Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

من ذاكرة التاريخ.. الإمبرياليون يعدون للانقلاب على نظام عبد الرحمن عارف

15/8/2010
لا شك أن هناك أمورٌ كثيرة تتعلق بالوضع السياسي في العراق كانت قد أقلقت الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين، وجعلتهم يستبقون الأحداث، ويدبرون انقلابهم ضد حكومة عبد الرحمن عارف، وكان أهم تلك الأمور المقلقة ما يلي:

1- ضعف سلطة عبد الرحمن عارف، وتنامي النشاط الشيوعي من جديد، وظهور توجهات لدى الحزب الشيوعي، ولدى القيادة المركزية التي انشقت عن الحزب، للسعي لقلب الحكم بالقوة واستلام السلطة، مما أثار قلق الإمبرياليين الذين وضعوا في الحسبان إمكانية إسقاط ذلك النظام الهش الذي يفتقر لأي سند شعبي، وتتآكله الصراعات بين الضباط المهيمنين على السلطة، وانشغالهم في السعي للحصول على المكاسب والمغانم، مما جعل الحكم في فوضى عارمة يمكن أن تُسّهل عملية الانقضاض عليه، وتوجيه الضربة القاضية له، وإسقاطه .

2ـ محاولات القوى الناصرية لفرض الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة كانت تسبب للإمبرياليين المزيد من القلق، حيث تشكل الوحدة أكبر خطر على الوجود الإمبريالي في المنطقة، وعلى إسرائيل التي تمثل القاعدة المتقدمة للإمبرياليين، وسيفهم المسلط على رقاب العرب.

3- قرار حكومة طاهر يحيى الصادر في 6 آب 967 باستعادة حقل الرميلة الشمالي من شركة نفط العراق، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، ومعروف أن هذا الحقل غني جداً بالنفط، مما أثار حنق شركات النفط الاحتكارية التي اعتبرته تحدياً جدياً لمصالحها النفطية.

4- عقد اتفاقية نفطية مع الاتحاد السوفيتي بتاريخ 24 كانون الأول 1967 حيث تعهد الاتحاد السوفيتي بموجبها بتقديم كل المساعدات التقنية وتجهيزات الحفر لحقل الرميلة الشمالي، واستخراج النفط وتسويقه لحساب شركة النفط الوطنية، وقد اعتبرت الإمبريالية هذا الأمر تغلغلاً سوفيتياً في هذه المنطقة الهامة التي تحتوي على نصف الخزين من الاحتياطات النفطية في العالم، واتخذت قرارها بالتصدي لهذا التغلغل المزعوم .
5ـ إقدام حكومة عارف على عقد اتفاقية نفطية مع شركة إيراب الفرنسية للتنقيب والحفر واستخراج النفط في منطقة تزيد مساحتها على 11000 كم مربع تقع في وسط وجنوب العراق، وذلك بمعزل عن الاحتكارات النفطية البريطانية والأمريكية، حيث اعتبر ذلك تجاوزاً على مصالحهما النفطية في المنطقة.

6- رفض حكومة عارف منح شركة [ بان أميركان ] الأمريكية امتيازاً لاستخراج الكبريت في العراق، حيث اكتشفت كميات كبيرة منه على نطاق تجاري مما أثار نقمة الحكومة الأمريكية.

كل هذه العوامل جعلت الإمبريالية تقرر قلب نظام عبد الرحمن عارف الهش، والإتيان بحكومة جربتها يوم دبرت انقلاب 8 شباط 1963، تلك هي حكومة انقلابيي 8 شباط 1963 البعثية التي أعلنت الحرب الشعواء على الشيوعيين وكل الوطنيين، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، وصفت كل منجزات الثورة التي ناضل الشعب العراقي من أجل تحقيقها.

وحيث أن حزب البعث لم يكن له القدرة على تنفيذ الانقلاب بمفرده، فقد استطاعت الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا الاتصال بـ [عبد الرزاق النايف] رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، و[إبراهيم الداود] آمر الحرس الجمهوري، و[سعدون غيدان] أمر كتيبة دبابات القصر الجمهوري، والاتفاق معهم للقيام بالانقلاب، وذلك بالتعاون مع حزب البعث، وكانت تلك خطوة تكتيكية من قبل الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين تستهدف امتلاك حزب البعث، الذي سبق وجربته فيما مضى، لناصية السلطة المطلقة في البلاد، ولذلك كان لا بد من تأمين مشاركة قيادات عسكرية متنفذة في أجهزة السلطة العارفية لتقود التحرك الانقلابي المنشود، وأوعزت لهم ضرورة التعاون مع حزب البعث لضرورة كسب الشارع العراقي بدعوة امتلاك حزب البعث لقاعدة شعبية.

كيف أُعدّ الانقلاب وَمنْ قاده؟
جرت عملية الإعداد للانقلاب من قبل الدوائر الإمبريالية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، حيث سعت تلك الدوائر لتعاون العناصر الموالية لكلا الجانبين. فهناك البعثيون على الجانب الأمريكي، وعبد الرزاق النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداؤد وزمرتهما على الجانب البريطاني.
كان النايف يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، فيما كان الداؤد يشغل منصب آمر الحرس الجمهوري.
سارع الإمبرياليون بالاتصال بالانقلابيين عن طريق عميليهما الدكتور [ناصر الحاني] سفير العراق في بيروت، و[بشير الطالب] الملحق العسكري في السفارة المذكورة، والذي سبق أن شغل قيادة الحرس الجمهوري في عهد عبد السلام عارف، حيث جرى التنسيق معهم من خلال السعودية، وقد قام النايف والداؤد بالاتصال[ بسعدون غيدان] آمر كتيبة الدبابات المكلفة بحماية القصر الجمهوري، والملحقة بالحرس الجمهوري، واستطاعا جره إلى جانبهما.
وبعد أن تم لهم تأمين اشتراك القادة الثلاثة في الانقلاب طلبوا من النايف الاتصال بالبعثيين ودعوتهم للمشاركة في الانقلاب.
وجد البعثيون فرصتهم الذهبية للعودة إلى الحكم من جديد، وأعلنوا على الفور استعدادهم للمشاركة في الانقلاب، وقد ورد ذلك على لسان عبد الرحمن عارف، في حديث له في اسطنبول في 18 شباط 1970، حيث قال: { إن النايف لم يكن إلا أداة حركها إغراء المال، وإن شركات النفط العاملة في العراق والقوى التي تقف وراءها كانت قد سعت منذُ منحت الحكومة عقداً لشركة [إيراب] الفرنسية، وعقد اتفاقية التفاهم والمساعدة الفنية مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة الشمالي الذي تم سحبه من شركة نفط العراق، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، وكذلك حجب الحكومة امتياز الكبريت عن شركة [ بان أميركان ] الأمريكية، سعت إلى البحث عن عملاء يعملون على تدمير حكمه، ووجدوا في النهاية أن عبد الرزاق النايف هو الرجل الذي يحتاجون إليه، واشتروه من خلال السعودية بواسطة الوسيطين الدكتور ناصر الحاني و بشير الطالب وأكد عبد الرحمن عارف أنه يقول هذا عن معرفة أكيدة لما جرى وليس مجرد شكوك }.
أما عبد الرزاق النايف فقد أكد دوره في ذلك المخطط ،بعد أن قام البعثيون بانقلابهم ضده بعد مرور 13 يوماً من تنفيذ انقلاب 17تموز 968، ونفيه إلى خارج العراق، حيث عقد مؤتمراً صحفياً في لندن فضح فيه دوره، ودور شركائه البعثيين في الانقلاب، وعلاقاتهم بالإمبريالية حيث قال:
{ أنا لا أنكر علاقتي بالأمريكيين لكنهم هم الذين فرضوا عليَّ التعاون مع البعثيين}.
وكان عرّاب الانقلاب الدكتور ناصر الحاني، الذي أصبح وزيراً للخارجية عند وقوع الانقلاب، وقد سارع البعثيون إلى اغتياله في أحد شوارع بغداد، ثم اتبعوه باغتيال النايف بعده في لندن، محاولين بعملهم هذا حجب نور الشمس بواسطة الغربال!!.

أما اللواء الطيار حردان عبد الغفار التكريتي الذي كان له دور بارز في انقلاب 8 شباط 1963 ، وانقلاب 17ـ 30 تموز 1968، وشغل مناصب عليا في الجيش والحكومة كان منها رئاسة أركان الجيش، وقائد القوة الجوية، ووزيراً للدفاع، وعضوا في مجلس قيادة الثورة فقد ذكر في مذكراته بعد إقالته من مناصبه قائلاً:
لو أني ُسئلت عن أسباب انقلاب 17 تموز، وانقلاب 30 تموز لما ترددت في الإشارة إلى واشنطن كجوابٍ عن الانقلاب الأول، وإلى بريطانيا كجواب عن الانقلاب الثاني، فقد أعلن الرئيس السابق [عبد الرحمن عارف] قبل انقلابنا بشهرين عن إجراء تعديلات في اتفاقيات نفطية عراقية لصالح شركة [إيراب] الفرنسية، وقد طلبني البكر عشية هذا التعديل، وشرح لي آثاره السيئة على علاقتنا ببريطانيا وأمريكا ، قائلا إن علينا أن نستغل هذا الوضع الجديد للقيام بعمل جدي لقلب حكومة عبد الرحمن عارف.
وجرت اتصالات بيننا في العراق وبين [صدام حسين] الذي كان آنذاك في بيروت، وأخبرناه حينها بإقامة صلة بينه وبين السفارة الأمريكية، وبإجراء اتصال مع مؤسس حزب البعث [ ميشيل عفلق] بهذا الشأن، وبعد أسبوع أخبرنا صدام بأن الحكومتين الأمريكية والبريطانية أبديتا استعدادهما للتعاون معنا بشرطين:

الشرط الأول : أن نقدم تعهداً خطياً بالعمل وفق ما يُرسم لنا.

الشرط الثاني: أن نبرهن على قوتنا في الداخل بأن يقوم حزب البعث بتظاهرة ضد عبد الرحمن عارف، وبالفعل نظم الحزب التظاهرة، وكنت أسير في مقدمة المظاهرة مع أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش مع بعض الرفاق البعثيين الآخرين، وقد أخبرتنا السفارة الأمريكية في بيروت أنها على استعداد للتعاون معنا مقابل التساهل بعد نجاح الانقلاب في المسائل النفطية مع الشركات الأمريكية ونحن موافقون على هذا الشرط .

وبعد ثلاثة أيام جاءنا من يبلغنا من السفارة الأمريكية طالبا التعاون مع آمر الحرس الجمهوري [ إبراهيم الداود]، ومدير الاستخبارات العسكرية [ عبد الرزاق النايف]، وتطبيق الخطة التي وضعها النايف، وقد اتفقنا على تفاصيل الخطة بعد أن التقينا به ليلة 12 تموز 1968، ونجح الانقلاب بأسرع مما كنا نتصور، ومن دون مقاومة، بل رفع عبد الرحمن عارف يداه استسلاماً بمجرد أطلاق ثلاث إطلاقات من الدبابات في الهواء.

وبعد 6 أيام على الانقلاب أعلمتنا السفارة خطورة استمرار عبد الرزاق النايف في سياسته بصفته رئيساً جديداً للوزراء من خلال حديثه في مؤتمره الصحفي الأول حيث كان قد صرح بأن حكومته ستتخذ اتجاهاً مستقلاً في قضايا النفط، وأنها ستعيد النظر في كل الاتفاقيات المعقودة بين حكومة العراق ومجمل الشركات النفطية، وقد عبرت السفارة البريطانية عن استعداها للتعاون إلى أبعد حد لإسقاط عبد الرزاق النايف، وإعطاء حزب البعث ومن يمثله من العسكريين سلطات مطلقة على العراق، ولذلك دبرنا انقلاباً جديداً في 30 تموز، وجرى إقصاء رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف، ووزير الدفاع إبراهيم الداود، ورئيس أركان الجيش، ومجموعة من الوزراء الموالين للنايف والداودي.
وهكذا نجح الانقلاب الذي خططته السفارة البريطانية لصالح الشركات النفطية البريطانية، ونفذه مجموعة من البعثيين العسكريين برئاسة أحمد حسن البكر، وبهذا ألغينا اتفاقية شركة [ إيراب] الفرنسية مع الرئيس السابق عبد الرحمن عارف، وأحقيتها في التنقيب عن النفط في شمال سامراء، كما ألغينا صفقة طائرات بين الحكومة السابقة والحكومة الفرنسية بإشارة من السفارة البريطانية في بغداد، كما جرى تعيين [سعدون حمادي]، الموظف في شركة نفط العراق، وزيراً للنفط بطلب من السفارة كذلك.

كيف نفذ انقلاب 17 تموز 968:
سارع عبد الرزاق النايف إلى إعداد خطة تنفيذ الانقلاب بالاشتراك مع إبراهيم عبد الرحمن الداؤد، وسعدون غيدان، واحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان عبد الغفار التكريتي، وأنور عبد القادر الحديثي، حيث جرى الاتفاق فيما بينهم على تفاصيل خطة الانقلاب، معتمدين على كتيبة الدبابات التي كانت في القصر تحت إمرة سعدون غيدان، وجرى الاتفاق على أن يأخذ سعدون غيدان كل من أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان التكريتي بسيارته الخاصة إلى داخل القصر الجمهوري ليقوموا جميعاً بالسيطرة على كتيبه الدبابات فجر يوم 17 تموز 968، فيما يقوم عبد الرزاق النايف بالسيطرة على وزارة الدفاع، وأنيطت مهمة السيطرة على دار الإذاعة إلى إبراهيم الداؤد.

وفي فجر ذلك اليوم قام سعدون غيدان بإدخال الضباط المذكورين الذين يمثلون حزب البعث بسيارته الخاصة ، وتم لهم على الفور السيطرة على كتيبة الدبابات المذكورة ، وأحاطوا بها القصر، وقاموا بإطلاق3 إطلاقات من مدافع الدبابات كخطوة تحذيرية لعبد الرحمن عارف، الذي استيقظ من نومه مذعوراً، وحالما وجد القصر مطوقاً بالدبابات، أعلن استسلامه على الفور، وطلب تسفيره إلى خارج العراق.

وفي الوقت نفسه تحرك عبد الرزاق النايف نحو وزارة الدفاع بمساعدة عدد من الضباط الموالين له، وسيطر على الوزارة دون عناء، فيما توجه الداؤد إلى دار الإذاعة بعدد من الدبابات وسرية من الحرس الجمهوري وسيطر عليها دون قتال، و قام بإذاعة البيان الأول للانقلاب في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم 17 تموز 1968.
حاول الإنقلابيون في بيانهم هذا التغطية على الأهداف الحقيقية للانقلاب، وجرى ذلك تحت شعار حل القضية الكردية، وإحلال السلام في كردستان، وإقامة الديمقراطية في البلاد، وإتاحة الفرص المتساوية للمواطنين، وانتصار حكم القانون، والتأييد الحازم للقضية الفلسطينية، داعين إلى تحديد مسؤولية الهزيمة في حرب حزيران، ولم ينسَ البيان التهجم على الحكم السابق، واتهامه بشتى التهم، من رجعية وعمالة وغيرها!!، وكل ذلك جرى بموجب نصائح وإرشادات خبراء غربيين متمرسين في النشاطات التآمرية السياسية.

وخلال الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم تم للانقلابيين السيطرة على البلاد، وانتهى كل شيء وجرى اعتقال رجالات نظام عبد الرحمن عارف وعلى رأسهم رئيس الوزراء [ طاهر يحيى ]، وجرى على الفور تسفير رئيس الجمهورية [عبد الرحمن عارف] بطائرة عسكرية إلى لندن، حيث كانت زوجته تعالج هناك، ثم انتقل بعد ذلك إلى تركيا واتخذها مقراً لإقامته لسنين عديدة.

وبعد مرور تلك السنوات تقدم عبد الرحمن عارف بالتماس لحكومة البعث طالبا السماح له بالعودة على العراق، والعيش كأي مواطن عادي متعهداً بالامتناع عن ممارسة أي عمل سياسي، ولكونه لا يشكل خطراً على النظام، فقد وافق البعثيون على طلبه بالعودة إلى العراق، وتقرر صرف راتبه التقاعدي.
أما الشعب العراقي فقد أستقبل الانقلاب ببالغ القلق والاكتئاب، فالوجوه هي نفسها التي أغرقت البلاد بالدماء إثر انقلاب 8 شباط عام 1963.
Opinions