مجلس النواب .... ضمير في الميزان
يوم الأربعاء الموافق 24/9/2008 دشن البرلمان العراقي عهداً جديداً وغريباً في تاريخه وفي تاريخ الممارسة البرلمانية عموماً ، بإقراره قانون انتخابات مجالس المحافظات بعد التصويت بإلغاء المادة ( 50 ) والخاصة بحقوق الأقليات ؛ والذي كان يؤمل منها صيانة وضمان حقوق المكونات الصغيرة في تلك الانتخابات ، خاصة وأن العراق يعيش حالة من المد القومي والديني والمذهبي الأمر الذي يجعل إستحصال المكونات الدينية والقومية الصغيرة لحقوقها أمراً في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً ، مما يجعل بالتالي تضمين هذه المادة في قانون الانتخابات أمراً ملحاً وضرورياً ، يأتي هذا الإجراء في الوقت الذي يتشدق فيه الجميع بشعارات الديمقراطية واحترام التعددية وعدم إلغاء الآخر وغير ذلك من الشعارات التي اتضح أنها استهلاكية واستعراضية والغاية منها فقط تلميع الصورة والتغطية على ما يجول في خواطرهم وعقولهم من رغبة وتوجه نحو إذلال وقهر ومن ثم اجتثاث هذه المكونات التي كما يبدو باتت عبئاً ثقيلاً عليهم أو على الأقل إقصائها من العملية السياسية كلياً ومن ثم إقصائها من جميع المواقع في الدولة وحرمانها من حقوق المواطنة والحقوق السياسية التي يفترض أن تتمتع بها حالها حال الآخرين سيّما وأن الجميع يدرك عراقة هذه المكونات وأصالتها في تكوين النسيج الوطني العراقي ويعلم مدى حبها وولائها للعراق وعدم امتلاكها أو التزامها لأية أجندة خارجية خارج المشروع الوطني كما هو شأن البعض .إننا لسنا من أنصار منطق المؤامرة ، والاتهام الكيفي لكن وقفة بسيطة وتقييم موضوعي لما جرى في تلك الجلسة والتي تم فيها إقرار قانون الانتخابات يؤكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن الذي جرى كان مؤامرة مع سبق الإصرار على وجود وحقوق ومستقبل الأقليات القومية والدينية في العراق وخاصة شعبنا الكلداني الآشوري السرياني المستهدف على الدوام لخصوصيته القومية والدينية ، وإلا بماذا نفسر اتفاق الكتل الكبيرة والذي حصل في تلك الجلسة المشؤومة على إلغاء المادة المذكورة , والتي كانت حتى الأمس القريب , متصارعة فيما بينها بسبب التناقضات وبسبب تقاطع المصالح واختلاف الأهداف والرؤى والتوجهات ، لو أنهم أجمعوا على موضوع وطني فيه مصلحة للوطن والمواطن لهان الأمر وهللنا لهم فرحاً ، لو أنهم اصطفوا لخدمة الوطن والمواطن بغية إنقاذهما مما آلوا إليه من ضياع ومصير بائس لكنّا أول من يبادر إلى الثناء والمباركة ، غير أنهم اختلفوا في كل شيء وعلى كل شيء ولم يتوحدوا ولم يجمعوا إلا على قتل آمال وتطلعات إخوتهم في الوطن من المكونات الصغيرة وقبلها بأيام توحدوا وأجمعوا على اغتيال مثال الآلوسي سياسياً وإنسانياً بذريعة زيارته لإسرائيل فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها على تلك الزيارة وكأن كل مشاكل العراق قد حلّت ، وكأن الشعب العراقي ينعم بالعيش الرغيد والحياة الآمنة الكريمة ولم يبق لممثلي الشعب (الغيارى) من هم ٍ ومعضلة إلا التصدي لأبناء وطنهم فراداً وجماعات .
عجيب أمر هذا البرلمان وعجيبة هي ممارساته ، يسكت عن الكبائر ويلتفت إلى الصغائر ، يتناسى خنجر الجوار المزروع منذ خمس سنوات في خاصرة العراق ويتسارع إلى طعن أبنائه بذريعة أو بدونها ، كل هذا يحدث أمام أنظار الشعب العراقي المتألم والمنكوب والمخذول من نوابه ومن قادته وسياسييه بعد أن قادوا وأوصلوا البلاد إلى أردأ حال ،بعد أن زرعوا الأحقاد والطائفية والتعصب في كل ركن من أركان الوطن ، والجلسة الأخيرة لمجلس نوابنا خير شاهد على ذلك لأن ما خرجت به من اجتثاث وإقصاء وتجريد الأقليات العراقية من حقوقها كان غرس تلك السياسة وثمارها .
وكما يبدو فإن العمليات الإرهابية والتصفيات الجسدية التي تولت أمرها فرق الموت والفصائل المسلحة المتعددة العناوين والدوافع والخلفيات لاجتثاث المسيحيين والمكونات القومية الأخرى من أرض العراق لم تكن كافية فكان لا بد من الخطوة الأخيرة والكبيرة المتمثلة بالإقصاء والاجتثاث السياسي وإشعارهم بأنهم غير مرغوب فيهم وأمامهم خياران لا ثالث لهما : إما العيش في وطنهم كخدم ومواطنين من الدرجات الدنيا عليهم كل الواجبات وليس لهم من الحقوق إلا الفتات ، أو المغادرة والرحيل وترك أرض أجدادهم بشواهدها وشخوصها العظيمة التي ينطق كل موقع وكل حجر وذرة تراب فيها بأنهم أبناؤها الشرعيون وأنهم بناة حضارتها وعزها .
لقد كشر الكبار عن أنيابهم واتضح من جديد صعوبة التعايش والتآلف بين الذئاب والحملان ، إنها المؤامرة القديمة الجديدة المستمرة التي ترمي إلى إخضاع وإذلال شعبنا بكل الطرق ودفعه مرغماً إلى ترك وطنه وهي اليوم تتم من خلال أعلى مؤسسة دستورية يفترض فيها أن تراعي حقوق جميع أبنائها وتنصف الصغير قبل الكبير ، تتم تحت شعارات مخادعة كبيرة في الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الجميع في هذا الوطن ، فأين هم من شعاراتهم ؟ وأين احترامهم للدستور الذي يفترض أنه صمام الأمان لحماية الحقوق وصون الكرامات وإنصاف المظلومين . إن ما أقدم عليه البرلمان العراقي من هضم حقوقنا يدعونا نحن المسيحيين بكل فصائلنا وتنظيماتنا القومية إلى رصّ الصفوف وتوحيد الخطاب وتناسي الصراعات والرقي فوق الخلافات من أجل بلورة موقف جدي وعملي قادر على مواجهة المؤامرة وحملة الاستهداف المنظم وسياسات الإقصاء الواضحة التي طالت كل مفاصل الوجود المسيحي في العراق من أجل الحفاظ على وجودنا على هذه الأرض ، لكن الذي يحدث هو بعكس التمنيات ويدعو إلى خيبة الأمل فرغم الخطب الجلل لا زال بعض رموزنا القومية من الموتورين وقصيري النظر بعيداً عن الشعور بالمسؤولية التاريخية تجاه أمته فتراه ينبري إلى اتهام ممثلي شعبنا في مجلس النواب بالتقصير وضعف الأداء وعدم القدرة على تمثيل شعبنا بالمستوى المطلوب محملين إياهم مسؤولية ما حدث ومسؤولية حرمان شعبنا من التمتع بالحكم الذاتي وكأن الحكم الذاتي قد قدم لشعبنا على طبق من ذهب ، وإن من منعه عن شعبنا هو بعض فصائله ورموزه مع أنهم يدركون جيداً أن الذين يدغدغون مشاعر شعبنا بمؤازرتهم المعلنة والظاهرة لمطلبه في الحكم الذاتي هم أنفسهم الذين خذلوه في مجلس النواب وصوتوا على إلغاء المادة ( 50 ) من قانون الانتخابات مستكثرين على شعبنا ضمان نيله الحد الأدنى من حقوقه ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لنا أن نسأل هؤلاء المحسوبين على شعبنا الذين يتغنون بموال الحكم الذاتي منذ ما يقرب من عامين دون أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام أو يحققوا شيئاً على أرض الواقع : ما الذي قدموه لشعبنا على طريق إقرار الحكم الذاتي له؟ وهل تمكنوا من تضمين هذا الحق في الدستور العراقي أو في دستور إقليم كردستان ؟ أم إن حدود فعلهم وإمكاناتهم لا تتعدى الاجترار والجعجعة الفارغة وإلقاء اللوم على الآخرين تهرباً من المسؤولية ؟ .
نعود إلى جوهر موضوعنا لتذكير السادة أعضاء مجلس النواب بحجم الإجحاف والتعسف الذي ألحقوه بالقوميات الصغيرة من خلال إلغاء المادة ( 50 ) من قانون الانتخابات وندعوهم إلى مراجعة أنفسهم وإلى وقفة حق واستفاقة ضمير حية ترفع الحيف عن شرائح مهمة من المجتمع العراقي ، كان قدرها وسيبقى أن تولد وتعيش وتلتصق بأرض العراق وتتقاسم مع مكوناته الأخرى الآمال والآلام في السراء والضراء ، ونذكرهم بأن الديمقراطية المنشودة سوف تتراجع كثيراً إذا لم تتم معالجة الموقف ورفع الغبن عن هذه المكونات ، فالمعيار العصري المعتمد لبيان مدى التزام أية دولة بالأسس الديمقراطية ومدى احترامها لحقوق الإنسان يتمثل في مدى احترام تلك الدولة لحقوق الأقليات فيها . إن الذي حصل في مجلس النواب لم يكن خطاً فنياً أو ارتجاليا أو موقفاً مزاجياً وليد اللحظة ، وإنما كان مخططاً مرسوماً واضح الغايات هدفه اجتثاث وقتل المكونات الصغيرة سياسياً وإطلاق رصاصة الرحمة عليها بعد أن أشبعت قتلاً وتنكيلاً وتهجيراً على أيدي الفصائل الإرهابية بشتى منابعها وأجنداتها ، مخطط تولت القوى النافذة في مجلس النواب رسمه وإدارته وتنفيذه وإيصاله إلى نتائجه النهائية المتمثلة بإلغاء المادة المذكورة الضامنة لحقوق الأقليات الدينية والقومية، ولاشك أن الفكر الشوفيني القومي والديني والمنهج الشمولي الذي لا يؤمن بالآخر ولا يحترم التعددية ، وسياسات الهيمنة والاستئثار والاستبداد التي تمارسها الأطراف المهيمنة على كل مؤسسات الدولة العراقية اليوم ومنها البرلمان ، هذه العوامل مجتمعة هي التي قادت إلى قبر المادة المذكورة ليقبروا معها آمال وتطلعات هذه المكونات العراقية وفي مقدمتها شعبنا الكلداني الآشوري السرياني ، ومن هنا امتعاضنا وخيبة أملنا فليس مقبولاً أن يبقى الصغار لقماً سائغة بأفواه الكبار وضحية لعبة المساومات والمقايضات والتوافقات فيما بينهم ، وليس عدلاً أن يتم إقصاء المكونات والأعراق التي هي أصل العراق وكلمة البدء فيه فذلك لا يمت إلى العدالة وإلى قيم الديمقراطية وحقوق المواطنة بصلة . وهذا يؤكد لنا شيئاً واحداً وهو : إن بناء العراق الديمقراطي ألتعددي القائم على الاعتراف بالآخر والذي يحترم حقوق جميع أبنائه بعد التخلص من النظام الشمولي السابق ذو الفكر الواحد واللون الواحد لا زال هدفاً بعيد المنال ، بل هو أكذوبة كبيرة لا يمكن أن تمر والشواهد على ذلك كثيرة لا تحصى ، فكل الذي حصل بعد تغيير النظام في العراق هو إننا انتقلنا من دكتاتورية الفرد إلى دكتاتورية الأغلبية أو دكتاتورية الكبار أما الديمقراطية الحقيقية فلا زال بينها وبيننا ما بين السماء والأرض من مسافة . إن الكرة الآن إذا ما أريد تدارك الموقف هي في ملعب مجلس الرئاسة ، إذ بإمكانه نقض القانون الذي مُرر وإعادته إلى مجلس النواب من جديد مثلما نقضه في المرة السابقة يوم لم تنسجم بعض مواده مع مصالح بعض الأطراف والجهات ، إذا كان المجلس المذكور يمثل كل العراقيين وكان حامياً لحقوق جميع أطيافهم ومعنياً بها وليس فقط حامياً لحقوق الأطياف والمكونات التي ينتمي إليها ، فهل يفعلها مجلس الرئاسة ؟ فينقض القانون ويعيد الحق إلى أصحابه أم أن صغار الحجم في عراق اليوم عليهم الانتظار لسنوات وسنوات وربما لعقود أخرى من الزمن حتى تشفى عقلية القائمين على القرار العراقي والمتسيدين لساحته السياسية من داء الهيمنة والاستعلاء وتتحرر من عقد التعصب البغيض والاستئثار المقيت ، فتنصف جميع أبناء الوطن على أساس الولاء الوطني وليس على أساس الدين والعرق والقومية والحجم وما إلى ذلك من المفاهيم التي عفا عليها الزمن وتجاوزتها حتى الدول التي تأسست بالأمس القريب والتي لا تمتلك شيئاً من إرث العراق الحضاري وتاريخه الكبير والطويل الذي رفد الإنسانية بأرقى القيم وأغنى الحضارة بألوان المعرفة .....