانت وجعاً نفسياً عميقاً ومريراً ومدمراً للأعصاب وناسفاً للقيم الإنسانية والأخلاقية والحضارية وعبرت عن همجية ما بعدها همجية.
وحين يكتب الباحث في مثل هذه الموضوعات تشتعل العواطف مجدداً لدى كثرة من الناس. وهو أمر طبيعي ينبغي أن يفهمه الباحث ويتصدى لمعالجته بكل هدوء وموضوعية وبعيداً عن الإساءة لعواطف الناس النبيلة التي تضررت بحكم سلوكيات البعث الصدامي.
رغم كون النظام الصدامي كان استثنائياً في همجيته في منطقة الشرق الأوسط, إلا أن شعوباً كثيرة مرت بنظم قومية شوفينية وفاشية غير قليلة على امتداد القرن العشرين والتي يفترض التعلم منها في سبل معالجة عواقب تلك الفترة ومعالجة ألاوضاع النفسية والكوابيس التي تسببت بها. فأمامنا النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية التي في الجوهر مارست ذات الفكر وذات الأساليب, ثم أمامنا أسبانيا والبرتغال ونيكاراغوا وروديسيا وجنوب أفريقيا. وقبل ذاك هنغاريا وبلغاريا قبل الحرب العالمية الثانية, إضافة إلى دول أخرى في أفريقيا في النصف الثاني من القرن العشرين. ويمكن أن يضاف إلى القائمة بعض الدول العربية ودول أخرى في منطقة الشرق الأوسط أيضاً.
يمكن أن نجد بعض التباين في هذه النظم, ولكنها في الجوهر واحدة من حيث النهج الفكري والممارسة السياسية ومن حيث الأدوات التي استخدمتها في الحكم وفي قهر مجتمعاتها. والنظم الشمولية لا تمارس القمع الفكري والسياسي فحسب, بل تمارس تشويه وعي الإنسان وتزيف الحقائق وتخلق وعياً مزيفاً ومشوهاً لدى نسبة غير قليلة من الناس الذين يولدون في فترة حكم مثل هذه القوى والنظم. وهي تجبر عدداً كبيراً من البشر في الرضوخ لفكرها وسياساتها والدخول في أحزابها تحت سياط القمع فأما الموت على أيدي من لا رحمة في قلوبهم ولا ضمير في وجدانهم, وإما القبول بما يريدون والخضوع لإرادة الباغي. وعلى الباحث أن يدرك حقيقة ما يعني وما يكمن وراء هذا التعامل القسري المباشر أو غير المباشر بالنسبة للفرد العادي.
إن إدراك هذا الواقع يضع على عاتقنا, ونحن نسعى لمهمة معالجة مثل هذه المسائل, أن نفكر جدباً بعدد من الأمور الجوهرية التي لا يجوز تجاوزها, وهي:
أولاً: كيف نتعامل مع الناس الذين وجدوا في صفوف هذا الحزب الذي مارس سياسات شوفينية وممارسة فاشية؟ وهل يمكن القبول بهذا الرأي القائل بأن القضاء العراقي غير نزيه ليأخذ كل منا بيديه معاقبة من يعتقد بضرورة معاقبته؟
ثانياً: كيف نتعامل مع ضحايا النظام المباشرين ومن تأثر سلباً بنتائج تلك الضحايا؟
ثالثاً: كيف نحصن الناس من فكر مماثل أو مشابه ونبعدهم عن السقوط في مستنقع الفكر الشوفيني والفاشي؟
أشرت في مقال سابق إلى أهمية عدم رمي كل البعثيين في قدر واحد واعتبارهم جميعاً في صف المجرمين الذين تجاوزا على الشعب وأذلوا كرامته, إضافة لمن قتل من بنات وأبناء الشعب وهم بعشرات بل بمئات الألوف. ولهذا أشرت إلى ما يلي:
أ. الجماعة التي تشكل قيادة وكوادر البعث المسئولة عن كل أو بعض ما ارتكب في العراق من جرائم, وهم مستعدون لارتكاب ذات الجرائم من جديد إن تسنى لهم ذلك, ومنهم علي حسن المجيد وعزة الدوري وجمهرة غير قليلة من قادة وكوادر البعث, سواء أكانوا في داخل العراق أم خارجه, وساء انخرط البعض منهم في العملية السياسية أم خارجها. وهؤلاء غير قادرين على رؤية جرائمهم والاعتراف بها ولا بد من جعلهم يواجهون القضاء والقانون العراقي. وهنا لا بد من القول بأن الرأي الذي طرحه الأخ الفاضل الأستاذ محمد علي محي الدين, مع احترامي لكل رأي, غير مقبول وغير معقول في آن. فهو يقول ما يلي: " يحاول البعض تبسيط الأمور وإيكال الأمر إلى القضاء العراقي لمحاسبة الملطخة أيديهم بدماء العراقيين وقد تناسى هؤلاء أن القضاء العراقي لم ولن يكون نزيها في يوم من الأيام وأكثر عرضة للمؤثرات الأخرى لأنه لم ولن يكون مستقلا ويبقى تابعا لهيمنة القوى الكبرى وعرضة للفساد لعدم قيامه على أرضية صلبة من المهنية والأدلة على ذلك كثيرة فأزلام النظام والإرهابيين والقتلة الذين صدرت عليهم أحكام مختلفة بعد أن ثبتت جرائمهم لم تنفذ أي من الأحكام بحقهم لحد الآن بل أن الكثير من عتاة المجرمين هربوا من السجن بمساعدات معروفة وشمل مئات الألوف منهم بقانون العفو العام وقوانين العفو التي ستصدر لاحقا وربما تشمل علي كيماوي وطارق عزيز وحسين التكريتي وسلطان هاشم وغيرهم ممن قتلوا الآلاف لذلك فان مثل هذا القضاء لا يعيد حقا ولا ينفذ قانونا لأنه خاضع لمتطلبات السياسية وأغراضها البعيدة عن القوانين وبالتالي فان المجرمين الحقيقيين سيطلق سراحهم ويحكم على الصغار منهم والبسطاء ممن لا يوجد من يدافع عنهم لأنهم خارجين عن التشكيلة البعثية الجديدة ولا يمتلك السياسيين هذا الحق بالتنازل عن القتلة والمجرمين وعليهم العودة إلى ضحايا النظام ممن غيب أو قتل أبنائهم أو من سلبت كرامتهم لأخذ التنازلات التحريرية منهم وللحكومة الراشدة أن تتنازل عن حقها العام لان حقوق الضحايا لورثتهم الشرعيين وليس للغرباء ممن يساومون من اجل مصالحهم الذاتية،وعلى العراقيين أن يعوا هذه الحقيقة وان لا يسمحوا لكائن من كان التلاعب وإضاعةِ حقوقهم.
كيف نفهم هذا النص؟ النص يقول بصريح العبارة, التي لا تستوجب ذكاءً خاصاً لتفسيره, ما يلي:
1.ما دام القضاء غير نزيه وما دامت المحاكم ستطلق سراحهم, أو أن عفواً سيصدر بحقهم أو أنهم سيهربون من السجون كما هرب بعضهم من السجون العراقية وما دام البعض في السجون ولم تنفذ بهم أحكام الموت الصادرة بحقهم, فما علينا إلا أن نأخذ القضية بأيدينا ونقضي بالموت على البعثيين الذين يعتقد كل منا بكونه مجرماً. فليست هناك حاجة إلى قضاء ومحاكمات وقوانين لأنها بعيدة عن النزاهة! أهكذا نبني الشرعية الدستورية والديمقراطية أيها الأستاذ الفاضل بعد أن داس على كل ذلك الحكام البعثيون بإقدامهم؟ لقد ذكرني هذا بفتوى آية الله العظمى السيد كاظم الحسيني الحائري التي طلبت أشكال من الموت للبعثيين من مختلف الأصناف والأجناس والجرائم والخروقات حتى الذي وشا يوماً بصاحبه, هل يمكن لأي إنسان عاقل أن يقبل بمثل هذا الرأي المطلق؟ الجواب: قيل قديماً, حدث العاقل بما لا يعقل فأن صدق فلا عقل له. فهل يريد الأخ الكريم أبو زاهد أن نكون بلا عقل ونقبل بهذا النص الذي كتبه أو بفتوى الحائري التي قالها قبل خمس سنوات وكتبت ضدها في حينه. لا أظن ذلك, فهو حريص على القانون قطعاً, ولكن حين يكون الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام من البعثيين قد وصل إلى المستوى الذي بلغه لدى نسبة غير قليلة من الناس, يمكن عندها أن تصدر مثل هذه الأقوال غير المسئولة, وأملي أن يعيد الأستاذ محمد علي محي الدين النظر بهذا النص ويدققه ويكتب لنا نصاً آخر يكرس الشرعية المهدورة ويناضل من أجل أن يكون القضاء نزيهاً والأحكام تنفذ حين تكون قاطعة وصادرة عن المحاكم, والعفو بعض الأحيان غير سيء وخاصة على الصغار من المجرمين غير القتلة.
2. نهاية هذا النص يقول على الحكومة أن تتعامل بطريقة غير الطريقة التي يتعامل بها ويريدها الغرباء. ليس فينا من هو غريب عن هذا الوطن الجريح, ومن هو في الخارج الآن كان في الداخل في فترة النضال أيضاً, وبالتالي ليس هناك هذا الخطأ القاتل في التمييز بين الداخل والخارج, ولكن فينا من يفكر بحاضر ومستقبل العراق ويريد إبعاد نزيف الدم عنه ويجعل منه بلداً مدنياً ديمقراطياً وليس بلداً همجياً كما فعله به الحكام البعثيون.
3. نحن جميعاً نطالب بمحاكمة عادلة وشرعية للبعثيين لا من أجل الانتقام فموتانا الشهداء لن يعودوا لنا ثانية عبر الانتقام, بل نريد إرساء العدالة وحكم القانون الديمقراطي في دولة القانون الديمقراطي لكي لا يعود أمثال هؤلاء الحكام الأوباش, الذين غاصوا في دماء ودموع الشعب, ليمارسوا الحكم والاستبداد والقهر والسجن والتعذيب والقتل من جديد, لكي لا تعود حليمة إلى عادتها القديمة!
ب. مجموعة من الانتهازيين التي وجدت في الركض وراء النظام مكسباً لها في الحصول على امتيازات ومكاسب زائلة على حساب الكرامة والشهامة وخراب بيوت الناس وموتهم من خلال الانتماء لحزب البعث والسكوت على ما يمارسه الحكام من جرائم, وربما اندفع البعض منهم إلى حد ممارسة الجريمة معهم. ومثل هؤلاء مستعدون لتأييد كل حاكم ما دام يتصدق عليهم ببعض الامتيازات والمكاسب والنفوذ, ونحن الآن نعيش وبيننا الكثير من هؤلاء الانتهازيين الذين يتسلقون المناصب لا بالكفاءة والقدرة والإخلاص, بالطبطبة على الكتف ومسح الجوخ والكذب, وهؤلاء شكلوا نسبة اكبر من المجموعة الأولى. وهي التي يفترض التعامل معها بحذر ومسئولية, لكي لا يسيئوا للمجتمع ثانية وبطريقة محزنة. وهم الأن يشكلون نسبة غير قليلة وليس كلهم بالضرورة من كان في أو مع حزب البعث. والعراقيون يكتشفون هؤلاء بسهولة وبسرعة أيضاً, فهم يقرأون ما بين السطور ويكتشفون السلوك المزيف.
ج. المجموعة الأكبر والأوسع التي فرض عليها الانتساب لحزب البعث بالعصا وليس حتى بالجزرة. وهذه المجموعة بريئة حقاً وأجبرت تحت الضعف الإنساني أمام الجلادين, إذ وضعت أمام خيارات صعبة, بعضها بين الموت والانتساب, وبعضها الآخر بين قطع الرزق والانتساب, وبعضها الثالث بين تدمير مستقبل أطفالهم وعائلاتهم أو الانتساب, وبعضهم استمرت ملاحقتهم من قبل أجهزة الأمن حتى أجبروا على الانتساب. إن هذه المجموعة تشكل أكثر من 90% ممن انتسب لحزب البعث في عقد السبعينات والثمانينات. وعلينا إبعاد الضرر عنهم واحتضانهم لأنهم أناس لم يعرفوا طريقا آخر غير البقاء في العراق ولم يجدوا وسيلة لمغادرة العراق.
ندرك جميعاً بأن "حزب البعث العربي الاشتراكي" قد وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب القصر ومارست قيادته وأعوانه سياسات مرفوضة أصلاً إزاء الناس وإزاء السياسيين أو المختلفين معهم. وأنهم جسدوا في قيادتهم السلطات الثلاث ومارسوها معاً ومن موقع واحد هو "مجلس قيادة الثورة". ولم يلتزموا بقانون أو عرف أو تقليد اجتماعي أو دين أو مذهب ديني معين حين نفذوا أحكام الإعدام أو نظموا الحملات العسكرية وأبادوا عشرات ألوف البشر. وعلى عاتقنا جميعاً تقع مسئولية إعادة العدل إلى نصابه وليس ممارسة ما يتناقض مع الدستور والقانون والعدل وحقوق الإنسان.
الدولة بكل سلطاتها¸ وخاصة السلطة التنفيذية, تتحمل مسئولية توفير مستلزمات استعادة الضخايا وعائلات الضحايا للحقوق المهدورة وللمظالم التي لحقت بهم وتعويضهم بمختلف السبل الضرورية ومساعدتهم على معالجة أوضاعهم النفسية والعصبية , فهي مهمة كبيرة, خاصة وأن هناك عواقب وخيمة نجمت عن سياسات النظام الاستبدادي المخلوع, ومنها مئات ألوف المهجرين الذين لا زالوا يعيشون في الشتات وبأوضاع صعبة حقاً.
إن إعادة الاعتبار لمن أجبر على الانتماء لحزب البعث لا تعني عودة البعثيين إلى الحكم, بل عودة هؤلاء الناس إلى وضعهم الطبيعي الإنساني لا غير. ولم يطلب أحد عودة الذين هدروا دم الشعب ولطخوا أيديهم بدماء الناس الأبرياء ولا حتى الدائرة الصغيرة القريبة جداً منهم والتي حافظت على استمرار حكم البعث وصدام حسين في السلطة وكانت أداته في كل شيء بما في ذلك القتل,
لقد نشأت في العراق في أعقاب سقوط النظام مجموعات كانت تقتل على الهوية. وهذه المجموعات هي الأخرى تشكل خطراً مستمراً على الحياة المدنية الدستورية والديمقراطية والفيدرالية, هؤلاء هم الذين يتربصون بنا وينتظرون الفرصة للانقضاض على المجتمع والعودة به إلى الهمجية المشابهة لهمجية البعث وتحت مسميات أخرى. فالحذر ليس من البعثيين فقط, بل من أولئك الذي يماثلوهم في السلوك ولكنهم يسيرون تحت رايات ومسميات أخرى.
31/3/2009 كاظم حبيب