محمد حميد الصواف
اقتربت الانتخابات... فيما انبرت الأحزاب والكتل السياسية في التحضير للدورة البرلمانية القادمة، وفق منطلقات جديدة، بدت أكثر تناغما مع المزاج العام للناخب العراقي، وأجواء المرحلة الراهنة، مبدية للمتلقي تبنيها قناعات مغايرة كانت حتى الأمس القريب مغيبة عن أجندتها المعلنة.من جهة أخرى يستعد العراقيون لطي حقبة حرجة من تاريخهم المعاصر، اجتازت خلالها البلاد مخاضا عسيرا، وقف العراق بكامل كيانه أمام مفترق طرق مصيري، وجملة من الخيارات الحساسة والمكلفة، كان مجرد الإخفاق في التعاطي مع إسقاطاتها يشكل تهديدا خطيرا قادرا على تغيير خارطة العراق السياسية إلى الأبد.
فقراءات المرحلة السابقة كانت تفضي دون أدنى شك إلى رؤية قاتمة تعتري الحراك الاجتماعي والسياسي، لا سيما بعد تعثر تجربة بناء الدولة العراقية الحديثة، والإخفاق الذي لحق بأداء مؤسساتها الرسمية، وما صاحبها من أجواء محتقنة أفرزتها حالتي التشظي والتمترس السياسي والانقسام المجتمعي الذي كاد أن يفتك بالبلاد والعباد.
لدرجة باتت مشاعر اليأس والإحباط تستبق أي جهد يبذل في سبيل الحد من التدهور المستمر للأوضاع، وبات مجرد التمعن بمعطيات الأحداث، يجهض أية محاولة لتفكيك شفرة المعضلة العراقية وما انبثق عنها من تشعبات، مما دفع البعض لتبني أطروحات التقسيم كخيار ناجع لابد منه، بعد أن أصبحت ظروف العراق تنحدر من سيئ إلى أسوء.
فالأمن والاستقرار كانا أشبه بسراب بعيد المنال، تسبب فقدهما بأكبر موجة نزوح وهجرة جماعية شهدها العراق خلال التاريخ الحديث، وحرب أهلية تغذيها الصراعات الإقليمية والدولية، لم تستثن أتونها طفلا أو شيخا أو امرأة، تعزز ديمومتها قوى أمنية، لا يلمس من صفتها شيء سوى التسمية، مخترقة من قبل الجماعات المسلحة بمختلف أشكالها، وحكومة عاجزة لا تتجاوز سيطرتها بوابات المنطقة الخضراء.
فضلا عن وضع اقتصادي شبه منهار، عشش الفساد في أدق مفاصله، يستبيح ثروات العراق وموارده أمام مرأى الجميع، دون أن يستطيع احد تحريك ساكنا، مخلفا تدهورا مستمرا في اغلب مرافقه الحيوية والخدمية.
ظروف استثنائية قاهرة خلال حقبة برلمانية واحدة، تجسد خلالها واقع مؤلم أدمى العيون والقلوب، كان عزاؤها إن العراق مجتمعا... اثبت انه على قدر كبير من المسؤولية والمقدرة في تجاوز أزمته والخروج من عنق الزجاجة، بعد أن استشرف جادة السلامة واستمسك بها، وان أبناءه استطاعوا تجاوز محنتهم، والنهوض بواقعهم المنهار بمقدار كبير من الموفقية والنجاح شهد له الجميع، وهم عاكفون على بناء وترميم حاضرهم، والارتقاء بديمقراطيتهم الناشئة التي أريقت على جانبها الكثير من الدماء.
صحيح إن مشروع بناء الدولة لا يزال يعاني من بعض مكامن الضعف والخلل البنيوي، سيما في ما يتمثل بتعدد الإستراتيجيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتبناة في نطاق الدولة الواحدة، الذي يتسبب على الدوام في تشتيت مصادر القوة وافتقار النظام الرسمي العراقي إلى ركائز الدعم الداخلي، التي تعد من أبرز مقومات قوة النظم السياسية للدول، ودليلا على رصانتها أمام المجتمع الدولي، بالإضافة إلى كونها آلية فاعلة لقطع الطريق على التدخلات الخارجية، لكن قياسا بالمنجز الذي تم تحقيقه يبدو التفاؤل بالمستقبل أكثر واقعية من خلافه.
مما يوجب على الأحزاب والكتل السياسية العراقية المتنافسة وهي على أعتاب الانتخابات التشريعية الارتقاء إلى مصاف مسؤوليتها الوطنية والاعتبارية، عبر الالتفات إلى ضرورة الاتفاق في سياق حملاتها الانتخابية على عدم المساس بلب العملية الديمقراطية أو خدشها، كونها لا تزال في مرحلة التأسيس والنشأة في ظل أدبيات مجتمع غيبت عنه الديمقراطية لعقود.
والابتعاد عن لغة العنف الانتخابي وما شاكلتها من أساليب ملتوية، والعمل على بلورة قواعد شعبية وانتخابية مثقفة تترفع عن جميع الظواهر السلبية التي غالبا ما تتزامن مع فترة الانتخابات.
فالكثير من التجارب الدولية المشابهة للوضع العراقي أثبتت إن التحشيد السلبي للرأي العام غالبا ما يكون ذو مردودات عكسية تتجاوز نطاق أبعاد المرحلة المقصودة.
حيث يؤكد علماء الاجتماع على إن الطبيعة المائعة للرأي العام قوة حقيقية شانها شان الريح له ضغط لا ترى ولكنها ذو ثقل عظيم، لا تمسك... ولكن الرؤوس تنحني لها تطبعا.
فضلا عن ذلك تقع على النخب والأحزاب السياسية مهام جسيمة تنطلق من قناعة راسخة وإيمان مطلق لمبادئ التعددية السياسية والقبول بالآخر وتأمين سلامة تداول السلطة بشكل سلمي وحضاري يواكب الديمقراطيات المتقدمة، وفق حراك مسئول قادر على درء البلاد خطر الانقلابات العسكرية مستقبلا.
إلى جانب دورها في العمل على خلق وعي مجتمعي مدرك لماهية وضرورة المشاركة في بناء النظام الديمقراطي، يكون قادرا على الفصل بين مفهوم نظام الدولة وحرمته، وطبيعة الحراك الشعبي الطامح إلى تغيير واقع ما، بشكل يحد من تفاقم ظاهرة العزوف عن الانتخابات، بدلا من تكريس حالة الإحباط التي تتملك المواطن العراقي البسيط بسبب نقص الخدمات.
فليس من الحكمة أن يكون الغبن نصيب ما تم انجازه خلال الفترة الماضية، أو غض الطرف عن حجم التضحيات المبذولة في سبيل ذلك، نظرا الى إن ما كل تحقق كان بمشاركة مختلف شرائح المجتمع، دولة وحكومة وأفرادا كلا حسب موقعه.
* مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام
http://annabaa.org