نصيبين في تاريخ كنيسة المشرق قديماً وحديثاً
1_ الاسم واللغة: مدينة نصيبين هي إحدى مدن مابين النهرين.إنها مدينة عريقة بالقدم، وجاء اسمها في العهد القديم. واسمها الخاص عند سكان ما بين النهرين صوبا أو نصيبين، وهي مشتقة من اسم " غلات " نصو، ومعناها نصب أو زرع. وقد دعيت بهذا الاسم لأجل ما فيها من البساتين والجنان. وقال عنها مار أفرام النصيبيني أنها هي أكاد المذكورة في سفر التكوين، وينسب تأسيسها إلى نمرود الجبار. ولنصيبين أهمية متميزة لأنها محطة قوافل، ومركز تجاري مرموق، وبقعة زراعية خصبة. وكانت عاصمة لمملكة وطنية، حتى جددها سلوقس الأول نيقاطور (284_305 ق. م)، وقد دعاها اليونان أنطاكيا مقدونية. وأصبحت سنة 297 م بأيدي الرومان، فجعلها ديوقلسيانس (284_305 م) قلعة الشرق الحصينة، ومقراً لقائد بلاد ما بين النهرين.تقع نصيبين على سفح جبل إيزلا، ومعناه الشبكة. يخترقها نهر مقدونيا أو الهرماس، ويعرف اليوم بنهر الجغجغ. وإلى شمال مدينة نصيبين يقع وادي بونصرا، ويعتقد البعض أن تسمية الوادي جاءت من اسم الملك نبوخدنصر، الذي جمع في الوادي المذكور أعداداً كبيرة من سبايا اليهود. وبحكم موقعها كحد فاصل بين المملكتين الرومانية والفارسية قديماً، إذ كانت تارةً تقع بيد الفرس، وتارة بيد الرومانيين. دعيت مدينة الحدود، ثم أصبحت عاصمة ديار ربيعة، واحتلها المسلمون في القرن السابع، عندما فتحها عياض بن غنم سنة 640 م.
جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: " نصيبين مدينة من بلاد الجزيرة، على جادة القوافل من الموصل إلى الشام. وفيها وفي قراها، على ما يذكر أهلها، أربعون ألف بستان. وعليها سور بنته الروم. ونصيبين مدينة وبئة لكثرة بساتينها ومياها. وينسب إلى نصيبين جماعة من العلماء والأعيان".
وكانت الديانة المسيحية قد انتشرت فيها انتشاراً عجيباً، فبنيت فيها الكنائس الفاخرة، وكثرت فيها وفي أطرافها الأديار، وفتحت فيها المدارس. فسميت ترس كل المدن المحصنة و رئيسة ما بين النهرين و رئيسة المغرب و أم العلوم و مدينة المعارف و أم الملافنة.
أما نصيبين اليوم، فهي ضمن الدولة التركية، وهي بلدة صغيرة، يبلغ عدد سكانها ما يقارب الثلاثين ألف نسمة. ومن آثارها الباقية اليوم: 1_ كنيسة مار يعقوب النصيبيني 2_دير مار أوجين على جبل إيزلا المجاور 3_ دير الشهيدة فبرونيا الذي تحول إلى جامع زين العابدين.
2_ زمن انتشار المسيحية في نصيبين: بعد أن بشر أدي الرسول مدينة الرها، انحدر إلى نصيبين وبلاد الجزيرة، وهدى سكانها إلى الإيمان المسيحي. ويقول ماري بن سليمان في كتاب المجدل: " وتوجه أحي وماري إلى نصيبين وعمذ أهلها، وأنفذ ماري إلى المشرق، وأحي إلى قردي دبازبدي ". وعليه تكون المسيحية منتشرة في نصيبين منذ القرن الأول. وهناك في متحف اللاتران بروما كتابة منقوشة على الحجر تعرف باسم " حجر ابرسيوس " يعود تاريخها إلى نحو سنة 200 م، دونها أسقف هيرابوليس في فيريجية الوسطى المدعو افيرسيوس مارسيللوس، فبعد أن طاف البلاد وسجل ملاحظاته بشأن المسيحيين قال: " رأيت أيضاً السهل السوري وكل المدن ونصيبين وما وراء الفرات، في كل مكان وجدت أخوة "، ويقصد بكلمة الأخوة المسيحيين.
ويخبرنا مطران نصيبين إيليا برشينايا في تاريخه: " سنة ستمائة واثنتي عشرة يونانية سيم بابو الأسقف الأول بنصيبين، ومن أجل لم تكن له منزلة المطرنة، رتب اسمه في الديوفاطخين، أي سفر الأحياء والأموات الذي يقرأ أثناء القداس بعد اسم مار يعقوب ". ويقابل هذا التاريخ اليوناني سنة 301 م. وهكذا نستطيع القول أن بداية القرن الرابع الميلادي هو بداية تاريخ أبرشية نصيبين.
3_ حدود أبرشية نصيبين: إن حدود هذه الأبرشية يمتد من أطراف الموصل وحتى بلاد أرمينية. ونجد أحياناً عشرين أسقفاً يتبعون مطران نصيبين. وقد عين المطران أدي شير حدود هذه الأبرشية إذ قال: " أبرشية بيث عربايي، وتمتد من بيث زبداي ومن بلد إلى نصيبين، وقاعدتها نصيبين. والمراعيث المتعلقة بهذه المطرابوليطية هي: " ا_ بيث زبداي 2_ قردو 3_ بيث مكسايي 4_ أرزون 5_ أوستان أرزون 6_ بيث رحيماي 7_ قوبا أرزون 8_ طبياثا 9_ بلد 10_ آذورمية 11_ كفر زمار 12_ سنجار 13_ كانوش 14_ أخلاط 15_ ميافرقين 16_ آمد 17_ حران 18_ حصن كيبا 19_ رشعينا 20_ ماردين 21_ دارا 22_ دنيسر. وهذه المدن كلها في بلاد ما بين النهرين، ومواقعها معروفة ".
وبعد أن كانت أبرشية نصيبين قبل عهد المطران عبديشوع الصوباوي " القرن 13 م " تدعى أبرشية نصيبين وأرمينية، وذلك لامتداد حدودها إلى بلاد أرمينية.، أضحت أسقفية في القرن السادس عشر. ويتضح ذلك من صورة إيمان البطريرك عبديشوع مارون(1555_ 1567) التي أعلنها أمام البابا بيوس الرابع، حيث يعد نصيبين بين الكراسي الأسقفية. وفي نهاية القرن السادس عشر أقيم يعقوب(1584_ 1615) مطراناً لنصيبين وماردين، ومقر كرسيه مدينة ماردين. لأنه سنة 1566 خربت نصيبين ولم يبق فيها إلا بيوت قليلة.
ولبثت أبرشية نصيبين مأهولة بأبناء كنيسة المشرق، وكان مطرانها الأخير يدعى إبراهيم، نقله مار يوحنا هرمز النائب البطريركي يوحنا هرمز سنة 1789 إلى كرسي كركوك. وعليه نرى نهاية هذه الأبرشية العريقة التي استمرت أكثر من ستة عشر قرناً. وأصبحت نصيبين رعية تتبع أسقفية ماردين، يخدمها كاهن يقيم الخدمة الروحية في كنيسة مار يعقوب النصيبيني.
وفي نهاية القرن التاسع عشر استولى على هذه الكنيسة السريان الأرثوذكس. وفي سنة 1913 كان في نصيبين 130 نسمة من أبناء كنيسة المشرق، يخدمهم الأب حنا شوحا، وكان يقيم الخدمة الدينية في مصلى، وإلى جانبه مدرسة لأبناء الرعية. وقد استشهد الأب شوحا خلال الحرب العالمية الأولى، سنة 1915. ولم يبق أحد من أبناء كنيسة المشرق في هذه المدينة العريقة والشهيرة عبر التاريخ.
4_ مكانة أبرشية نصيبين في كنيسة المشرق: يعد مجمع مار اسحق، المنعقد في ساليق سنة 410 م بحضور ماروثا الميافرقيني، أول مجمع هام في تاريخ كنيسة المشرق. ويتناول القانون الأخير تحديد المقاطعات الكبرى في كنيسة المشرق. فكرسي الجاثليق هو في ساليق وقطيسفون وهي أبرشيته. وتعد أبرشية عيلام الأبرشية الأولى، تليها أبرشية نصيبين التي تعد الأبرشية الثانية، لأنها مدينة مهمة ومركز لإشعاع ثقافي وديني واسع. وكان مجمع مار اسحق قد اتبع نظاماً لترتيب الأبرشيات بنص واضح: " يكرم الكرسي على مقدار أهمية المدينة نفسها ". وعليه نجد في حفلة سيامة الجاثليق، يقف مطران عيلام في الوسط على درجة المذبح، وهو المطران السايوم " الراسم "، ويقف عن يمينه مطران نصيبين، وعن يساره مطران ميشان. وورد في الكتاب الليتورجي: " إن المطارنة الذين يرافقون الجاثليق يميناً ويساراً للتنصيب على العرش هم مطارنة عيلام ونصيبين وميشان ".
وكان لمطران نصيبين مكانة رفيعة بين أخوته المطارنة، وله صوته المسموع بينهم. ويخبرنا تاريخ كنيسة المشرق عن بعض هؤلاء المطارنة، منهم مار يعقوب النصيبيني الذي حضر مجمع نيقية سنة 325 م كممثل لكنيسة المشرق، كذلك حضر تدشين كنيسة القيامة بأورشليم في عهد الملك قسطنطين بنفس الصفة.
وفي مجمع داديشوع سنة 424 م تتجلى هذه المكانة بشخص هوشع مطران نصيبين، عندما يتوجه بكلامه إلى الأحبار المجتمعين بسبب استقالة الجاثليق قائلاً: " ما لي أراكم ساكتين وراضين بالاشتراك مع هؤلاء المرذولين والمسقطين ". وكان في كلامه قوة كبيرة أفلحت في إنهاض الهمم وتوحيد الكلمة وتوطيد العزم، وإذا بالمطارنة جميعاً يخرون راكعين عند قدمي الجاثليق، ويعدونه بحرم المعارضين وعزلهم. وهكذا عاد الجاثليق عن الاستقالة، وعاد السلام إلى كنيسة المشرق.
وعندما كلفت الملكة بوران ابنة كسرى الثاني، الجاثليق ايشوعياب الثاني الجدالي(628_ 645) للسفر إلى مدينة حلب، ولقاء الإمبراطور هرقل لعقد صلح نهائي بين المملكتين الفارسية والرومانية، نجد قرياقس مطران نصيبين من الأعضاء البارزين المرافقين للجاثليق. وفي مجمع طيمثاوس الثاني المنعقد سنة 1318 م، وضع مطران نصيبين عبديشوع الصوباوي، كتابين مهمين لحياة كنيسة المشرق. أحدهما مجموعة القوانين المجمعية، والثاني الأحكام الكنسية. فأيد المجمع الكتابين المذكورين. وهناك الكثير من المواقف لمطارنة نصيبين لا مجال لذكرها.
5_ أشهر مطارنة نصيبين: تعاقب على كرسي أبرشية نصيبين أكثر من ستين مطراناً أهمهم:
ا : مار يعقوب النصيبيني (309_ 338): ولد في مدينة نصيبين، من أسرة تنتمي إلى يعقوب أخي الرب. اختار سيرة الزهاد والمتوحدين، وفي مطرنته لم يغير سيرته التقشفية، وزاد على ذلك الاعتناء بالفقراء. صنع الله على يده معجزات كثيرة باهرة. سنة 313 م بدأ بتشييد كنيسة في نصيبين وكملها سنة 320 م. ثم بنى دير قيبوثا " الفُلك " على جبل جودي. وبعد عودته من مجمع نيقية سنة 325 م افتتح مدرسة نصيبين الشهيرة، وجعل مار أفرام تلميذه معلماً فيها. توفي سنة 338 م، وقبر في الكنيسة التي بناها.
ب : برصوما (415_ 496): ولد في مقاطعة قردو، درس في الرها على الأستاذ هيبا، وأقام فيها حتى سنة 449، ثم رحل إلى نصيبين. ولا نعلم متى سيم مطراناً على نصيبين. لكن في سنة 457، عندما ترك نرساي الرها، كان برصوما مطراناً لنصيبين، فأعاد فتح مدرستها وجعل نرساي مديراً لها. ويقال إنه نال حظوة عند فيروز الملك الفارسي. له عدة أعمال أدبية.
ث : بولس النصيبيني (524_ 573): هو أحد تلاميذ مار آبا. تلقى العلم في مدرسة نصيبين وعلم فيها. رسمه مار آبا مطراناً على نصيبين بين سنة 524 وسنة 530. توفي سنة 573 وله عدة كتابات أهمها: 1_ ضوابط الشريعة الإلهية 2_ مقالة جدلية مع قيصر.
د : روزبيهان ( القرن الثامن): اقتبل الاسكيم الرهباني في دير مار ميخائيل قرب الموصل. ثم أصبح رئيساً لدير مار أوجين في جبل إيزلا، حتى رسم مطراناً لنصيبين. اهتم في نهضة دير مار أوجين في مطرنته، وخصص له واردات قرية هيزجان المجاورة للدير، لتوفير وسائل المعيشة للرهبان، فازداد عدد الرهبان وانتشروا في شتى المقاطعات.
ذ : قبريانوس (741_ 767): عين مطراناً لنصيبين سنة 741. وفي سنة 758 شيد كنيسة فخمة في مركز الأبرشية. له مقالة في الرسامة. وقد أسهم في تنظيم كتاب الحبريات، وفي تنظيم الطقوس الذي حققه ايشوعياب الثالث.
ر : سركيس الأول (القرن التاسع): هو من أهل باجرمي. ارتقى إلى مطرانية نصيبين. في سنة 860 انتخب جاثليقاً لكرسي المشرق، توفي سنة 872. كان سركيس غيوراً ذا همة سامية في إصلاح شؤون كنيسته. ورمم الأديار والكنائس، ونشط طلبة المدارس، ورسم عدة أساقفة.
ز : إيليا برشينايا (975_ 1056): ولد في السن، ترهب في دير مار ميخائيل قرب الموصل. في سنة 1002 أقيم أسقفاً على بيث نوهدرا. سنة 1008 عين مطراناً لنصيبين. توفي سنة 1056 ودفن في كنيسة ميافرقين، له عدة مقالات وكتاباً في النحو، وأربعة كتب تتضمن أحكاماً كنسية. وأهم مصنفاته هو تاريخه الاستقرائي الذي يدعى تاريخ إيليا برشينايا.
س : عبديشوع ابن العارض (القرن الحادي عشر): هو أبو الفضل الموصلي. كان حسن الخلق والخلقة. له باع طويل في العلم والتدبير. رسم مطراناً لنصيبين. وفي سنة 1074 اختير بطريركاً لكنيسة المشرق، فدبر الكنيسة بحكمة، وقد أرضى الجميع. وقد حصل من الخليفة القائم بأمر الله على براءة أمان لرعيته وبيعه. توفي سنة 1094 ودفن في بيعة دار الروم.
ش : إيليا أبو حليم (1108_ 1190): ولد في ميافرقين سنة 1108. وبعد أن تضلع في الآداب العربية والآرامية رسم مطراناً لنصيبين. ويقال إنه لم يكن بين آباء كنيسة المشرق من يماثله علماً وحكماً وكرماً وبلاغة وفصاحة. لذلك اختير سنة 1176 بطريركاً لكنيسة المشرق. توفي سنة 1190. كان إيليا أبو حليم مرتاضاً بالعلوم النحوية واللغوية والحكمية.
ص : يهبالاها الثاني ابن قيوما (القرن الثاني عشر): ولد في الموصل. أقيم أسقفاً على ميافرقين، ثم مطراناً لنصيبين. وكان يهبالاها رجلاً ذكياً. سنة 1190 أنتخب بطريركاً لكنيسة المشرق. وفي فترة بطريركته رسم 18 مطراناً و37 أسقفاً. توفي سنة 1222.
صا : مكيخا الثاني ( القرن الثلث عشر): كان من أهل جوغبان من أعمال نصيبين. وكان ذا حدة وصرامة، شهيراً بالعلم والفضل. اختير مطراناً لنصيبين فدبرها أحسن تدبير، حتى أنتخب بطريركاً لكنيسة المشرق سنة 1257. وفي عهده زحف المغول واجتاحوا مناطق الشرق الأوسط. توفي سنة 1290.
صب : عبديشوع الصوباوي (القرن الثلث عشر): هو عبديشوع بن بريخا . سنة 1285 أقيم أسقفاًً على سنجار و بيث عربايي، و في سنة 1290 أقيم مطراناً لنصيبين وأرمينية. توفي سنة 1318. ويعد الصوباوي أغزر كاتب شرقي في القرن الثالث عشر . له عدة مؤلفات أهمها: 1- فهرس المؤلفين 2-الجوهرة 3- نوما قانون 4- فردوس عدن 5- تنظيم الأحكام الكنسية.
6_ الحياة الرهبانية في أبرشية نصيبين: كانت الحياة الرهبانية منتشرة انتشاراً كبيراً في كنيسة المشرق، منذ القرن الرابع للمسيحية. ويتضح ذلك من مقالة أفراهاط الحكيم الفارسي سنة 337 بخصوص الرهبان، حيث يطلق عليهم لقب المنفردين، أو البتولين، أو بني العهد. ويسمي الراهبات بتولات، أو بنات العهد. أما في القرون المسيحية الثلاثة الأولى، فلم يكن في المشرق رهبان أو راهبات، يعيشون في ديورة منظمة بقوانين رهبانية. إنما كان الرجال والنساء من ينقطعون عن العالم، للصوم والصلاة والاختلاء في الصوامع أو في بيوت ذويهم.
وأول من أنشأ الطريقة الرهبانية، كان أنطونيوس الكبير المعروف بأبي الرهبان، وذلك سنة 305 في صعيد مصر. وقد دخلت الطريقة الرهبانية إلى كنيسة المشرق على يد مار أوجين في القرن الرابع، إذ قدم من مصر ومعه سبعون تلميذاً، وحل في أبرشية نصيبين، حيث سكن في مغارة قرب قرية معرى ، في جبل إيزلا المطل على نصيبين،مدة ثلاثين سنة. وتتلمذ له إخوة كثيرون، حتى صار عدد الرهبان ثلاثمائة وخمسين راهباً. ثم بنى على جبل إيزلا ديراً كبيراً عرف باسمه " دير مار أوجين ". وتفرق رهبانه في الجزيرة وفارس وهم يبشرون بكلمة الخلاص، فارتفع بسعيهم شأن المسيحية في المشرق. توفي مار أوجين سنة 363، ودفن في مغارة تحت المذبح في الدير الذي بناه.
وبعد موته استمرت حياة الرهبنة في كنيسة المشرق، وازدهرت بسبب السيرة الحسنة للرهبان الذين انتشروا في العالم، مبشرين بالإيمان والفضيلة. ومن هؤلاء الرهبان برز ملافنة زينوا الكنيسة بتأليفهم وعلمهم. وأخذت الكنيسة منهم أغلب الأساقفة لتدبير الأبرشيات، لتميزهم بالعلم والفضيلة والغيرة على خلاص النفوس. وفي نهاية القرن الخامس، أخذ عدد الرهبان بالتناقص بسبب قرارات المجمع الذي عقده الجاثليق آقاق سنة 486، وفيه ألغيت العفة للإكليروس. وبرغم ما بذله الجاثليق مار آبا من جهود، لم يفلح في إعادة الحياة الرهبانية إلى سابق عهدها. حتى ظهر في منتصف القرن السادس رجل ذو غيرة عارمة، فعكف على إصلاح الحياة الرهبانية. إنه إبراهيم الكشكري الذي ولد في كشكر سنة 491، وتلقى العلم في مدرسة نصيبين، وبعد أن نال من العلم قسطاً وافراً، توجه إلى منطقة الحيرة للتبشير، ومنها ذهب إلى صعيد مصر، واطلع على حياة الرهبان وممارستهم الروحية. ثم عاد إلى نصيبين وانزوى في جبل إيزلا، وبنى فيه ديراً عظيماً، فشاع صيته وتتلمذ له رهبان كثيرون. وفي سنة 571 وضع قوانين لرهبانيته، منها اللباس وفرض عليهم أن يحلقوا قمة الرأس ليظهر على شكل إكليل، واستحق إبراهيم الكشكري بفضائله وقداسة سيرته أن يلقب بالكبير. وعرف ديره بالدير الكبير، وقد توفي سنة 588. ويقول توما المرجي عن الدير الكبير: " مثلما في الأزمنة السالفة، كل من يريد أن يتعلم الفلسفة اليونانية كان يقصد آثينا، كذلك في زمن مار إبراهيم، كل من رغب في الفلسفة الروحية، كان عليه أن يسرع إلى دير هذا القديس، ويجعل نفسه إبناً له ". وقد أصبح الدير الكبير ينبوع رجال شابهوا الرسل بسيرتهم، وملئوا المشرق بالأديار حتى بلغت أكثر من ستين ديراً. واستمر دير مار إبراهيم الكشكري حتى سنة 1222 حيث خرب على يد المغول ثم التركمان. وفي اللائحة التي قدمها سنة 1607 إلى بولس الخامس بابا روما، الوفد الذي أرسله البطريرك إيليا السابع، وردت أخبار عن أحوال كنيسة المشرق، وفيها تذكر أسماء خمسة وثلاثين ديراً مأهولاً، منها دير مار أوجين ودير مار إبراهيم الكشكري ودير مار يعقوب الحبيس ودير مار يوحنا نحلايا ودير مار آحا. وهذه الأديار تقع ضمن حدود أبرشية نصيبين، مما يدل على استمرار الحياة الرهبانية في هذه الأبرشية حتى بداية القرن السابع عشر.
كذلك تأسست عدة ديورة للراهبات، ولا نعرف منها في أبرشية نصيبين سوى دير " مارت نارسوي " في مدينة نصيبين، وكن يلبسن ثوباًً أسود، ويقصصن شعرهن، ويعشن عيشة مشتركة، وكانت وظيفتهن تلاوة الصلوات القانونية والتراتيل في الكنيسة.
ففخر أبرشية نصيبين أنها مهد الرهبانية المنظمة في كنيسة المشرق، وقد تمكنت الكنيسة بواسطة هؤلاء الرهبان من الانتشار في العالم.
7_ مدرسة نصيبين الشهيرة: يقول العلامة لابور: " إن المدينة المطرابوليطية الكبيرة نصيبين شهدت ناشئة داخل أسوارها أول كلية لاهوتية، وأول جامعة درس فيها علم الإلهيات ". ففي سنة 325 فتح مار يعقوب النصيبيني مدرسة في نصيبين، وسلم إدارتها إلى مار أفرام، فدبرها بغيرة ونشاط حتى سنة 363 حين سلمت نصيبين إلى ملوك الفرس. عندها ترك مار أفرام مع أساتذة المدرسة، المدينة وانطلق إلى الرها حيث فتح مدرسة لبني جلدته عوض مدرسة نصيبين، عرفت بمدرسة الفرس. واستمرت في الرها حتى سنة 457 عندما هجر نرساي الملفان مدينة الرها وعاد إلى نصيبين، واتفق مع برصوما مطران نصيبين على تنظيم مدرسة نصيبين وافتتاحها. وخلال مدة قصيرة تقاطر إليها عدد كبير من الأخوة من جميع الجهات.
أما مدرسة الرها، فبعد هجرة نرساي إلى نصيبين أخذت تتراجع حتى أغلقت سنة 489 من قبل أسقف الرها قورا. أما مدرسة نصيبين، فقد لمعت وازدهرت بشكل مذهل.
وكانت مدرسة نصيبين جمعية حقيقية منظمة ومقيدة بقوانين وضوابط، يسوسها رئيس يدعى ربان، أما منهاج التدريس، فيقول عنه عبديشوع الصوباوي في كتابه نوماقانون: " إن الدروس كانت تدوم ثلاث سنين. يقرأ التلاميذ فيها أسفار العهد القديم والجديد، ويتعلمون الهجاء والقراءة والكتابة على اللوح، والألحان الكنسية وتراتيل القداس وفقاً للسنة الطقسية، وتراتيل البيم والقواعد والخطابة والجدل والموسيقى والهندسة والرياضيات، والفلك لاحتساب التقويم والأعياد والأصوام، كذلك التاريخ وكتب التصوف الروحي وسير القديسين وأعمال الشهداء وكتابات الآباء ".
أما الأمور المالية والاقتصادية للمدرسة، فكانت بيد رئيس البيت الذي كان مسؤولاً عن ممتلكات المدرسة كافة. وقد تم بناء حمام في مدينة نصيبين، آلت أرباحه إلى سد نفقاتها، وتم بناء مستشفى لمعالجة المرضى، كما تم شراء قافلة جمال، آلت أرباحها إلى صندوق المدرسة. ومن هذه الواردات كان يتم تشييد أبنية جديدة للمدرسة، ومساعدة التلاميذ الفقراء والمرضى. كما شيدت دار للضيافة لاستقبال الضيوف العابرين من نصيبين، والاهتمام بهم.
ومن خلال هذا النظام الصارم والمنهجية الواضحة، كان يزداد عدد الطلاب بشكل مثير، حتى ناهز أحياناً 1000 طالب. وقد تبوأ المتخرجين فيها أعلى المناصب في كنيسة المشرق، فمنهم جثالقة ومطارنة وأساقفة وعلماء ومؤسسو مدارس جديدة.
ومنذ أن أنشئت مدرسة نصيبين سنة 325 وحتى بداية القرن الثامن، زمن انحطاط هذه المدرسة، تعاقب على إدارتها رؤساء متميزون، دبروا المدرسة بحكمة وهمة قعساء، ساهرين على مصالحها الأدبية والمادية. فنمت وازدهرت في عهدهم، وأضحت جامعة بحد ذاتها، وهؤلاء الرؤساء هم: 1_ أفرام النصيبيني 2_ قيورا 3_ مار نرساي 4_ اليشاع برقوزباي 5_ إبراهيم بيث ربان 6_ ايشوعياب الارزني 7_ إبراهيم النصيبيني 8_ حنانا الحديابي 9_ ربان سورين.
ختاماً نستطيع القول إن مدرسة نصيبين الشهيرة كانت مركز ثقل، ومعين وحي للحياة الفكرية والروحية لكنيسة المشرق.
8_ ما تبقى من آثار نصيبين في الزمن الحاضر: إن عوادي الزمان أزالت الكثير من آثار هذه الأبرشية. ولم يبق من عظمة هذه الآثار إلا الشيء اليسير جداً، نذكر منها:
ا : كنيسة مار يعقوب النصيبيني: أسسها مار يعقوب مطران نصيبين سنة 313، وانتهى العمل فيها سنة 320. كانت هذه الكنيسة آية في الجمال والفن المشرقي، واسعة الأرجاء، زينت جوانبها الأربعة بزخارف ونقوش جميلة، فيها أسوار تعلوها نقوش كثيرة وبديعة. تحت مذبحها الشرقي سرداب مربع يحوي ضريحاً من الرخام المغبر طوله 3 أذرع، مغطى بحجر مقبب، يقال إنه ضريح مار يعقوب النصيبيني باني الكنيسة. وفيها حجرة سطرت عليها جملة بالأسطرنجيلية. ومع تدوال الأيام قوض نصفها وبقي نصفها الآخر حتى اليوم. وقد رممها سنة 1562 مطران نصيبين ايشوعياب. وقد أخذها السريان الأرثوذكس من الكلدان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويؤيد قولنا هذا ما قاله المطران اسحق ساكا في كتابه كنيستي السريانية: " حتى أواسط القرن التاسع عشر، استولى البطريرك يعقوب الثاني 1847_ 1871 على بيعة مار يعقوب النصيبيني في نصيبين، ورسم لها قورلس اشعيا ".
ب : دير القديسة فبرونيا: أسسته الراهبة برونة، وجمعت فيه نحو 50 راهبة. وجعلت لهن قانوناً شديداً صارماً. وبعد استشهاد الراهبة فبرونيا، دفنت في الدير المذكور. وموقع الدير هو جامع زين العابدين الحالي. وقد بقي جسد فبرونيا في ضريح الدير حتى يومنا هذا.
ث : دير مار أوجين: يقع دير مار أوجين في سفح جبل إيزلا المطل على نصيبين، بالقرب من قرية معرى. والدير مستو في واد بين جبلين، يشرف على البرية وعلى نصيبين. ويتكون دير مار أوجين من مجمع ديري رهباني، يشتمل على المباني التالية:
1_ الكنيسة الكبرى : وفيها ضريح مار أوجين، وإلى جانبه ضريحا أختيه تقلا وأسطرنطاس، والأضرحة الثلاثة هي من الرخام المغبر.
2_ المصلى الصيفي : يقع شرقي الكنيسة الكبرى. ويشتمل على غرفة متسعة فيها قبور كثيرة.
3_ بيت الصلاة : وهو مؤلف من ثلاثة أروقة عالية معقودة بالآجر، وعلى الرواق الأوسط قبة يعلوها القرميد الأحمر، وتحتها غرفة مربعة على اسم العذراء مريم.
4_ أطراف الدير : ويوجد في أطراف الدير مناسك وصوامع شتى. يكتنفها سور، وآثاره بينة ظاهرة، وبئر كبيرة ومغارة وسيعة فيها عظام الراقدين.
وقد شيد هذا الدير في القرن الرابع المسيحي، وكانت له أهمية لدى كنيسة المشرق. حيث راجت فيه أسواق العمران الروحي والعلمي والديني والثقافي عدة أجيال. وقد استولى عليه السريان الأرثوذكس في أواخر القرن السابع عشر، ودمره الجيش التركي في سنة 1925.
د : دير مار إبراهيم الكشكري: يقع هذا الدير في منطقة بيث جوجل جنوبي قرتمين، وجنوب شرقي بيث ريشا. بناه إبراهيم الكشكري في القرن المسيحي السادس. وقد قام هذا الدير الشهير بدور رائد في الحياة الفكرية لكنيسة المشرق. وقد دعي بالدير الكبير، حيث أضحى مدرسة رهبانية روحية، يتدرب فيها الرهبان على الفضائل المسيحية والغيرة الرسولية. استولى عليه السريان الأرثوذكس في القرن التاسع عشر.
ذ : دير يوحنا الطائي: يقع شرقي دير مار أوجين ويبعد عنه 3 كم. ويوحنا مؤسس الدير هو أحد تلاميذ مار أوجين. وقد دفن يوحنا الطائي في ديره، وشيد الرهبان فوق ضريحه كنيسة مقببة فخيمة، مؤلفة من سوق واحد، يفصله عن الخورس حاجز. وقد استولى السريان الأرثوذكس على هذا الدير في القرن التاسع عشر.
الخاتمة: من خلال هذه اللمحة القصيرة والسريعة لتاريخ أبرشية نصيبين العريق والشهيرة، نلاحظ الدور الرائد الذي أدته هذه الأبرشية في تاريخ كنيسة المشرق. فنشاط وحيوية هذه الأبرشية العريقة، أعطى دفعاً مهماً إلى حياة هذه الكنيسة.
المراجع:
1_ مدرسة نصيبين الشهيرة المطران أدي شير
2_ سيرة أشهر شهداء المشرق المطران أدي شير
3_ تاريخ كلدو وآثور المطران أدي شير
4_ تاريخ الكنيسة الشرقية 3 أجزاء الأب ألبير أبونا
5_ أدب اللغة الآرامية الأب ألبير أبونا
6- كنيسة المشرق الأب يوسف حبي
7_ تاريخ إيليا برشينايا الأب يوسف حبي
8_كتاب المجدل ماري بن سليمان
9_ الكنيسة الكلدانية الخوري يوسف تفنكجي
10_ ذخيرة الأذهان الأب بطرس نصري
11_المؤسسة البطريركية في كنيسة المشرق المطران عمانوئيل دلي
12_ سورية المسيحية في الألف الأول للمسيحية الأب متري هاجي اثناسيو
13_ كنيستي السريانية المطران اسحق ساكا
14_ ثقافة السريان في القرون الوسطى نينا بيغوليفسكايا
15_ معجم البلدان 5 أجزاء ياقوت الحموي