من ذاكرة التاريخ: انقلابيوا 17 تموز والحزب الشيوعي والحركة القومية الكردية
18/8/2010كان استمرار الحرب في كردستان يشكل أحد المخاطر الجسيمة على السلطة حزب البعث في أيامها الأولى، ولذلك فقد سعت هذه السلطة للتفاوض مع القيادة الكردية للوصول إلى وقف القتال، وقد أثمرت اللقاءات التي جرت بين قيادة حزب البعث وزعيم الحركة الكردية السيد مصطفى البارزاني إلى ما سمي باتفاقية [11 آذار للحكم الذاتي] .
تنفس البعثيون الصعداء في تلك الأيام، ووجدوا تعويضاً لهم عن العلاقة مع الحزب الشيوعي، وقد بدا في تلك الأيام وكأنه لا يوجد في الساحة السياسية غير حزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني، وتعرضت العلاقة بين البعثيين والشيوعيين إلى الانتكاسة عند إقدام حكومة البعث على تفريق تجمع للشيوعيين يوم 21 آذار احتفالاً بعيد النوروز بالقوة.
كما تم في تلك الليلة اغتيال الشهيد [محمد الخضري] عضو قيادة فرع بغداد للحزب في أحد شوارع بغداد.
ورغم إنكار البعثيين صلتهم بالجريمة، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنهم كانوا هم مدبريها، وقد أتهمهم الحزب الشيوعي بالقيام بحملة اعتقالات ضد العديد من الشيوعيين في أنحاء البلاد المختلفة.
وفي 1 تموز عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني مؤتمره العام، وألقى السيد [كريم أحمد] عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي كلمة في المؤتمر دعا فيها إلى إيقاف الإجراءات القمعية للسلطة ضد العناصر الوطنية، وركز على شعار الحزب الداعي للديمقراطية للشعب العراقي والحكم الذاتي لكردستان، مما أثار رد فعل قوي من جانب السلطة البعثية الحاكمة، وخاصة بعد أن قامت صحيفة الحزب الديمقراطي الكردستاني [التآخي] بنشر نص الخطاب.
لكن الغزل استمر بين قيادة حزب البعث وقيادة الحزب الشيوعي لإقامة جبهة الاتحاد الوطني على الرغم من الإجراءات الوحشية التي اتخذتها لقمع التجمع الذي أقامه الحزب في ساحة السباع بمناسبة عيد النوروز، وعلى الرغم من حملات الاغتيالات التي طالت العديد من الكوادر الشيوعية.
البعثيون والحزب الشيوعي
منذُ أن عاد البعثيون إلى الحكم عن طريق انقلاب 17 ـ 30 تموز 968 وقف الشعب العراقي من الانقلاب موقفاً سلبياً منهم، حيث كان مدركاً أن الوجوه التي جاءت إلى الحكم هي نفسها التي قادت انقلاب 8 شباط الفاشي عام 963، ولا تزال تلك الجرائم التي ارتكبوها بحقه وحق القوى السياسية عالقة في الأذهان.
كان همّ البعثيين آنذاك هو تثبيت حكمهم، وتبييض صفحتهم السوداء فلجئوا إلى اتخاذ بعض الخطوات لاسترضاء الشعب وقواه السياسية وبالأخص الحزب الشيوعي العراقي الذي يتمتع بتأييد ودعم جانب كبير من أبناء الشعب، حيث ركزوا كل جهودهم لجره إلى التعاون معهم وصولاً إلى التحالف، وإقامة الجبهة الوطنية معه، وكان من جملة تلك الإجراءات:
1ـ إصدار قرار بالعفو عن السجناء السياسيين في 5 أيلول 968 وإطلاق سراحهم.
2ـ إصـدار قـرار بإعادة كافة المفصـولين السياسيين المدنيـين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم في 12 أيلول 968.
3-احتساب مدة الفصل لأسباب سياسية قدماً لغرض الترفيع والعلاوة والتقاعد.
غير أن تلك الإجراءات لم تكن كافية لجرّ الحزب الشيوعي، والقيادة المركزية المنشقة عن الحزب، لتشكيل جبهة وطنية عريضة.
فقد كان المطلوب من حزب البعث تشريع دستور دائم للبلاد، عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة لمجلس تأسيسي، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وحرية الصحافة، وحرية النشاط الحزبي والنقابي، وهذا ما لم توافق عليه قيادة حزب البعث.
ولذلك لجأت القيادة المركزية [الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي] إلى الكفاح المسلح ضد سلطة البعث، وجرى مهاجمة دار صدام حسين وصلاح عمر العلي وإطلاق الرصاص على الدارين، لذلك قرر البعثيون العمل على اعتقال قيادة الحزب [القيادة المركزية] وكوادرها، وتصفية تنظيماتها.
وفي شباط عام 969، استطاع البعثيون إلقاء القبض على زعيم التنظيم [عزيز الحاج] وأعضاء قيادته، وسيقوا إلى قصر النهاية، أحد أهم مراكز التعذيب لدى البعثيين لإجراء التحقيق معهم، وهناك أنهار عزيز الحاج، وقّدم اعترافات شاملة عن تنظيم حزبه مكّنت البعثيين من إلقاء القبض على أعداد كبيرة من كوادر وأعضاء الحزب، وجرى تعذيبهم بأبشع الوسائل من أجل الحصول على المعلومات عن تنظيمهم، حيث استشهد العديد منهم تحت التعذيب كان من بينهم القائدين الشيوعيين [متي هندو] و[أحمد محمود العلاق]، بينما انهار القيادي الثالث [ بيتر يوسف] ملتحقاً برفيقه عزيز الحاج، مقدماً كل ما يعرف عن تنظيم حزبه، حيث كافأ البعثيون كلاهما بأن عينوهما سفيرين في السلك الدبلوماسي، في فرنسا والأرجنتين، وذهب ضحية اعترافاتهم عدد كبير من الشيوعيين الذين استشهدوا تحت التعذيب الشنيع، وزُج في السجون بأعداد كبيرة أخرى منهم .
وبذلك تسنى للبعثيين توجيه ضربة خطيرة للقيادة المركزية لم يتعافى الحزب منها إلا بعد مرور سنة على تلك الأحداث، حيث تسلمت قيادة جديدة بزعامة المهندس [إبراهيم علاوي]، وبادرت تلك القيادة إلى تجميع قوى الحزب، وتشكيل تنظيمات جديدة، وبدأت تمارس نشاطها من جديد.
إلا أن تلك الضربة كان تأثيرها ما يزال يفعل فعله، حيث فقد الحزب العديد من أعضائه إما قتلاً أو سجناً أو اعتكافاً عن مزاولة أي نشاط سياسي بسبب فقدان الثقة التي سببتها اعترافات قادة الحزب عزيز الحاج و بيتر يوسف وحميد خضر الصافي وكاظم رضا الصفار.
أما الحزب الشيوعي [ اللجنة المركزية ] فقد ألتزم جانب السكوت عما جرى، وتمسك بالهدنة المعلنة مع حكومة البعث، ثم بادر الطرفان البعث والشيوعي بالتقارب شيئاً فشيئاً بعد أن أقدمت حكومة البعث على تنفيذ جملة من القرارات والإجراءات التي أعتبرها الحزب الشيوعي مشجعة على هذا التقارب، وبالتالي التعاون والإعداد لإقامة الجبهة!!.
فقد أقدمت حكومة البعث على الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، ووقعت في 1 أيار 969 عقدا مع بولونيا لاستثمار الكبريت وطنياً، كما تم عقد اتفاقيتين للتعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي وبولونيا في 5 تموز 969، ومن ناحية أخرى قام الحزبان البعث والشيوعي بنشاطات مشتركة في اجتماعات مجلس السلم العالمي، وانتخابات نقابة المحامين عام 970، وسمح البعثيون للحزب الشيوعي بإصدار مجلة [الثقافة الجديدة]، كما تم تعيين الشخصية الوطنية المعروفة السيد[عزيز شريف] وزيراً للعدل في 31 كانون الأول 969.
لكن تلك الإجراءات لم تكن لترضي الحزب الشيوعي الذي كانت له مطالب أساسية هامة تتعلق بالحريات الديمقراطية، وأعلن الحزب أن دخول السيد عزيز شريف الوزارة بصفته مستقلاً، وأن دخول أي شخصية وطنية في الوزارة ليس بديلاً عن حكومة جبهة وطنية، وأن تمثيل كل الأحزاب الوطنية في السلطة على أساس برامج ديمقراطية متفق عليها هو الطريق الصائب.
البعثيون يطرحون شروطهم للتحالف مع الشيوعيين:
في العاشر من تموز تقدم حزب البعث بشروطه للحزب الشيوعي لقيام جبهة بينهما، طالباً من الحزب قبولها والإقرار بها كشرط لقيام الجبهة، وكان أهم ما ورد في تلك الشروط:
1ـ اعتراف الحزب الشيوعي بحزب البعث كحزب ثوري وحدوي اشتراكي ديمقراطي!.
2ـ وجوب تقييم انقلاب 17 ـ 30 تموز كثورة وطنية تقدمية!.
3ـ وجوب إقرار الحزب الشيوعي بالدور القيادي لحزب البعث سواء في الحكم أو قيادة المنظمات المهنية والجماهيرية!.
4ـ وجوب عدم قيام الحزب الشيوعي بأي نشاط داخل الجيش والشرطة!.
5ـ العمل على قيام تعاون بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وبين وحزب البعث.
6 ـ القبول بالوحدة العربية كهدف أسمى، ورفض الكيان الإسرائيلي، وتبني الكفاح المسلح لتحرير كامل الأراضي الفلسطينية.
ورغم أن شروط البعث كانت غير مقبولة من جانب قواعد الحزب الشيوعي، إلا أن الحزب أستأنف حواره مع حزب البعث من جديد، وما لبث الرئيس أحمد حسن البكر أن أعلن في 15 تشرين الثاني 1971 عن برنامج للعمل الوطني، عارضاً على الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني القبول به لإقامة جبهة وطنية بين الأطراف الثلاثة.
وفي 27 تشرين الثاني أبدى الحزب الشيوعي رد فعل إيجابي على البرنامج في بيان له صادر عن المكتب السياسي داعياً حكومة البعث إلى تحويل البرنامج إلى نص مقبول لدى جميع الأطراف التي دُعيت للعمل المشترك، ووضع نهاية حاسمة لعمليات الاضطهاد والملاحقة والاعتقال ضد سائر القوى الوطنية.
ثم جرت بعد ذلك لقاءات ومناقشات بين الأطراف دامت أشهراً حول سبل تحويل البرنامج إلى وثيقة للعمل المشترك دون أن تسفر عن توقيع أي اتفاق. لكن البعثيين أصدروا قراراً في 4 أيار 972 يقضي بتعيين أثنين من قادة الحزب الشيوعي في الوزارة وهما كل من[ مكرم الطالباني] الذي عيّن وزيراً للري، و[عامر عبد الله] الذي عيّن وزيراً بلا وزارة، إلى جانب وجود أعضاء من الحزب الديمقراطي الكردستاني سبق أن جرى تعينهم في الوزارة.
أحدث ذلك القرار انقساماً في صفوف الحزب الشيوعي، وتباعداً بين القاعدة والقيادة، فلم تكن تلك الخطوة مبررة من وجهة نظر كوادر وقواعد الحزب من دون أن يكون هناك برنامج متفق عليه يحقق طموحات الحزب في إيجاد نظام ديمقراطي حقيقي، وفرص متكافئة لكل حزب للقيام بنشاطاته السياسية في جو من الحرية الحقيقية.
إلا أن قيادة الحزب اتخذت قرارها بالموافقة على المشاركة في الحكومة بعد نصيحة قدمها لهم رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي [كوسجين] !!. كان أمل الحزب الشيوعي أن تتحول هذه المشاركة إلى اتفاق حقيقي بين الأحزاب الثلاثة على برنامج يحقق طموحات الجميع، واقترحت قيادة الحزب على حزب البعث منح مجلس الوزراء صلاحيات أوسع لإدارة شؤون البلاد التي أحتكرها مجلس قيادة الثورة البعثي، كما اقترحت تعديل الدستور المؤقت بما يحقق السير بهذا الاتجاه، وطالبوا بإطلاق حرية الصحافة، وإصدار صحيفة الحزب بشكل علني، ووعد البعثيون بدراسة هذه المقترحات.
غير أن الأمور استمرت على حالها السابق أكثر من سنة، ولاسيما وأن ظروف البلاد كانت تستدعي التعجيل بهذا الاتجاه بعد اشتداد الصراع مع شركات النفط ، وقرار حكومة البعث بتأميم شركة نفط العراق العائدة للشركات الاحتكارية في الأول من حزيران 1972، واستمرت العلاقات بين الحزبين على وضعها ذاك حتى وقوع محاولة ناظم كزار الانقلابية حيث دفعت حكام البعث إلى الاتفاق على برنامج للعمل الوطني.
وفي السابع عشر من تموز وقع الرئيس أحمد حسن البكر، بالنيابة عن حزب البعث، و[عزيز محمد]السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي ميثاقاً للجبهة، وبذل الطرفان جهوداً واسعة لإدخال الحزب الديمقراطي الكردستاني معهم في ما سمي بـ{الجبهة الوطنية، والقومية التقدمية}، والتي انبثقت بعد توقيع الميثاق، إلا أن جهودهما لم تسفر عن أي نتيجة.
ومن دراسة مواد الميثاق نجد أن البعثيين لم يقدموا تنازلات جوهرية للحزب الشيوعي، فقد كان أهم ما قدموه له ما يلي :
1ـ حصول الحزب الشيوعي على الشرعية القانونية لمزاولة نشاطه العلني، وإصدار صحيفته المعبرة عن سياسته[طريق الشعب] حيث صدرت بالفعل وكانت توزع على نطاق واسع.
2ـ إطلاق سراح السجناء السياسيين والمعتقلين، وهدم [قصر النهاية] السئ الصيت
الذي كان مقراً لتعذيب الشيوعيين، وسائر الوطنيين المعارضين لحكم البعث!!.
3ـ مشاركة الحزب الشيوعي في الحكومة بوزيرين، لكن تلك المشاركة في الوزارة لم تكن جوهرية، أو ذات تأثير على سياسة الدولة، هذا بالإضافة إلى أن مجلس قيادة الثورة الذي ينفرد به البعثيون هو الذي يقرر سياسة الدولة، ويتمتع بكافة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية.
وفي المقابل قدم الحزب الشيوعي للبعثيين تنازلات واسعة وجوهرية تضمنت التالي:
1ـ إقرار الحزب الشيوعي بأن انقلاب 17 ـ 30 تموز ثورة وطنية ديمقراطية اشتراكية!!.
2 ـ الإقرار بمبدأ قيادة حزب البعث للجبهة !.
3 ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على بقائه بعيداً عن الجيش والقوات المسلحة الذي أصبح مقفلاً لحزب البعث!.
4ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على الدور القيادي لحزب البعث لكافة المنظمات الطلابية والنقابية والجماهيرية والاتحادات العمالية والفلاحية!.
5ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على مواقف حزب البعث من قضية فلسطين، وقضية الوحدة العربية.
وهكذا يتبين لنا أن الحزب الشيوعي قد خسر الكثير من المواقع، وقدم للبعث الكثير من التنازلات، في حين لم يحصل على دور هام وأساسي في تسيير سياسة البلاد.
أحدثت موافقة قيادة الحزب الشيوعي على شروط البعثيين وتوقيعه على ميثاق الجبهة شرخاً كبيراً بين القيادة من جهة، والكادر وقواعد الحزب من جهة أخرى، حيث لم تستطع قواعد وكوادر الحزب هضم تلك الشروط، وكان الشعور بخيبة الأمل والقلق على المستقبل/ وعدم الثقة بالبعثيين سائداً صفوف الحزب، وجانباً كبيراً من كوادره، ولاسيما وأن تلك الجرائم التي أرتكبها البعثيون بحق الشيوعيين بعد انقلاب 8 شباط 963، ما تزال ماثلة أمام عيون الجميع، فتلك المآسي لا يمكن أن يطويها الزمن بهذه السرعة، وعِبَر هذه الجبهة التي قامت على أسس غير متكافئة على الإطلاق.
كان الشعور العام لدى كل متتبع لسياسة البعثيين هو أن هذه الجبهة لن تعمر طويلاً، ولن يكتب لها النجاح، وأن البعثيين لا يمكن أن يضمروا للشيوعيين الخير، لكنهم لجاءوا إلى إقامة الجبهة معهم لمرحلة معينة يستطيعون خلالها تثبيت أركان حكمهم المتضعضع، وإحكام سيطرتهم على الجيش والقوات المسلحة الأخرى وأجهزة الأمن.
فالجبهة في الحقيقة لم تكن هدفاً إستراتيجياً لحزب البعث، وإنما كان تكتيكياً يمكنهم من العبور إلى شاطئ الأمان، وتثبيت حكمهم، ولم يكفّ البعثيون عن مضايقة الشيوعيين، وتقليص نشاطهم وتحجيمه، واستمرت أجهزتهم الأمنية في ملاحقة واعتقال العديد منهم بحجج وتبريرات مختلفة، حتى وصل الأمر إلى أن تصبح اللقاءات مع قيادة البعث تدور حول الانتهاكات والتجاوزات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية، وقد سبب ذلك في تنامي خيبة الأمل لدى قواعد الحزب من مستقبل الجبهة، لا بل بدأت الأصوات تظهر وتعلوا شيئاً فشيئاً متهمة قيادة الحزب باليمينية وبالتفريط بمصالح الحزب وجماهير الشعب، وبدت الجبهة مجرد اتفاق بين قيادة حزبين تفتقد تماماً إلى أي قبول جماهيري، وكلما مرت الأيام كلما كان التباعد بين قواعد الطرفين يزداد ويتصاعد، وبدأت الأصوات تحذر مما يخبئه البعثيون للحزب الشيوعي في مستقبل الأيام.
ولم تمضي فترة طويلة من الزمن حتى بدأ التناقض ظاهراً بين قيادة الحزب وقواعده، كما بدا واضحاً أن قيادة الحزب غير بعيدة عن توجيهات قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، بل وفرض إرادته على مجمل سياسته، ولاسيما بعد أن وقع البعثيون معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي في نفس العام، وقام الاتحاد السوفيتي على أثرها بتزويد حكومة البعث بالأسلحة الحديثة والمتطورة، ومدت الجيش العراقي بالخبراء العسكريين، حيث استخدم البعثيون تلك الأسلحة بعد ذلك في قمع الشعب العراقي عرباً وأكراداً، وتصفية ما كان يسمى بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي أقاموها مع الحزب الشيوعي مصحوبة بأعنف حملة اعتقالات وتعذيب وقتل للعناصر الشيوعية، وكل مناصري الحزب، ومتنكرين لاتفاقية 11 آذار حول إقامة الحكم الذاتي لكردستان، وشن الحرب الإجرامية الشعواء على الشعب الكردي، وفي العدوان على إيران والكويت، وزج العراق في حروب مدمرة.
موقف القيادة الكردية من الجبهة
أحدث إعلان قيام الجبهة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث تصدعاً في العلاقات بين قيادة الحركة الكردية والحزب الشيوعي، فقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البارزاني كانت قد أصيبت هي الأخرى بخيبة الأمل من سياسة البعثيين فيما يخص تطبيق اتفاقية الحكم الذاتي التي حُدد لتنفيذها مدة 4 سنوات بالرغم من قيام حكومة البعث بتعين عدد من الوزراء الأكراد في الحكومة، وإجازة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتوسيع الدراسة الكردية، وزيادة البرامج الكردية في إذاعة بغداد وتلفزيون كركوك، وتشكيل وحدات حرس الحدود من قوات البيشمركة الكردية.
أخذت العلاقات بين الأكراد وحكومة البعث تتباعد شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى أقصى درجات التقاطع، وعدم الثقة في تطبيق البعثيين الحقيقي لاتفاقية آذار، وبدا للقيادة الكردية أن البعثيين غير جادين في اتفاقهم،وأنهم يكسبون الوقت لتثبيت حكمهم، وتوجيه ضربة جديدة للحركة الكردية، وجاءت محاولة اغتيال الزعيم الكردي [الملا مصطفى البارزاني ]عام 971 لتهدم كل الجسور التي بناها الطرفان في 11 آذار عام 1970.
ولهذه الأسباب اعتبرت القيادة الكردية أن دخول الحزب الشيوعي في جبهة مع حزب البعث في ذلك الوقت ضربة موجهة لهم، وأخذوا يوجهون اللوم والانتقاد للحزب، وتطور النقد على صفحات جريدة الحزب الرسمية[ خه بات] في حين راح الحزب الشيوعي يحث القيادة الكردية على الانضمام للجبهة، والنضال من خلالها، إلا أن جهوده لم تثمر في هذا الاتجاه، بل على العكس توترت العلاقات بينهما إلى درجة خطيرة، وتصاعدت بسرعة إلى حد التصادم المسلح بين الحزبين في كردستان، وشنت صحافة الحزبين حملات إعلامية ساخنة على بعضها البعض، ولعب حزب البعث دوراً كبيراً في إذكاء الصراع، وتسعير نيران الاشتباكات بين الطرفين في كردستان.
وفي آذار 1974 قام عملاء السلطة بتفجير سلسلة من القنابل في مدينة أربيل، مما جعل إمكانية تلاقي القيادة الكردية مع حكومة البعث بعيد المنال. وعند انتهاء فترة السنوات الأربع المحددة لتطبيق الحكم الذاتي كان التباعد في وجهات نظر الطرفين حول تطبيق اتفاقية 11 آذار قد اتسع كثيراً، وأصرّ البعثيون على تطبيقها بالشكل الذي يريدونه هم، ورفضت القيادة الكردية فرض الحلول البعثية، ولجأت إلى حمل السلاح مرة أخرى، وبدأ القتال من جديد، وشن الجيش حرباً جديدة ضد الشعب الكردي، مستخدماً الطائرات والدبابات والصواريخ وكل الوسائل العسكرية المتاحة لديه، فدمروا مئات القرى، وشردوا مئات الألوف من أبناء الشعب الكردي، إضافة إلى عشرات الألوف من الضحايا .
الجأت تلك الأحداث القيادة الكردية إلى طلب الدعم من الولايات المتحدة وإيران، حيث انهالت عليهم الأسلحة والمعدات والتموين، وجرى علاج جرحى البيشمركة في المستشفيات الإيرانية، وقد أدى ذلك إلى اشتداد ضراوة القتال في كردستان، ووقف الاتحاد السوفيتي إلى جانب الحكومة في صراعها مع الأكراد، ولم تستطع حكومة البعث القضاء على الحركة الكردية إلا بعد توقيع صدام حسين وشاه إيران على اتفاق الجزائر في 16 آذار 1975، وقدم صدام حسين الكثير من التنازلات لشاه إيران لكي يرفع يده عن الحركة الكردية التي انهارت بسرعة مذهلة بعد توقيع الاتفاق بأيام.
واستسلمت معظم قوات البيشمركة لقوات الجيش ملقية سلاحها، وهربت القيادة الكردية إلى إيران، وقامت حكومة البعث بنفي الألوف من أبناء الشعب الكردي إلى المناطق الجنوبية من العراق وفي الصحراء!! وأفرغت مناطق الحدود من الوجود الكردي، وجمعت الأكراد في مجمعات سكنية إجبارية، وهدمت جميع القرى القريبة من الحدود الإيرانية والتركية، وكذلك جميع القرى المحيطة بمدينة كركوك.
كما زج البعثيون بعشرات الآلاف من الأكراد في السجون وجرى إعدام المئات منهم، ومات في أقبية التعذيب، في مديرية الأمن العامة، وزنزانات هيئة التحقيق الخاصة في كركوك والموصل ودهوك والسليمانية وأربيل المئات منهم، وتحول الألوف من الشعب الكردي من عناصر منتجة إلى عناصر مستهلكة بعد أن تركت مزارعها ومواشيها وانهار اقتصاد كردستان.
لم يهدأ الشعب الكردي على الضيم الذي ألحقه البعثيون بهم، فلم يكد يمضِ عام واحد على انهيار الحركة الكردية عام 975 حتى بادر إلى حمل السلاح من جديد ضد سلطة البعث، وشن البعثيون حرباً جديدة في كردستان بشراسة منقطعة النظير. لقد كان من نتائج التصادم بين الحزب الشيوعي والقيادة الكردية أن خسر الحزب الشيوعي أغلب مواقعه في كردستان، حيث قامت القيادة الكردية بتصفية نفوذ الحزب هناك بقوة السلاح.
فشل الجبهة وانفراطها والبعثيون ينكلون بالشيوعيين
لم يكد البعثيون يصفون الحركة الكردية، بعد تفاهمهم مع شاه إيران وعقد اتفاقية الجزائر، حتى بدءوا يشعرون أن مراكزهم في السلطة قد أصبحت قوية، وراحوا يتصرفون وكأن الجبهة غير موجودة، وتوضح هدفهم الحقيقي من قيام الجبهة، ولم يتحملوا وجود شريك لهم في السلطة حتى ولو كان ضعيفاً، بل لم يتحملوا حتى صدور صحيفة علنية للحزب الشيوعي، أو القيام بنشاط جماهيري للحزب، وهم الذين جاءوا بالأساس يوم 8 شباط 963، وعند عودتهم إلى الحكم في عام 968 لتصفية الحركة الشيوعية في العراق.
لقد بدأت المضايقات والاعتقالات تتصاعد ضد أعضاء الحزب، وجرى اغتيال العديد من قادته وكوادره، عن طريق الصدم أو الدهس بالسيارات، أو إطلاق الرصاص، مدعين بأنها حوادث مؤسفة !!، وتقيّد ضد مجهول !! وكان من بين القياديين الذين استشهدوا بهذه الطريقة كل من[ستار خضير] و[محمد الخضري] و[ عبد الأمير سعيد] و[ شاكر محمود]، كما بدأت صحف البعث تتعرض للحزب الشيوعي، وتوجه حملاتها ضده، وأصبح الحزب أمام وضع صعب للغاية، وكانت اللقاءات بين الحزبين تدور كلها تقريباً حول التجاوزات التي يعاني منها رفاق الحزب، ولم تعد الجبهة سوى حبراً على ورق.
أدرك الحزب الشيوعي أن هناك مخططاً بعثياً لتوجيه ضربة جديدة وموجعة له، وبدأ يرتب أوضاعه للعودة إلى العمل السري، وتشديد الصيانة، وخاصة بالنسبة للقيادة والكادر، وغادر العديد من قادة وكوادر الحزب العراق هرباً من بطش البعثيين بعد أن تأكد لهم أن الحملة البعثية ضد الحزب قد باتت وشيكة !!، وحدث الذي كان بالحسبان، وشنّ البعثيون عام 1978 حملة واسعة النطاق لاعتقال ما أمكن من قيادات وكوادر الحزب وأعضائه في كافة أنحاء البلاد.
لكن معظم أعضاء القيادة كان قد أفلت من الاعتقال، وغادروا إلى خارج العراق، واختفى البعض الأخر ليقود الحزب، في ظل ظروف العمل السري البالغة الصعوبة، بينما وقع في أيدي البعثيين أعداد كبيرة من أعضاء الحزب، حيث جرى تعذيبهم بأبشع الأساليب والوسائل لأخذ الاعترافات منهم حول تنظيمات الحزب، وكان من بين القياديين المعتقلين الدكتور[ صفاء الحافظ ] والدكتور [ صباح الدرة]، اللذان جرت تصفيتهما تحت التعذيب.
كما قامت السلطات البعثية بكبس مقرات الحزب، وصحيفته [ طريق الشعب]، وصادرت كل الوثائق الموجودة هناك، كما صادرت مطبعة الحزب، وجرى جمع كافة الكتب الماركسية، والتقدمية من الأسواق، ومن الدور التي داهمتها قوى الأمن وتم إحراقها، وجرى إعدام العديد من رفاق الحزب، ومات تحت التعذيب أعداد أخرى، وزج البعثيون بالسجون بالآلاف من أعضاء وأصدقاء الحزب.
وهكذا لم يبقَ حزب سياسي يمارس نشاطه على الساحة سوى حزب البعث، وبدا الوضع قد استتب لهم وحدهم للانفراد بالساحة، وكشف البعثيون عن وجههم القبيح كونهم يمثلون حزباً فاشياً وشمولياً، ولا يحتملون نشاط أي أحزاب أخرى.