مشروع تغيير العالم
كان المفكر المصرى أنور عبدالملك أول من أطلق مفهوم «تغيير العالم» فى ثقافتنا العربية فى كتابه الذى حمل هذا «العنوان» والذى صدر عن دار المعرفة بالكويت عام 1985 دون أن يلتفت إليه أحد ويا للأسف الشديد، ثمة أسئلة خطيرة لابد أن يسألها أى مفكر أو مختص باختلاف الرؤية عن جمهرة السياسيين حيال ما يخبئه المستقبل لدولنا ومجتمعاتنا التى لم تؤسس حتى يومنا هذا طريقها نحو المستقبل، لا على مستوى المبادئ والدساتير، ولا على مستوى المؤسسات والتحولات! ثمة أسئلة تنتظر أجوبة وافية عليها بلا أية التواءات أو منافذ هروب، خصوصا ونحن فى عصر تتسابق فيه المصالح الدولية، وتتزايد فيه تحديات التغيير، وتختلط فيه الرؤى، وتتباين فيه الاتجاهات، وتزيف فيه المعلومات من خلال الإعلاميات والاتصالات المتنوعة والأجهزة الخفية المتسعة والمضادة! ولقد تأخرنا فى اجتياز الزمن والتخضرم بين قرنين، مع بقاء اجترار مفاهيم القرن العشرين التى عاشت مجتمعاتنا على هوسها منذ أكثر من خمسين سنة!وغدت مستهلكة لا قيمة لها أبدا فى عالم يشهد متغيرات سريعة جدا، وهى تنتج تراكم مشكلات ومعضلات، لم تتم أية استجابات لها حتى يومنا هذا بتأسيس تاريخ جديد، كما أن زعماء المنطقة لم يجدوا حتى اليوم أية علاجات جذرية واقية وأية حلول عملية مصدرها أولئك الذين يفكرون بالمصير التاريخى الذى ينتظرنا جميعا!
انتحار الإرادات وإعادة إنتاج المستهلكات
ربما يتنادى الجميع بأن الحلول جاهزة، ولا حاجة للمجتمعات فى طرح أية بدائل! ولكن ثمة من يطرح بأن تتلاقى كل الاتجاهات والتيارات مع بعضها البعض من دون رصد مسبق كى تنبثق إرادة جماعية موحدة بعد مخاضات قرن مضى بكل انتصاراته وهزائمه، بل وكانت منطلقا للعديد من الحركات الفكرية والسياسية الساخنة، وكانت مواطنها بؤرا راسخة لعدد لا يحصى من التجمعات والمنتديات والأحزاب السياسية والنخب الثقافية سواء الليبرالية أم الراديكالية والتى لم تنجح وياللأسف إلا فى ترسيخ الحكومات العسكرية والأنظمة الشمولية والدكتاتوريات المنغلقة تحت مسميات وشعارات لا يحصى عددها.. وإنها لم تزل تعيد إنتاج نفسها بنفس الحماس والحيوية والقوة، ولكن ليس باتجاه الأنشطة المتمدنة الذكية، بل ضمن اتجاهات متخلفة أو أصولية مكفهرة وتيارات ماضوية متخلفة وما ورائية بعيدا عن كل قيم التقدم والحرية، كما أنها لم تبق أبدا صامدة بوجه التحديات القاسية التى مرت عليها ولم تتجاوزها مطلقا على غرار بقية المجتمعات الأخرى (وخصوصا مجتمعات المعسكر الاشتراكى الذى عاش فى النصف الثانى من القرن العشرين) التى وجدت فى مشروع «تغيير العالم» الفرصة الذهبية من أجل تبديل الأنظمة، ليس السياسية فقط، بل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أقل تقدير.
هكذا كانت مشروعات دولنا ومجتمعاتنا، قابلة لنحر الإرادات العملية والإنتاجية والإبداعية ومستعدة دوما لإعادة إنتاج المستهلكات وبقايا المورثات العقيمة التى لا نفع فيها اليوم مطلقا كما يحدث اليوم فى مجتمعات عربية وإسلامية والتى كان لابد لها من عمليات جراحية تحديثية وإصلاحية على غرار البيروسترويكا والغلاسنوست (=الانفتاح والشفافية وإعادة الإصلاح)! وكان على الحكومات العربية المعاصرة أن تدرك سرعة التحولات وقوتها فى العالم كله، كان عليها أن تفعل شيئا ما بخصوص ممارسة أية أنواع من التغييرات من أجل ما حصل فى العالم أجمع وفى كل الاتجاهات ولكن ذلك لم يحدث - مع الأسف -، بل حصل العكس وساد استشراء التطرف وتكريس التجزئة ومحاربة الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان وتخصيب النزعة الماورائية والإنشائيات الإعلامية والخطابات الفضفاضة الفارغة إلخ.
التحديات والصعاب لا نواجهها إلا بالانقسامات والتناقضات!! لابد أن تطرح عدة تساؤلات مهمة فى سياق الطرح فى أعلاه:
هل ستكون هذه الأقوال كسابقاتها من التصريحات العربية؟
هل أنها ستكون مجرد اجتماع رأى للصفوة العليا من المفكرين العرب الذين يعلنون ما يريدون قوله من دون أى دراسة ولا تفعيل ولا توظيف ولا متابعة؟ هل ستكون وجهات نظر تلك الصفوة معبرة عما تريده الأمة أم أنها ستزيد من هوة التناقضات بين ما يطمح إليه المفكرون والحكماء العقلانيون وبين ما يعلنه الشارع السياسى الذى لا يعرف المسكين ماذا يفعل إلا الرجوع والاستكانة بعد هيجانه وقد غدا صوته مبحوحا ومجروحا؟ وهل تطمح الصفوة أن تجد حلولا سريعة وإعلانية وشعاراتية وتكتيكية أم أنها تسعى لأن تؤسس ثوابت استراتيجية من أجل تاريخ جديد لكل المنطقة؟ وعليه، هل تقبل حكوماتنا كلها بأى دور للمؤسسات المدنية والأهلية لكى تفعل ما تريد فى إطار القانون؟ أعتقد أن الوقت قد فات اليوم، إذ غدت التدخلات الخارجية (والأمريكية خصوصا) سافرة بحيث لا يمكن لأى حكومة فى العالم اليوم إلا ورعاية مصالحها الحيوية إزاء هذا القادم الجديد الذى افتتح القرن الواحد والعشرين بكل قوة واندفاع، ومن المحزن جدا أن هناك من نبه إلى مثل هذه التحديات قبل حلولها ومنذ سنوات خلت ومن بين صفوتنا العربية المفكرة.. ولكن ياللأسف لم تلتفت الحكومات العربية ولا مجتمعاتنا إليه وإيجاد حلول عملية ونوعية للحياة المشتركة، ففات القطار سريعا على الجميع وعبر ولن يتوقف عند جميع المحطات.. فأين سيصطدم.. لا أحد يعلم!
تاريخ جديد للعالم بدأ العام 2009 !
كل هذا وذاك يعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك أن تاريخا جديدا قد بدأ فعلاً - فى نظرى - عام 2009 أى أثر الاقتراب من نهاية العقد الأول من هذا القرن الجديد، إذ نلحظ اختلافا مباشرا عما ألفناه فى القرن العشرين من التجارب والأحداث والتفاعلات والآثار.. إننى أجد أن إرادة الدولة غدت أقوى بكثير من تطلعات المجتمع الذى لم يزل يعتقد بأن صوته له تأثيره وفاعلياته فى الحياة السياسية، وهو على خطأ كبير فى التقدير، خصوصا بعد مرور القرن العشرين الذى عاش مختلف البدائل التاريخية بولادة وظهور وقوة وموت العديد من الإيديولوجيات والعقائد السياسية التى كنستها اليوم عمليات «تغيير العالم»، لقد هيمن هذا المشروع على هذا العالم، ولم يعد يسمع فيه إلا صوته ولا يعمل إلا من خلال ما يفرضه على الآخرين من التوجهات والأساليب والمناهج والخطط والعمليات.
لقد بدا واضحا أن كل ما تعبت عليه ومن شأنه دول ومنظومات وتكوينات سياسية وعسكرية وأجيال ممثلة بأحزاب ومنظمات وكتل وجيوش وجماعات ونقابات ونخب وهيئات.. فضلا عما تربت عليه الشعوب من قيم ومبادئ وطنية وقومية ودينية وأعراف وظيفية ونقابية ومهنية.. ناهيكم عن أعراف وقوانين ومؤسسات ومنظومات وأجهزة.. كلها لا نفع أبدا فيها، كما أنها لا قيمة لها ولا تتمتع بأى نوع من السيادة والكبرياء وشرف المواطنة.. إلخ.. لأنها غدت جزءا من تقاليد الماضى التى يعتبرها هذا العصر بمثابة موروثات مركبة وتالفة لا دور لها ولا نفع منها اليوم فى ظل تغيير العالم المعاصر، وغدت مجموعة القيم والأفكار السياسية والعقائدية لها من الخصوصية التى لا يرى العولميون الجدد أن الشعوب بحاجة إليها.. باستثناء العادات والتقاليد الاجتماعية والفلكلورية فهى جديرة بالانتشار إذا ما رغبت فيها شعوب أخرى.
سطوة التاريخ وسقوط المستقبل
إننى أدع نفسى كل يوم لوحدها قليلا ليس من أجل مفاجأة السماء روحيا فقط، بل من أصل التفكير فى الأرض ومصيرها تاريخياً! أفكر قليلاً لأدع قرائى الأعزاء يفكرون ملياً خصوصا عندما نسترجع ما كنا قد تربينا عليه نحن فى القرن العشرين من القيم والثوابت والمبادئ والأصول.. أفكر اليوم كم أصبحت كلها هشة قابلة للانكسار والتفتت فى أية لحظة من زمن جائر وعلى أيدينا! كيف كانت فكرة الوطن والسيادة وعلم البلاد والنشيد الوطنى وجيش البلاد وحرمة الشبر من الأرض والمقدسات والشهادة.. أذكر معلمنا كيف كان يقول والوردة البيضاء معلقة على صدره: الوطن كالثوب الأبيض الناصع، علينا أن نحافظ على نظافته كيلا تصيبه أى بقعة حمراء أو لطخة سوداء لا يمكن أن تمحى عنه أبدا، فنكون قد سجلنا نقطة مشوهة فى تاريخنا أمام كل العالم وستحاسبنا الأجيال على ذلك! كنا نسأله ويجيبنا ونحن من اليافعين كيف نحافظ على أسوار الوطن وأسراره من العاديات؟ وكيف نكون أذكياء ويقظين ومنتبهين،
فلابد أن نختبئ قليلا عندما تهب علينا العواصف الهوجاء.. وعلينا أن نتحاشى شراسة الخناجر والسكاكين كيلا نتضرج بدمائنا ونفتقد هيئتنا فى العالمين! وعلينا أن نتعامل مع الآخرين بكل مهارة وحذق فى الأسواق الفاحمة المزدحمة من أجل النفع العام والصالح العام بعيدا عن دكاكين البارود فى ساحات الهرج والمرج، ثم نخرج من تلك الأماكن والثوب أبيض كالقرطاس! وإذا وجدنا أنفسنا والأوحال من حولنا؟ فلابد أن نحذر ونرفع الثوب الناصع إلى الأعلى ونجد طريقا ملتويا قصيرا بعيدا عن كل الأقذار، أما لو تعرض الثوب للتمزق ووهج الحرائق.. فلابد من اتقاء النار بأى ثمن كان.. فمن سيقى حرماتنا وأجسادنا وجلودنا..؟! رحم الله معلمنا كم كان شريفا يقدس الوطن والصالح العام!
وأخيراً، متى يدرك زعماؤنا بأن مشروع تغيير العالم لا يمكنهم أبدا مناطحته ومقاومته بمثل أوضاعهم المفككة الراهنة، فلابد من الشروع بمشروعات تغيير وتحولات وإصلاحات لكل مؤسساتهم وأجهزتهم! فهل سيحدث شىء
إننى أشك فى ذلك.
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4264 - السبت الموافق - 27 فبراير 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com