Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

من أين استوحى قادة كردستان السياسة العدوانية مع العراق؟

 

في بداية الإحتلال الأمريكي كنت كغيري من العراقيين متفائلاً قليلاً وقلقاً كثيراً لما سوف تسفر عنه الأحداث، ولكن التخلص من صدام كان حلماً هائلاً، كان كل عراقي تقريباً مستعداً للمخاطرة بالكثير من اجله. وكنت، ربما قد يستغرب البعض الذي قرأ بعض مقالاتي المتأخرة، كنت اعتبر كردستان والأحزاب الكردية نقطة تفاؤل إيجابية في المعادلة العراقية. فرغم علمي بالإرتباطات الكردية الأمريكية والإسرائيلية، لكني تصورت أن قادة الكرد والشعب الكردي سيدركان أن مصلحتهما مع العراق، وبالتالي ستدفعهما تلك المصلحة تدريجياً للتخلص من سيطرة أميركا وإسرائيل وتحديد أية علاقة غير طبيعية معهما، خاصة بعد تحرره من الحاجة إليهما في ظروف القتال، وخاصة ايضاً أن علاقة الشعبين الكردي والعربي في العراق كانت علاقة رائعة وقد وقفا معظم الوقت، إن لم يكن كله على الإطلاق، معاً ضد دكتاتورية صدام. وكذلك يعلم الكرد بعض الحقائق المنسية التي يمكن تذكيرهم بها، مثل أن الأمريكان هم من جلب صدام إلى الحكم في العراق، كما أنهم هم من منعوا الأمم المتحدة من إصدار إدانة لصدام حسين في جريمة حلبجة. إضافة إلى ذلك فقد سبق أن خدع الأكراد من قبل خندق أميركا – البعث فدعموا أنقلابهما على قاسم، والذي كانت له نتائج وخيمة ليس على العراق فحسب وإنما عليهم أيضاً في كردستان، وبالتالي ينتظر منهم بعض عدم الثقة بالأمريكان. كل هذا صحيح، ولكن.... كان تقديراً ساذجاً من قبلي، كما كشفت الأيام والسنين تباعاً. فقد تبين أن الإعلام الإسرائيلي الأمريكي قد أخذ وقته ومأخذه، وبنى ما يريد بناءه، ووجه كل الأحقاد نحو العرب وليس لمن كان يدير المآسي الكردية، ولن استغرب اليوم إن وجدت أن أكثر الأمريكان دناءة يعامل في كردستان بأعلى قيمة من أكثر عربي مبدئية، حتى لو كان هذا الأخير قد خدم القضية الكردية تحديداً!

رغم هضمي لخيبة الأمل، وفهمي لإستحالة التخلص من إسرائيل في أي مكان يتاح لها يوماً أن تتواجد فيه، بقي تصرف قادة كردستان مع العراق لغزاً محيراً بالنسبة لي، خاصة تلك الكفاءة في العمل السياسي وطابعه النشط والهجومي، والقدرة على الدخول بثقة العارف بالمستقبل، في أزمات خطيرة مع الحكومة العراقية، دون أن يخشوا فقدان الميزات الكثيرة التي تمكنوا من سلبها ببراعة (وإن كانت لا أخلاقية) خلال سنين الضياع العراقية الأولى، حين كان الأمريكان يضعون "سافلهم" في بغداد رئيساً للبلاد، وتمكنهم من تجيير الإنتخابات الأولى لصالحهم بأضعاف الأصوات بالنشاط وبالتزوير وبالتواجد الفعال في اللجان الإنتخابية وبالتعاون مع الإحتلال. فحصلوا مثلاً على حصة تبلغ (رسمياً) مرة ونصف بقدر استحقاقهم من النفط والمقاعد البرلمانية والمشاركة الحكومية والجيش، الخ (وعملياً أكثر من ذلك)، والتي صارت تعود لهم كل عام بأكثر من ثلاث مليارات دولار إضافية (مسروقة من بقية المحافظات، وجميعها أفقر من كردستان) عدا الأفضليات الأخرى (سرقة الكمارك وتهريب النفط الخ)، واستطاعوا إدامة هذا الإبتزاز سنة بعد أخرى ببراعة (ولا أخلاقية) رغم افتضاحه بشكل تام! 

والنقطة الثانية المحيرة هي العدوانية البالغة التي تتعدى أحياناً حاجة السرقة الفعلية وتحقيق المنافع والتصرف مع بغداد ليس فقط  باستقلالية لا يمكن أن يقبلها أي شريك، وإنما أيضاً بلغة التحدي الصلفة والمهينة، خاصة من البرزاني وأعضاء حزبه، التي يشعر معها كل عراقي عربي بأنه صغير ومخترق، حتى لو لم يكن قد انتخب الحكومة، وربما كان هذا أحد أهدافها. كذلك لم تكتف قيادة كردستان بتوقيع عقود النفط بالرغم من رفض بغداد ودستورها، وبالرغم من المخاطرة بخسارة الكثير بذلك، وإنما أيضاً وصولاً إلى الإستيلاء العسكري المباشر على الأراضي المجاورة للإقليم من المحافظات (السنية) المجاورة له ليبلغ الإقليم أكثر من ضعف مساحته الأصلية، والبدء بثقة العارف بالمستقبل، بعمليات تنقيب واستخراج لثروات الأرض. وقد بلغت تلك العدوانية مرحلة تجاوزت حتى الفائدة اللصوصية منها إلى مرحلة يصعب تفسيرها، حين تصر كردستان على سرقة النفط لتبيعه بمبالغ تافهة، بلغت احياناً نتائج مادية سلبية على الإقليم من ناحية مردود النفط، كما بين الباحث حمزة الجواهري في إحدى مقالاته. فبدا كأن السرقة كانت هدفاً بحد ذاتها، وأن كردستان تطلب العداء حتى في الحالات التي لا يفسرها الربح المادي! 

كذلك بدا وكأن كردستان كانت حريصة على توقيع عقود نفط ليست في صالحها! فحتى لو افترضنا أن الرغبة العارمة في الإستقلال الإقتصادي عن العراق هي التي تدفع بقادة كردستان إلى تصرفهم بنفطهم، فالسؤال المحير، لماذا يتصرفون به بطريقة مؤذية لهم عدا أنها مؤذية لحكومة المركز؟ فجميع عقود كردستان التي قاربت الخمسين عقداً، هي من نوع عقود مشاركة الإنتاج السيئة بالنسبة للبلاد، عدا عقدين! وقد حسب خبراء نفط عراقيين مستقلين وأجانب، (أشرنا إلى تفاصيل ذلك في مقالة سابقة) أن كردستان تعطي الشركات اربعة مرات بقدر ما تعطيه بغداد لهم، فلماذا هذا التبذير إذن، ولماذا التفريط بمصالح بلادهم وشعبهم؟ وكيف تستطيع حكومة كردستان تسويق هذه اللصوصية على شعبها بمجرد الهتاف بهتافات قومية وبالإستقلال عن بغداد، والتذكير بين الحين والآخر بالبعث وحلبجة والأنفال؟

فلو أفترضنا أن قادة كردستان يريدون صالح بلادهم فقط دون أن يهمهم العراق، (والجزء الأخير يبدو بجلاء تام)، وأنهم يسعون في النهاية إلى الإنفصال، فأن البراغماتية الأنانية هذه بالذات يفترض أن تدفعهم إلى المماطلة في استخراج النفط من أرضهم وتأجيله قدر الإمكان واستخراجه بأقل نسبة ممكنة، ليبقى لهم، بينما يستهلك الجنوب نفطه في تلك الفترة ويبنون فيها بلادهم مجاناً على حساب العرب،(كما بنى العرب بلادهم على حساب نفطهم، كما يقولون) حتى يحين موعد الإنفصال. لكن ما حدث كان العكس تماماً، فحين غضبت بغداد من كردستان على توقيع العقود، كان أشتي هورامي يصرخ: "كلما قالت بغداد غير قانوني، وقعنا عقدين إضافيين"! فلماذا هذه الهستيريا لإفراغ أرض كردستان من النفط بكل هذه العجالة والتبذير، بل وحتى تحمل الصراع مع المركز من أجلها؟

من الذي يقود كردستان بكل تلك الكفاءة للحصول على المكاسب (غير الشرعية) عنوةً، ثم يدفعها إلى تبذيرها بشكل غير مفهوم لصالح الشركات واللصوص؟ هل يسيطر الإسرائيليون والأمريكان عليها بشكل تام ليدفعونها نحو العمل لتدمير ثروتها وتبذيرها سريعاً بهذا الشكل؟ انطباعي أن قادة كردستان يملكون بعض الإرادة، والقدرة على قول "لا" بين الحين والآخر للأمريكان، مثلما فعلوا عندما رفضوا التخلي عن رئاسة العراق لعاهرة المخابرات الغربية المفضلة لدى اميركا: اياد علاوي، والذي كان أوباما يشترط لقبول الحكومة العراقية، أن يكون "في مكان عند القمة" فيها! إذن لماذا لا يقول قادة كردستان "لا" من أجل نفطهم؟ هل خططوا بعيداً جداً لكي يصلوا إلى نقطة لا نستطيع رؤيتها الآن، تصبح فيها هذه التصرفات الغريبة، صحيحة ورابحة؟ ما الذي يجعلهم يطمئنون لقدرتهم على تنفيذ تلك الخطة؟ من الذي يضمن نتائجها لهم؟ من الذي يقودهم في دهاليزها المظلمة التي يدخلون العراق فيها ويتصرفون وكأنهم يعرفون طريق الخروج دون غيرهم؟ 

وتبرهن الأيام أنهم يعرفون طريق الخروج وحدهم بالفعل، فكل كذبة كبيرة نتوقع سقوطهم فيها، يتمكنون في النهاية من عبورها بسلام، وفي كل مرة نقول أن المواجهة هذه المرة ستوقفهم عند حدهم، تظهر أحداث لتقلب الموازين لكي يستمر الغش والإبتزاز، ويكبر! 

لم يكن طريق اللصوصية للقيادة الكردستانية سهلةً، فقد كان عليهم عبور الفضيحة تلو الفضيحة. وكانت إحداها فضيحة كشفتها بورصة أوسلو في 2009، وأجبرت شركة DNO أن تدفع مبلغاً قدره (2,4) مليون كرون نرويجي لإخفاء الشركة معلومات تتعلق بمشتري بعض أسهمها، وتبين من التحقيقات أنه لم يكن سوى وزير الموارد الطبيعية في كردستان، الدكتور أشتي هاورامي شخصياً. وكشفت الملابسات أن "السفير" بيتر كالبريث كانت له حصة 5% في حصص شركة DNO من عقودها النفطية في كردستان، والتي وقعتها في 2004، حين كان كالبريث يقدم المشورة للقادة الكرد في مفاوضات إعداد دستور العراق. ولتفسير ما حدث، قال هورامي أنه كان يسعى لمساعدة  DNO و جينيل إينيرجي لأن "ظروفهما المالية" لم تكن جيدة حسب قوله، علماً أنهما كانا يمتلكان حقلين نفطيين منتجين في كردستان، أحدهما قدم "هدية" لجينيل إينرجي بطريقة مشبوهة، على انه "منطقة استكشافية"، وهو حقل طقطق، وكان موضوع فضيحة أخرى كبرى من فضائح هورامي السابقة حيث نقل الحقل من قوائم الحقول المنتجة إلى قوائم رقع الإستكشاف ليتمكن من بيعه رخيصاً للشركة، كما كشف فؤاد الأمير وكتبنا عنها سابقاً، وكان هناك الكثير منها حتى مل الناس من سماع المزيد من الفضائح.. وصمد لصوص كردستان!

كان هناك شعور بأن المحور الأمريكي الإسرائيلي يقف مع قادة كردستان في كل خطوة، مثلما يقف معه ممثلوا كردستان في البرلمان العراقي وفي مجلس الوزراء في كل قرار. كان يرشدهم لما يجب عمله، ويطمئنهم إلى أن الأمور ستكون لهم في النهاية، فليس غير أميركا وإسرائيل قادر على مثل ذلك. كنا نشعر بذلك، ولكن كيف بالضبط وما هي التفاصيل؟ لم نكن نعرف، حتى جاء اكتشاف الأستاذ فؤاد الأمير الأخير لحقائق في منتهى الخطورة، كانت في حقيقة الأمر معلنة وأمام أعيننا، لكن أحداً لم يبحث قبله في المكان الصحيح. هذه الحقيقة تستحق وقفة تنبيه سريعة، فهي تؤشر خللاً مخيفاً في العراق، حين تعتمد الحقائق الخطيرة فيه على جهود فرد وصدفة، ولا يوجد حزب واحد يخصص من بين أعداد أفراده الكبيرة وثرواته الكثيرة، البعض منها لمتابعة الحقائق والأحداث لكي يتخذ قراراته على أساس سليم أولاً، ولكي يساعد العراق على الرؤية في هذا الليل الضبابي الدامس الذي وجد نفسه فيه، فيعتمد على بضعة متوعين وعلى الصدفة! ما الذي يفعلونه إذن؟ هذا الخلل يستحق وقفة بمقالة خاصة، وما أكثر مثل هذا!

وجد الأمير الحقائق الخطيرة في كتاب "السفير" بيتر كالبريث: "نهاية العراق". وكالبريث يمثل نموذجاً من عصابات فساد السياسة والتي تسمى في أميركا بـ "الباب الدوار" (بين السياسة والشركات)، حيث يخرج السياسي من وظيفته الحكومية، ليشغل منصباً قيادياً في شركة كبرى، ويترك مدير شركة كبرى عمله ليشغل منصباً حكومياً خطيراً، في عملية مصاهرة علنية تمتص فيها الشركات مصالح الناس وثرواتهم وتحولها إلى الشركات، وتحول تكاليف الشركات إلى الحكومة لتدفعها من ضرائب الناس، وتجعل الحكومة تحت أوامر الشركات وقراراتها لصالحها، وأتمنى أن أعود لهذا الموضوع فلدي كم خطير من المعلومات فيه، ومن المؤكد أننا في هذا الدرب غير المبارك سائرون بفضل "الخصخصة" و "اقتصاد السوق الحر" التي تعبد اليوم في العراق أكثر من الله. في نظام "الباب الدوار"، يعلم رئيس الحكومة أو الوزير، أنه سيكون في الشركة الفلانية بعد تقاعده أو خروجه من الحكومة، وستكون له حصة من أرباح الشركة، فيعمل وهو في الحكومة على إصدار قرارات لصالحها على حساب البلد وهكذا...فمثلاُ قامت شركة أكسن موبيل في شباط 2013 بتعيين السفير الأميركي السابق في العراق جيمس جفري، كمستشار لها، (رغم أنه كان من أشد منتقدي أكسن موبيل في عقودها مع كردستان، على الأقل أمام الناس). ومن الطبيعي أن تأمل أكسن موبيل بتأثير جفري وعلاقاته مع الساسة العراقيين، وقدرته على الضغط عليهم، على استحصال قرارات بصالحها بدرجة أو بأخرى، وعلى حساب مصالح الشعب العراقي، وربما مصالح الولايات المتحدة نفسها. وكانت أكسن موبيل قد عينت أيضاً كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية السابقة، وستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس بوش الابن، مستشارين لها أيضاً! ما الذي يمكن أن "يشير" به مثل هؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً عن النفط، وكيف تبرر رواتبهم الخيالية التي لا تدفعها شركة ما لم تحصل على خدمة أكبر منها؟ إنهم رجال ونساء الضغط والإبتزاز، يعرفون من خلال عملهم الحكومي السابق، الأسرار والمعلومات الخطيرة، التي تتيح للشركات الضغط على الحكومات والبلدان الأخرى، في مناطق ضعفها، ويشمل ذلك حتى على الحكومة الأمريكية، فهم "مستشارون" في نقاط الضعف وأمكانيات الإبتزاز في المعركة بين الشركات ومختلف الحكومات التي تتعامل معها.

السفير الأمريكي بيتر كالبريث كان أحد هؤلاء، وشكل مع كل من شركة DNO وحكومة كردستان، مثلثاً للتآمر على الشعب العراقي. لقد كان كالبريث في حقيقة الأمر مع رفاقه، يصيغ شكل الظلام العراقي الحالي الذي يعيش فيه العراق، ويصمم مداخل ومخارج القفص الدستوري والقانوني والإداري للبلاد لصالح شركات النفط وعملائها، وبشكل يؤمن ليس فقط نهب العراق وابتزازه، ولكن أيضاً أن لا يستطيع العراق الإفلات من الإبتزاز حتى بعد اكتشافه. كان كالبريث العقل المفكر لمثلث التآمر، وكان قادة كردستان يلعبون دور المنفذ لأفكاره ووصاياه، وإيصالها كشروط كردية، إلى لجنة كتابة الدستور، وكانت شركة دي إن أو هي الممول لتلك المؤامرة.

يكتب الزميل علاء اللامي حول نفس الموضوع:  

"إن فكرة غالبريث التفتيتية هذه سوف تتحول حرفيا إلى المادة 115 في الدستور العراقي ونصها (كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، والصلاحيات الاخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، في حالة الخلاف بينهما).(1)

تقول النيويورك تايمز في مقالها في 12/11/2009، "عندما تم العثور على  النفط في حقل طاوكى في كانون الأول 2005، لم يكن سوى عدد قليل في حكومة إقليم كردستان والمسؤولين في الشركة والدوائر الضيقة التي تحيط بكالبريث يعرف بأن البنود التي أدخلها كالبريث في الدستور العراقي حول النفط قبل شهور قليلة، سوف تثريه بصورة كبيرة"! وأكد كالبريث أن عمله في DNO "ساعد في خلق صناعة النفط الكردية، والتي ساعدت في إعطاء كردستان القاعدة الاقتصادية لخلق حكم ذاتي يرغب به كل الأكراد تقريباً."

تلك كانت الأدوار، أما الغنائم فهي أن يحصل كالبريث على حصة من نفط كردستان، وعقود النفط الرخيصة لـ DNO وغنائم الإبتزاز من حكومة المركز و "حوسمة" ثروة كردستان، للصوص كردستان، فعمظم تلك السرقات لم تكن تدخل ميزانية الإقليم، والتي لم تعتمد إلا بعد 12 عاماً من التحرر من صدام حسين، وكانت ثروات كردستان ملكاً مشاعاً للحزبين (المناضلين من أجل شعبهما!) بلا أي حساب أو كتاب.

أثيرت حول كالبريث الشكاوى في أميركا من أنه كان يعمل لصالح DNO "بتضارب مصالح" مع عمله في حكومة الولايات المتحدة، فدافع عن نفسه بأنه لم يعمل في الوظيفتين في نفس الوقت (!) كذلك أكدت الشركة على لسان مديرها التنفيذي "نحن بالتأكيد لم نقدم أية مدخلات إلى الدستور سواء بالنسبة للغته أو لمقتراحات مواده"، لكنها لم تفسر إذن سبب دفع أجور كالبريث الذي كان يعمل مستشاراً لكردستان وليس للشركة! 

فقد جاء في صحيفة البوستن كلوب Boston Globe في 6/10/2010 : كان كالبريث يعمل كمستشار بأجر في سنة 2003 لقادة كردستان في أثناء مناقشاتهم مع الحكومة المركزية. كما أنه ساعد في كتابة "بعض بنود الدستور، والتي أعطت الكرد السيطرة على حقولهم النفطية المكتشفة حديثاً في مناطقهم". وبعد ذلك قدم "النصائح" للكرد بصورة غير رسمية، وبلا مقابل! – إن شخصاً مثل كالبريث لا يعمل "بلا مقابل" فمن كان يدفع له؟ كتب كالبريث ذلك بصراحة: "لم يدفع الكرد لي أي مبلغ في هذه الفترة، إذ كانوا يعرفون أن DNO كانت تدفع لي". 

وهنا ننبه إلى أن قادة كردستان كانوا إذن يتقبلون نصائح شخص يعرفون أن شركة نفط تدفع له، وأن نصائحه بالتالي موجهة من الشركة، وقد لا تكون بالضرورة في صالح كردستان، ولاشك أنهم كانوا يعلمون تماماً أنها لا يمكن أن تكون في صالح العراق، ومع ذلك وضعوا أنفسهم في خدمة هذا الرجل والشركة التي يعمل لحسابها، ونقلوا شروطهما وصيغهما الخبيثة إلى الدستور العراقي بلا تحفظ!

وقد عبّر فيصل أمين الأستربادي، أحد كاتبي الدستور العراقي - في النيويورك تايمز، فور افتضاح تلك العلاقة، عن ذهوله من تلك "العلاقة" وما تضعه من علامات استفهام حول استقامة وشفافية مناقشات الدستور العراقي برمتها، وقال: "إن فكرة أن شركة نفطية تساهم في إعداد دستور تتركني عاجزاً عن النطق"! فـ "الشركة من الناحية العملية كان لها ممثل في غرفة صياغة الدستور"، حسب تعبيره، وهذا "الممثل" كان قادة كردستان!

إذن فهذا التوافق، هو ما يفسر حيرتنا التي أشرنا إليها في الأسطر الأولى من هذه المقالة، عن تبذير عقود النفط في كردستان مع الشركات. ويقول فؤاد الأمير، أنه لولا "علاقة كالبريث بحكومة الإقليم ودوره في "نصيحة" القادة الكرد فيما يتعلق بالدستور وغيره، ما كان لشركة DNO ان تحصل أصلاً على مثل هذه العقود السخية".  ومن الطبيعي أن نتوقع أن الأمر لا يتوقف على كالبريث و DNO ، وأن لبقية الشركات التي حصلت على عقود سخية، "كالبريثاتها" المختلفة، التي ربما فضلت الصمت والتمتع بمغانمها على الشهرة. إن مسعود البرزاني عندما قال أن شركة اكسون موبيل تعادل عشرة فرق، كان يعرف ما يقول، بل يصعب علينا أن نتخيل أن تتمكن عشرة فرق عسكرية من إنجاز تدمير يوازي التأثير المدمر لشركات النفط العملاقة على الوضع السياسي والإقتصادي في البلدان التي تعمل فيها ومستقبلها.

بيتر كالبريث عضو في مجلس الشيوخ افي فيرمونت عن الحزب الديمقراطي، هو ابن الاقتصادي المعروف جون كنيث كالبريث. طرد من منصبه في أفغانستان في أيلول 2009 من قبل ممثل الأمم المتحدة النرويجي كاي آيد إثر اختلاف حول نتائج انتخابات الرئاسة الأفغانية، حسب الأمير. وفي سنة 1992 أخرج كالبريث من العراق (14) طن من وثائق الأمن العراقي التي تم الاستيلاء عليها من قبل البيشمركه. 

لم يكتف كالبريث بالنصائح لقادة كردستان حول ما يجب أن يشترطوه للدستور، بل قدم لهم أيضاُ النصح بالإتجاه نحو إستراتيجية عدوانية كاملة وتمكن من إقناعهم باتباعها في مستقبل تعاملهم مع العراق، فلم تكن نصائحه بشأن الدستور إلا لدعم تلك الستراتيجية المدمرة وجعلها أكثر سهولة وفعالية، ولمحاصرة أي اعتراض عليها وإزالة العراقيل من أمامها.

يقول كالبريث في كتابه المهم: "نهاية العراق": "بعد أن غادرت العراق في أيار 2003، أدركت أن لدى القادة الكرد مشكلة في المفاهيم فيما يتعلق بالتخطيط للعراق الفيدرالي. إذ إنهم كانوا يفكرون في تفويض للسلطات، والذي يعني أن بغداد هي من تعطيهم حقوقهم. ولقد أقنعتهم بأن  المعادلة يجب أن تكون معكوسة! وفي مذكرة أرسلتها إلى برهم صالح ونيجرفان بارزاني في آب 2003، أوضحت الفرق بين حالتهم السابقة وما يجب أن تكون عليه. وقلت لهم أن الفيدرالية نظام قلب الأسفل - أعلى bottom –up system". (تتجه فيه السلطة من الأسفل إلى الأعلى)، حيث "إن الإقليم أو المنطقة تبادر إلى أخذ ما تريد من سلطة، ثم تتنازل عن بعض الصلاحيات وحسب اختيارها إلى الحكومة المركزية" و "أن الحكومة المركزية ليس لها الصلاحية بأن تناقض صلاحيات الأقاليم والمحافظات"! وقال أنه ألح عليهم بالتوسع في زيادة مطالبهم!

هل صحيح أن هذا هو النظام المعتمد في الفدراليات، وان حكومة المركز فيها تأخذ ما تتركه لها الأجزاء من صلاحيات فقط؟  هل صحيح أن على الحكومة المركزية أن ترتب دستورها بحيث لا يناقض دساتير الأقاليم والمحافظات؟ كيف نرتب دستوراً أو قانوناً، ليناسب دساتير أو قوانين متعددة؟ ماذا لو تناقضت تلك المتعددة فيما بينها؟ أليس المنطقي ان ترتب الأطراف دساتيرها وصلاحياتها بشكل لا يناقض دستور وقوانين وصلاحيات المركز؟ هل المنطق أن ترتب نقطة المركز نفسها لتصطف مع نقاط عديدة، كل منها مستقل تماماً عن الآخر، أم أن تترتب النقاط العديدة لتصطف إلى نقطة مركز واحد؟ إننا لا نتصور أن كالبريث يستطيع أن يجد دولة واحدة كانت قادرة على البقاء على قيد الحياة بهذا النظام. 

لكن السؤال هو إن كان كالبريث أصلاً يهدف إلى صنع عراق "قادر على البقاء" أم يقصد العكس؟ 

إن كتاب "نهاية العراق" يدور بشكل عام وصريح حول ضرورة تقسيم العراق بل ويلوم فيه إدارة بوش لعدم قيامها بتقسيمه قبل خروجها منه! ويلاحظ الأمير أنه عندما رشح بايدن في أواخر خريف 2008 لمنصب نائب الرئيس، هتف كالبريث "هذا الأمر مشجع جداً"، وبايدن الذي يصف نفسه بالصهيوني، كان دافعاً أساسياً لسياسة تقسيم العراق في الحكومة الأمريكية.. 

لقد كان قادة الكرد يبحثون عن أقصى صلاحيات تعطيها لهم الحكومة المركزية (تفويض) إستناداً إلى المنطق السليم البسيط، وبهدف إبقاء العراق على قيد الحياة على ما يبدو، لكنهم خدعوا بفكرة كالبريث وأما أنهم لم يروا مقاصده المدمرة، أو أن السلطة الهائلة ونتائجها المالية التي حصلوا عليها أغرتهم وأسكرتهم تماماً، فتركوا فكرة "بقاء العراق"، وأعتبروه ساحة صراع وتناهب متبادل، وأن الحصول على أكبر قدر من لحمه يمثل الشطارة في السياسة، حتى لو كان من لحم القلب! 

يقول كالبريث في كتابه أعلاه: "في 10/2/2004 دعى نيجرفان برزاني القيادات العليا من الحزبين الرئيسين PUK وKDP إلى اجتماع في مجلس النواب الكردستاني ، وقدمت فصل كردستان إلى المجتمعين، ... و(قلت أنه) عدا بعض الأمور القليلة ... فإن القوانين التي تشرع في مجلس النواب لكردستان يجب أن تكون لها السيادة في الإقليم. وإن حكومة إقليم كردستان سيكون باستطاعتها تأسيس قوات مسلحة". ويضيف: "إن إقليم كردستان سيملك أرضه وماءه، ولكن الحكومة الاتحادية في بغداد ستستمر بإدارة جميع الحقول المنتجة تجارياً في الوقت الحاضر، لأنه لم يكن هناك حقول تجارية (منتجة) ضمن إقليم كردستان حينها، أي كما هو محدد في حدود 18/3/2003". و"كان لهذا الاقتراح الأثر الكبير في إعطاء كردستان السيطرة الكاملة على نفطها"، كما يذكر. ويشير كالبريث إلى أنه اعتبر الإستفتاء غير الرسمي على استقلال كردستان، نجاحاً شخصياً له (صفحة 171). 

ويقارن الأستاذ فؤاد الأمير بين نصائح كالبريث للكرد للمجابهة مع المقابل، ونصائح معاهد "للدراسات الإستراتيجية" لمجموعة المحافظين الجدد التي أسدوها لنتانياهو عندما فاز في الانتخابات الإسرائيلية في سنة 1996، وكان "الحل السلمي" على أساس "الأرض مقابل السلام"، لا يزال مطروحاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين فنصحت المعاهد نتانياهو برفض هذا المبدأ والإحتفاظ بالأرض (التي كان يحتلها) لتكون المعادلة "السلام مقابل السلام" فقط، وكان نتيجتها صدور الدراسة المشهورة "القطيعة الكاملة Clear Break"، والتي أدت بالمفاوضات، و"الحل السلمي" إلى "القطيعة الكاملة" - الفشل. 

ويتساءل الأمير عن قصد كالبريث من كل هذا، وإن كان يريد للكرد أن يستقلوا بنفطهم عن العراق، منبهاً إلى أن "هذا الأمر سوف يضر كردستان كثيراً في ذلك الوقت، إذ إن نسبة الاحتياطي المعروف في كردستان في حينه (حتى لو أضفنا إليه حقل كركوك) مقارنة باحتياطي جميع العراق، هو أقل من نسبة الحصة التي يأخذها الإقليم من الميزانية العامة، وهذا الأمر أيضاً صحيح حتى بعد الاكتشافات النفطية الكردية الحديثة." ليستنتج أنه "من المحتمل أنه كان يفكر بأن نفط كردستان يبقى لإقليم كردستان، وفي الوقت نفسه تبقى لهم حصتهم في نفط العراق وبنفس النسبة التي يأخذونها من الميزانية العامة!! وفي واقع الحال هذا تقريباً ما عملت عليه حكومة الإقليم في السنوات الأخيرة"، حسب فؤاد الأمير! 

أخيراً نأتي إلى أخطر نصائح كالبريث طراً لقادة الكرد حين يقول (ص 160)."وكتبت في النهاية، بأن أي تناقض بين قوانين كردستان وقوانين أودستور العراق، سوف يكون في صالح كردستان".!! 

لقد كتب كالبريث الكثير من الحقائق بالكثير من الصراحة ولعل هذه أقوى ما كتب، ولاشك أنه أبقى لنفسه ولكردستان أخطر الحقائق التي اعتبرها غير مناسبة للنشر. مثلاً كيف أقنع كالبريث المسؤولين الكرد بتلك القواعد التي تعكس اللعبة؟ وما هي الضمانات التي قدمها لهم لكي يطمئنوا إلى إتباع نصيحته؟ ما هي الحقائق التي كشفها لهم والدعم الذي وعدهم به لكي يقتنعوا بالمخاطرة بمجابهة شركائهم، واعتماد ذلك استراتيجية عامة؟ هل كانت بعض المعلومات التي استقاها من أطنان الوثائق التي هربها إلى أميركا جزء من تلك الأسلحة لإبتزاز بغداد مثلاً؟ كل هذا لم يقله كالبريث، لكن ما أعلنه وحده يكفي لتخيل ما يمكن أن تأتي به تلك النصائح من نتائج على البلد. 

فأي نوع من اتحاد أو تعاون بين مجموعة ما، يعتمد على وجود "المصالح المشتركة" بينها، واستعداد هذه المجموعات لتقديم بعض التضحيات لأجل الإتفاق وإزالة التناقضات وبناء الثقة بينها والإستعداد لتشذيب وتنسيق بعض قوانينها لتنسجم مع القانون العام للمجموعة، من أجل الحصول على تلك المصالح المشتركة. لكن ما الذي سيحدث حين يتم إقناع إحدى تلك المجموعات أن "المعادلة يجب أن تكون مقلوبة"! وأن الدستور الذي تتفق عليه المجموعات الأخرى هو الذي يجب أن ينحني ويشذب ليتناسق مع دستورها؟ ما هي فرصة الوصول إلى إتفاق إن طالبت واحدة أو كل من بقية أفراد المجموعة بنفس تلك الصلاحيات؟ والأخطر من كل ذلك، ما الذي ينتظر من جهة اقتنعت بأن "أي تناقض بين قوانينها وقوانين المجموعة، سوف يكون في صالحها"! ألن يكون السعي إلى التناقض والصراع وخلق المشاكل، سياستها العامة الستراتيجية في التعامل مع بقية المجموعات؟ وهل تبنت كردستان فعلاً منطق مستشارها كالبريث هذا فعلاً؟

هذا سؤال خطير لأن في جوابه يتحدد كيف يجب التعامل مع كردستان بقيادتها الحالية، لأنه إن كان الجواب بالإيجاب، فلا فائدة من إضاعة الوقت بمحاولة إقناعها بشيء، لأنها إن كانت مقتنعة فعلاً بأن الخلاف والتناقض والصراع في صالحها، فأن من سيحاول الإتفاق معها على حل ذلك "الخلاف والتناقض" سيكون كمن يحاول أن يقنع جهة ما بالتخلي عن مصالحها، وهذا مستحيل! لا مفر في هذه الحالة من السعي لإقناع قادة كردستان بالعكس، وأن الصراع لن يكون دائماً مكسباً، سوف يرد عليه بصراع وأن الهجوم سيرد عليه بهجوم وبالتالي فأن ضرر الصراع والتناقض لن يقتصر على الآخرين وأنه سيضر بهم وبمصالحهم ايضاً! فإن لم يكن هذا "الإقناع" ممكناً لأية أسباب سياسية أو عسكرية، وكان فوق طاقة حكام بغداد، فأن من واجب ساسة العراق الإسراع بمحاولة إنقاذ ما تبقى منه بتأمين عملية الإنفصال بأقرب وقت وأقل الخسائر!

هكذا نصل إلى هدف كالبريث في نهاية الأمر، فقد نجح بأن يضعنا بين خيارين أفضلهما هو أن ننفذ خطته في الإنفصال، او جزء منها على الأقل، فما يطمح به كالبريث وإسرائيل ممثلاً بمشروع بايدن هو تقسيم العراق إلى ثلاث أقسام على الأقل وليس أثنين. الخيار الآخر هو أن نسلم أمرنا بيد "أصدقاء" كالبريث وبايدن، وهو الأسوأ بلا شك. خاصة وان هؤلاء "الأصدقاء" قد اقتنعوا من تجاربهم بأن المجابهة والعدوانية على المقابل ستحقق لهم دائماً المزيد من المكاسب كما قال عرابهم، فما الذي سيقنع "الشركاء" بالتنازل عنها أو حتى بالتوقف عند نقطة ما من الظلم؟ إن من يدافع اليوم بشراسة عن الـ 17% ليس اللصوص الذين رتبوها فقط، وإنما حتى الناس العاديين في كردستان صاروا يشعرون أنها "حقهم" و "غنيمتهم" التي يريد الآخرون سلبها بغير وجه حق! اللصوص في القيادة سيرون هذا النجاح الباهر بمضاعفة حصتهم ورضى مواطنيهم وإذعان الضحايا، وسيفكرون : لماذا لا نجعلها 3 أضعاف؟ أربعة؟ ألم يقل السيد كالبريث أن أي خلاف سيكون في صالحنا وألم تبرهن الأيام دقة كلامه؟ 

نعود لسؤالنا إذن: هل أقتنع قادة الحزبين الرئيسيين في كردستان في اجتماعهم الذي دعاهم نيجرفان إليه في 10/2/2004، فعلاً بما طرحه كالبريث، وأنهم يتبعون اليوم نصائحه؟ للجواب على هذا السؤال الخطير الذي يجب أن يحدد موقف العراق من كردستان، يجب أن نراجع الأحداث التي مرت ونستنتج منها الجواب، وفي تقديري أن الجواب هو بالإيجاب، وسوف تكون الحلقات التالية من المقالات موجهة لاستيضاح الخطوط العامة لسياسة كردستان وخطابها الإعلامي خلال السنوات الماضية، مع التركيز على الأشهر الأخيرة لأنها مازالت طرية في ذاكرتنا.

(1) http://almothaqaf.com/index.php/qadaya/74682.html

20 أيار 2013 


Opinions