نزهان قال لنا كيف نوقف الإرهاب
11 كانون الثاني 2012
حولت دماء الشهيدين نزهان الجبوري وعلي السبع الجريمة الإرهابية في البطحاء، والتي أريد منها بوضوح إتمام شق الصفوف العراقية تمهيداً لحرب أهلية، إلى رمز جديد لتلاحم ووحدة الشعب العراقي، وافتضاح " أكذوبة الشيعه والسنه"، كما عنون الزميل عماد العتابي مقالته الجميلة (1).
وكان انتحاري يرتدي حزاماً ناسفاً قد استهدف الخميس الماضي احد مواكب السائرين نحو مدينة كربلاء لإحياء ذكرى اربعينة الإمام الحسين ع في مدخل ناحية البطحاء ، مما استدعى تحركاً سريعاً من الملازم نزهان صالح حسين الجبوري، وهو شاب في الثلاثين وأب لطفلين من حويجة كركوك، الى الإمساك بالانتحاري برفقة الجندي علي أحمد سبع من ديالى ، إلا أن الانتحاري تم تفجيره عن بعد كما يُعتقد, رغم السيطرة عليه، وقتل أكثر من 44 مدنيا وجرح أكثر من 85 آخرين. (2)
لكن العملية فشلت فشلاً ذريعاً رغم ذلك، بما نشرته من جو أخوي رائع بين السنة والشيعة، لم ألحظ مثله منذ الإحتلال. فهدف الإرهاب ليس قتل أكبر عدد من الضحايا، كما بينت جريمة كنيسة سيدة النجاة بوضوح تام، بل ما ينتظر من الجريمة الإرهابية أن تحدثه من أثر على المجتمع ، بعد حدوثها. وقد بينت في مقالة لي عن مجزرة كنيسة النجاة "أن مرحلة "ما بعد الجريمة" تلعب في حجم وتأثير العمل الإرهابي، الدور الأساسي، وليس الجريمة نفسها." (3)
وكانت ردود الفعل على بطولة الشهيدين رائعة، ولم يوفر الكتاب والسياسيون - الشيعة بشكل خاص - أي جهد في التعبير عن مشاعرهم الجياشة بالإحترام والتقدير لتلك التضحية، فارتفع الصوت الإتحادي الجامع ثانية فوق الصوت الطائفي الذي تعود ان يصطاد في الماء العكر الذي توفره له مثل تلك العمليات الوسخة. وقد زاد من قوة رد الفعل الشعبي المتفاعل من الجانب الشيعي، الموقف السامي لوالدة الشهيد التي افتخرت بابنها ولم تبكه وقالت أن جميع العراقيين اولادها، فكان موقفها في هذا الظرف العسير بشكل خاص عليها، إكمالاً وخاتمة رائعةً لموقف ولدها البطل.
دعى أحد القراء على الإنترنت الجيش لإطلاق اسمي الشهيدين على معسكرين أو تشكيلين له، مذكرا بدعوته لإطلاق بطولة لسباحي العراق باسم شهيد جسر الائمة عثمان، وأكمل "نحن نعرف ان ارض الائمة والاولياء في العراق مليئة بالكرام ، ولكن علينا ان نسقي هذه الشجرة الطيبة لتنمو وتزهر عراقا نحلم به". (4)
وكتب الكاتب عماد العتابي: "كفاكم يا أهل الجبور فخرا أن نزهان منكم .. كفاكم يا أهل نزهان هذا الشرف الخالد وهذا الفوز العظيم لولدكم ولد العراق كله".(5) وعلق في مكان آخر: " اكذوبة الشيعه والسنه لن تستمر بعد اليوم أبدا .. عراقنا واحد .. شعبنا واحد .. وليذهب سياسيي أخر زمن وأمراء الحرب الى البحر ليشربوا منه .. فلن نتقاتل مجددا من اجلهم ومن أجل اختلافاتهم.. سنبقى عراقيون .. عراقيون لاغير".
وكتب عزيز الحافظ "العراقية أم نزهان تتنزه بزهو وفخر بين قلوب العراقيين" ليقول "كانت عيون الشهيد نزهان الضابط العراقي الكركوكلي بلا لون مذهبي،.. كان يمكن لنزهان اليقظ ان ينزوي عندما ارتاب في عسكرة شخص دخل الجموع....كان يمكن ان ينجو بيسر وسهولة ...ولكن روحه الابية الطيبة النقية الطاهرة أبت إلا أن تعانق المجد من توّها!!" (6)
وقال الامين الخاص لمرقد الصحابي سلمان المحمدي: " ان الاشرار ارادوها فتنه طائفية ، لكن البطل نزهان ورفيقه الديالي علي سبع حولاها الى عرس لرص الصفوف ونبذ الطائفية ".وأضاف: "طالما أمثال الشهيد نزهان البطل موجودون في العراق الحبيب، فلا خوف ولا خشية من (تقسيم) العراق أو من حرب (طائفية) بين أبناء البلد الواحد أبدا".(7)
وإزاء مثل ردود الفعل هذه، وهذا ليس إلا قليل جداً من كثير، فلا بد أن الجهات التي خططت ونفذت هذا العمل الإرهابي قد أصيبت بصدمة وأنها ستأخذ الوقت لتفوق منها وتدرسها أمام الواقع الجديد الذي فرضته تلك التضحية البطولية التي عكست خنجر الغدر إلى نحرها. فعلى العكس من أغلب العمليات الإرهابية ذات الأهداف غير المميزة، والتي يصعب من خلالها إطلاق خطاب تفريقي ذي مصداقية قوية، أستهدفت تلك العلميات مواكب حسينية واضحة الهوية المذهبية مما كان يؤمل منه أن يساعد الإعلام المأجور على تأجيج العواطف الطائفية إلى أكبر درجة ممكنة.
لقد كتبت سابقاً حول"الأهداف التحضيرية لمؤامرة الإرهاب". وتحت عنوان "ضرورة فصل الطرفين مكانياً وذهنياً" كتبت أن ما "يؤمن أكبر إمكانية للنجاح الإعلامي في بث الكراهية وتثبيت صورة بشعة للمقابل هو أن تفصل المجموعتين مكانياً وثقافياً وتقطع الروابط والوصلات بينهما. وبالفعل تم بذل جهود كبيرة في حملات التهجير في مختلف أنحاء العراق من أجل الفصل المكاني بين الطرفين، ليس في المدن فقط، وإنما في الأحياء أيضاً، فانقسمت "الدورة" إلى قسمين، شيعي وسني."(8)
وتحدثت أيضاً عن "الفصل الثقافي والإعلامي" حيث يصبح لكل فئة قصة مختلفة تناقض الآخرى عن كل حدث. فالفصل يتيح للإعلام، والإعلام في ا لعراق مشبوه أسسه الإحتلال، أن يحتكر صورة كل طائفة لدى الطائفة الأخرى ويشوهها كما يريد دون ان يستطيع أحد أن يرى الحقيقة بنفسه.
لكن وفي هذه الجريمة تم تحطيم ذلك الفصل الإعلامي أيضاً، فهاهما الطائفتان تتحدثان برأي واحد وموقف واحد ومبدأ واحد، عن رفعة التضحية وخسة الإرهاب، بغض النظر عمن يقوم به.
لقد لفت انتباهي تعليق أحد القراء الذي قال أنه يستغرب من دهشة الناس على هذا العمل البطولي، فهو امر طبيعي ومتوقع. والحقيقة أن الحق معه، وأن هذه الدهشة ليست سوى نتيجة الصورة الإعلامية المزيفة التي غرسها الإعلام في رؤوس كل من الجانبين عن الآخر، فتحطمت الصورة لتظهر الحقيقة "المدهشة"!
لقد قال الكاتب الإنكليزي الدوس هكسلي (*) أن من "أن مهمة رجل الدعاية ان يجعل من مجموعة من الناس تنسى ان مجموعة اخرى من الناس هم من البشر". ولقد كاد كل من السنة والشيعة ان ينسوا أن الطائفة الأخرى من البشر مثلهم، لكثرة ما حدث من ويلات وما أحيط بها من تفسيرات وإيحاءات إعلامية مشبوهة مستمرة، فإذا بهم يكتشف كل منهما إنسانية الآخر التي كان يعرفها لقرون طويلة، ويفرح بها كمن يلتقي بالعالم القديم الذي يعرفه، رغم كارثية المناسبة!
لقد شعر الشيعة بإطمئنان كبير، أن السنة، الجماعة التي ربت أمثال نزهان الجبوري لا يمكن أن تكون طائفية حقاً، تربي أبناءها ضد آل البيت وتهدف إلى تصفية الشيعة، كما يتصور البعض. كذلك فأن ردود الفعل الشيعية الرائعة طمأنت السنة أن ما كان لديهم من صورة عن الشيعة بأنهم يحكمون عليهم ظلماً لضغينة طائفية في انفسهم، ليست صحيحة. وهكذا، ما إن أطمأن كل طرف إلى الآخر، ورآه كما كان يعرف به صديق الامس العزيز، حتى أحتضن كل منهما الآخر بشوق كبير.
لاشك أن الإطمئنان ورؤية زور تلك "الطائفية" المزعومة، سوف تكون له تداعيات إيجابية هامة على الوضع في العراق، وكنت قد كتبت في نيسان الماضي تحت عنوان "نحن والخوف من طائفية المقابل"(9) وبأن معظم المواقف الطائفية ما هي إلا بسبب القلق والخوف من طائفية الطرف الآخر، والتي سعى الإحتلال من خلال وسائله المختلفة لتأكيده، لأنه وكما يقول الفيلسوف برتراند راسل: "الخوف الجماعي يحفز غريزة القطيع, وينحو الى انتاج العنف تجاه من لايعدّون اعضاء في ذلك القطيع" وهو ما يعرفه مؤسسوا الإرهاب جيداً. لذلك فأن ما يحتاج إليه العراق هو تأسيس قناة اتصال وتفاهم بين الطرفين ليرى كل منهما الجانب الجميل والإنساني العميق من الآخر.
تحت عنوان "الارهاب المبدع" كتبت عام 2005 : "ليس الامر امر "سنة وشيعة". "فالسنة والشيعة" من الناس الاعتياديين والطيبين ...التخطيط لعمل ارهابي بهذه الوحشية هو امر مختلف.... "السنة والشيعة" غريبين عن هذا النوع من العمل, ولا نستطيع ان نصدقه او نتخيله معبراً عن العلاقة بينهم. لكننا نستطيع ان نتخيل تماماً صورة العلاقة التي عبر عنها المئات من السنة من الاعظمية وهم يساهمون في انتشال ضحايا المجزرة شأنهم كشأن الشيعة انفسهم. لا استطيع ان اتخيل شاباً من الاعظمية يفكر قبل ان يتنشل جريحا او غريقاً من دجلة ان يفكر ان كان سنياً او شيعياً, ولا العكس طبعاً." (10)
والآن؟
إننا لن نستطيع أن نعوض هؤلاء الشهداء حياتهم، لكننا نستطيع أن نجعل فديتهم الكريمة ذات معنى وأن يستمد منها الشعب العراقي الذي أحبوه إلى حد التضحية بأرواحهم من أجله بلا أي تمييز أو تردد، القوة والصمود. علينا أن نكون جديرين بتلك التضحية التي قدمها عثمان ونزهان وعلي وأمثالهم لنا. لقد أقر المسؤولون تقديم تعويض مادي كريم لعوائل هؤلاء الشهداء، لكن الرموز الرائعة التي قدمتها ملاحمهم الإنسانية مازالت خافتة ومازال شعب العراق محروماً من أثرها الطيب على بنائه النفسي والإجتماعي. وما أحوج هذا الشعب المكابد إلى مثل تلك الرموز، فما الذي يمكننا أن نفعله؟
منذ عام 2005 كتبت: "الفتنة- لادواء لها سوى المبادرة"، وقلت "يجب التوقف فورا عن "الصمود السلبي" المستنزف لطاقة الناس, والتحول الى "مهاجمة الفتنة" والا فان انتصار الفتنة مسألة وقت ليس الا."
وفي مقالة أخرى اواسط 2005، كتبت "لو ان القتل الذي يقصد منه تفرقة الشيعة والسنة ادى الى تقاربهم لتوقف ذلك القتل (....) والى ان تؤدي الجرائم الى ردود فعل قوية بعكس ما يشتهي المجرمون, الى ان تسود مثل هذه الروح المبادرة لدى الشعب ومنظماته, فسيقتل المزيد من الشيعة والسنة والصحفيين وغيرهم"(11)
وفي أواخر عام 2005 اقترحت أن : "تحج طوائف المسلمين معاً في العيد القادم" فقد كان رأيي أن الطريقة الوحيدة لمحاربة الارهاب المحرض للطائفية هي ان نعكس نتائج الارهاب، وقلت: "يريدون ان يزداد الشق بيننا؟ سنصلي معا في كل مسجد من مساجد العراق (.....) وان فعلوها ثانية سنوحد طريقة صلاتنا ووضعية ايدينا ودعواتنا ....وان فعلوها ثالثة فسنصوم ونفطر ونحج معا! "(12)
وقبل اكثر من عام عن ذلك, وعلى اثر مذبحة كربلاء والكاظمية, كتبت : "يريدون زيادة العداء بين الشيعة والسنة؟ لن نكتفي بان لا يزيد عداؤنا, بل سنخفضه! .... يريدون ان يزداد الشق بيننا؟ سنصلي معا في كل مسجد من مساجد العراق, ولو تحملنا الجهد من اجل ذلك. ان في هذا رمزا عظيما اضافة الى انه يحرمهم هدفهم الرئيسي للفتنة. فلن يضرب مثل هذه الجوامع سنة او شيعة, بل سيكون واضحا انه عدو للاسلام والعراق. وكلما قاموا بجريمة جديدة لن نكتف بأن "لا نحقق اغراضهم" بل سنجعلها ابعد منالا, الى ان يقتنع ان جرائمه تعمل عكس ما يروم فيتوقف عنها!" (13)
نعلم جميعاً أن شيئاً من ذلك لم يحدث للأسف، ولم يبادر المسؤولون إلا ما ندر، إلى أية مبادرات مؤثرة رغم العديد من التصريحات الطيبة والنوايا الجميلة، وربما لو كان، لما استمر الإرهاب حتى اليوم.
لكن الفرصة مازالت متاحة وهاهو نزهان ورفاقه يقدمونها لنا ثانية على أرواحهم، فهل سنهملها ثانية؟
إن ما أقترحته يتمثل بما يلي:
1- التوقف عن إهمال "معركة الرموز"، فلم يأخذ الشهيد عثمان مداه الرمزي إلا في ضمائر العراقيين وبلا مبادرة محددة لتعميقه وثتبيته حتى الآن. القضية اقدم من ذلك أيضاً، فلماذا لم يطلق حتى الآن إسم الرمز العراقي "عبد الكريم قاسم" على أحد الشوارع حتى الآن، وبقي يطلق إسم السياسي المفضل للإحتلال الإنكليزي على أحد أهم شوارع بغداد، "شارع السعدون"؟ لماذا لم تكن هناك مسلسلة باسم عبد الكريم قاسم ولكن كانت هناك واحدة زيفت التاريخ لتكريم العميل نوري السعيد؟
2- بشكل محدد عن قضية الطائفية، علمنا أنه تمت الموافقة على إطلاق إسماء الشهداء على شوارع أو ساحات، وهذه بداية جميلة، وأكرر أقتراح من سبقني بإطلاق مسابقة سباحة باسم الشهيد عثمان، تكون بشكل رمزي محدد وخاص بالمناسبة، يتمثل بتشبيه عملية الإنقاذ التي قام بها ذلك البطل، بإلقاء دمى تطفو في منطقة الكارثة ويكون السباق حول من يستطيع أن "ينقذ" أكبر عدد ممكن من تلك الدمى ويعود بها إلى الشاطئ، خلال وقت محدد.
3- عدا قضية الرموز، فأن ردود الفعل الرائعة على استشهاد هؤلاء الأبطال يشير لنا بأصبعه إلى طريقة لوقف الإرهاب. والطريقة هي أن تحرص الحكومة دائماً على خلط الحراس السنة والشيعة، وخاصة في المناسبات والأماكن الخاصة بمذهب معين منهما، وفي رأيي أن هذا الأمر سيقلل كثيراً من الدوافع الإرهابية، مهما كانت تلك الدوافع.
فإن كان الهدف طائفياً للإنتحاريين، (وهو ما لم ولا أصدق به) فسيعلمون أن هناك من سيقتل أيضاً من طائفتهم، ويفترض أن يمتنعوا عن ذلك. وإن كان الهدف إحداث الشروخ الطائفية في المجتمع لتحطيمه، وهو ما أعتقد به جازماً، فأن رد الفعل الذي حدث لجريمة البطحاء، إن تكرر، سوف يردع تلك الجهات عن هذه الأعمال.
لقد أشار لنا نزهان بدمه، كما فعل عثمان وغيره قبله، ومن الجانبين، إلى ما قد ينقذ العراق ومستقبله، وأتمنى أن يتحمل المسؤولون مسؤوليتهم ويحرصوا هذه المرة على المبادرة للإستفادة من هذه الفرصة الغالية التي كلفت الكثير، لقطع الطريق على المزيد من الإرهاب والدم والدموع، فقد نزف العراق ما يكفي منها.
(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11400
(2) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11513
(3) http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20899
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11513
(5) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11548
(6) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11608
(7) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=11630
(8) http://www.albadeal.com/2010-11-24-00-35-27/3445--3-.html
(*) http://en.wikipedia.org/wiki/Aldous_Huxley
(9) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=47975
(10) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=44494
(11) http://www.c-we.org/ar/show.art.asp?aid=39478
(12) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=15831
(13) ,http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=15831