Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

ماذا استفاد العرب من الثورة المعلوماتية؟


-1-

عندما قامت الثورات السياسية والصناعية في أمريكا وفرنسا في القرن الثامن عشر، وقامت الثورة الصناعية في بريطانيا في القرن التاسع عشر، كان العرب تحت الحكم العثماني. وكانوا داخل سور أشبه بالستار الحديدي الذي أقامه الاتحاد السوفيتي لعزل نفسه عن الغرب. وكان السور العثماني العظيم الذي أقامته الإمبراطورية العثمانية حول نفسها، وعزلت نفسها عن الغرب عزلاً علمياً وثقافياً يكاد يكون تاماً، ما عدا بعض المدارس العسكرية داخل الإمبراطورية العثمانية التي كانت تُدار من قبل مدرسين فرنسيين وإيطاليين، وما عدا بعض البعثات التدريبية في الشؤون العسكرية. وبلغ انغلاق الإمبراطورية العثمانية حداً، أن لا من رعايا الإمبراطورية العثمانية سمع بالثورة الأمريكية أو الثورة الفرنسية، كما ذكرنا في كتابنا (عصر التكايا والرعايا، 1999). كما بلغت العزلة العثمانية حدها الأقصى، أن لا سلطان عثمانياً خرج في زيارة لبلد آخر قريب أو بعيد. وعندما دعا الخديوي إسماعيل والإمبراطور نابليون الثالث السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني (1861-1876) عام 1863 لزيارة مصر وفرنسا بمناسبة إقامة معرض صناعي وتجاري بباريس، تجرأ هذا السلطان المنفتح ولبّى الدعوة وذهب لزيارة مصر في طريقه إلى فرنسا بحراً. ولكن عند عودته، تمَّ خلعه من قبل الانكشارية العثمانية والمؤسسة الدينية التي كانت قائمة في ذلك الوقت، ومات مسموماً بعد أيام من خلعه. وهذا دليل تاريخي ساطع على مدى الانغلاق الحضاري الذي كانت عليه الإمبراطورية العثمانية والأقطار العربية التي كانت تحت حكمها، طيلة أربعة قرون خلت (1517-1918).

-2-

كثير من الباحثين يعتبرون ثورة المعلومات (شبكة الانترنت) التي قامت في الربع الأخير من القرن العشرين، أهم بكثير من الثورة الصناعية الأوروبية التي قامت في القرن التاسع عشر. ورغم ذلك، فإن العرب لم يستفيدوا من هذه الثورة الاستفادة المرجوة، كما أنهم لم يستفيدوا من الثورة الصناعية السابقة، إلا بما أنتجته من سلع استهلاكية في شتى مجالات الحياة. ولم يستطع العرب إضافة أي إبداع علمي أو تقني إلى هذه الثورة، لتصبح الثورة الصناعية ثورة إنسانية يشارك فيها معظم شعوب الأرض. ولكن هذا لم يتم. فظلت الثورة الصناعية ثورة أوروبية بامتياز.

ونحن اليوم أمام ثورة أضخم وأعظم وأشمل من الثورة الصناعية، وفي ظروف سياسية أفضل مما كنا عليه في القرن التاسع عشر، عندما كان العالم العربي كله تحت نير الاستعمار العثماني لمدة أربعمائة سنة. فقد تخلصنا من الاستعمار الغربي، ورحل آخر جندي أجنبي من الخليج عام 1970 باستقلال الإمارات العربية المتحدة. كذلك فقد تحسنت أحوالنا المادية، وبلغ متوسط دخل الفرد العربي السنوي خلال العقدين الماضيين أكثر من أربعة آلاف دولار. بينما لم يكن في ظل الاستعمار العثماني يزيد عن 150 دولار. كما أن هامش الحرية قد ازداد عما كان عليه في السابق، لعوامل إقليمية وعالمية مختلفة لا مجال لذكرها هنا.

-3-

فلماذا لم نستفد حتى الآن من ثورة المعلومات الحالية، الاستفادة المرجوة؟

يمكن للجواب أن يكمن في الأسباب التالية:

1- كان موقفنا من ثورة المعلومات موقفاً أخلاقياً سلبياً محضاً، كموقفنا تماماً من الحضارة الغربية، باعتبار أن ثورة المعلومات هي منتج من منتجات الحضارة الغربية البغيضة لبعضنا. بمعنى أن نزنُ الانجازات الحضارية الغربية بميزان قيمنا الأخلاقية فقط. فكان موقفنا ينطلق من ضرورة التركيز على سلبيات هذه الثورة، وليس على ايجابياتها. فمن المعروف أن لكل ثورة ولكل حركة إبداعية أو تجديدية في التاريخ حدّان، حدٌ سلبي وحدٌ إيجابي. ولا يوجد في التاريخ أية حركة أو خطوة صناعية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية لها حد ايجابي واحد دون حدها السلبي. والشعوب الأخرى ومنها الأوروبية شربت الكأس المرّة للتقدم والحداثة مجبرة، وهي تعلم أن المرارة هي الدواء للداء الذي كانت هي فيه.

2- نتيجة لعدم توفر التجهيزات الأساسية لاستقبال وتوزيع هذه الخدمات المعلوماتية، والتي تتطلب استثمارات مالية ذات مردود مادي طويل الأجل، فقد تم اقتصار هذه الثورة المعلوماتية على الدول العربية الغنية بالدرجة الأولى وهي دول الخليج. في حين أن نطاق هذه الثورة ظل محصوراً بالنسبة للدول العربية الفقيرة - وهي دول الغالبية العظمى - على النخب الثقافية والعلمية والدوائر الرسمية، وخاصة الإعلام والأمن.

3- ساعد انتشار الأمية الأبجدية في العالم العربي بمعدلات تتراوح بين 20-60% على عدم الاستفادة المرجوة من ثورة المعلومات. فما فائدة أمكانية الاستفادة من بنوك المعلومات المنتشرة حول العالم ومكتبة الكونجرس مثلاً لمواطن في الريف المصري أو الأردني أو المغربي؟

4- بما أن ثورة المعلومات قد حملت لنا هذا الكم الهائل من المعلومات، وحملت إلى جانب هذا الكم كماً آخر من سلوكيات الأمم الأخرى الاجتماعية، وخاصة ما يتعلق بالمرأة والجنس الآخر إلى حد غير مسبوق، بحيث أصبح كل شيء.. كل شيء مباحاً ومتوفراً، وهو ما لم يعتد عليه العربي ولم يعهده في أي عصر من العصور وفي أي مكان من العالم العربي.. تجاه كل هذا أصيب المواطن العربي (ما عدا نخبه المختلفة) بلوثة وانبهار وذهول نتيجة لما يقرأ ويشاهد على شاشة الانترنت، مما دعا دولاً كثيرة في العالم العربي إلى وضع شبكات الانترنت تحت الرقابة والمراقبة بداعي عدم إفساد الأجيال.

5- نتيجة لوجود عدد كبير من الجماعات الدينية المتطرفة التي تقوم في معظم الأحيان بالسطو على مواقع حداثية على شبكة الانترنت، فقد تم بواسطة هذه الجماعات تعطل وإغلاق الكثير من المواقع الإليكترونية غير المُعناة بتسويق الجنس وبيع أجساد النساء، وحجب كم هائل من المعرفة عن المتلقين، بغض النظر عن قيمتها الإخلاقية.

-4-

لقد تحوّل الإنسان في مختلف أنحاء الكرة الأرضية (القرية الكونية) من "حيوان ناطق" كما سبق ووصفه أرسطو منذ آلاف السنين، إلى "إنسان عارف" على حد وصف عالم الأحياء المعروف كارل لينيه في القرن الثامن عشر، ثم تحول أخيراً بفضل ثورة المعلومات إلى "إنسان رقمي" كما وصفه العالم الأمريكي نيوكلاس نيغروبونتي في كتابه الذي يحمل هذا العنوان "الإنسان الرقمي". فهل بعد هذا التحول الهائل، ما زال العربي يصرُّ على حداثة خالية من الدسم الاجتماعي الأخلاقي الغربي؟

إن الحضارات والثورات العلمية والمعلوماتية هي ابنة مجتمعاتها التي أنتجتها، وهي تحمل قيم هذه المجتمعات أينما توجهت إلى العالم الآخر. والمهم في الأمر أن نملك القدرة الكافية على فرز نتاج هذه الثورات واستبعاد قيمها الاجتماعية والأخلاقية، وذلك هو الصعب والعسير علينا، حتى الآن.



Opinions