Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

نعم ، كلنا مهاجَرون وشهداء وإنْ كنّا أحياء

نعم ، كلنا مهاجَرون وشهداء وإنْ كنّا أحياء

 

                                                     المونسينيور د. بيوس قاشا

 

في البدء     

نعم،.. هذا هو حالنا، فنحن اليوم وسط عالم ملؤه الكراهية، ويسوده العنف والحقد والطائفية، فضاعت كما تاهت فيه قِيَم الإنسانية بشهوة السيطرة على الأقلية وإذلالها عبر سبل الطائفية المقيتة والعشائرية المنبوذة والقبلية المتخلفة بتمييزها العرقي والديني والمذهبي من أجل قلع جذور الأصلاء والذهاب إلى طريق النزوح والهجرة والمغادرة نحو الغربة القاتلة في بلاد الغربة، متسلّحين بذرائع عديدة وحجج مختلفة، وهذا ما يزيد الحياة فساداً وتهميشاً، ويملك حب السلطة والابتزاز من أجل مصالح أنانية... وما تلك إلا مشيئة مسيَّسة.

زيارة حج

حالفني الحظ أن أقوم بزيارة حج ، نعم بزيارة حج إلى دير مار بهنام الشهيد المشيَّد في (القرن الرابع الميلادي حيث يرتبط بقصة الأمير الآشوري مار بهنام الذي أصبح مسيحيا مع أخته سارة وأربعين من اتباعه على يد مار متي ، فلما علم والده الملك سنحاريب بالأمر أمر بقتلهم جميعا. غير أنه ندم ندما شديدا على ذلك فاعتنق المسيحية ، وأمر ببناء الدير تكفيرا عن ذنبه.  فلقد تم بناء الكنيسة والدير في عهد شابور الثالث (383م-388م) ثم بهرام الرابع 388(م-399م) ويزدجر الاول (399م - 420م)  والدير يتربع في حضرة قرية الخضر، وهو شفيع باخديدا وسهل نينوى بامتياز، وكم كنتُ أتطلّع باشتياق إلى هذا الحج وهذه الزيارة، فالفارس بهنام شفيعنا وشفيع مدينتنا وسهلنا بأكمله،مسلمين ومسيحيين ،  وهي المرة الأولى التي أقوم فيها بالحج إليه بعد تحريره من داعش الإجرامي من قِبَل قوات جيشنا العراقي الباسل والحشد الشعبي والعشائري، وقد آلمني ما رأيتُ والدمار الذي أصابه بعد ما اقترفته أيادي الأثمة من تنظيم الدولة، فقد مَحَوا تاريخ الدير من أصوله وحضارته، ومسحوا صفحات تاريخه، ونهبوا ممتلكاته واستولوا على مقتنياته، والأنكى من ذلك أنهم أبادوا كل ما هو مسيحي وكل أثر يحمل علامات إيمان مؤمني المسيح الحي من صلبان وتماثيل وأيقونات مرمرية فدمّروه بفأس العار لا لشيء إلا لأنهم يحسبون أصحاب الإنجيل المقدس كفّاراً ومشركين، فهكذا يقول فكرهم البائس، فنالوا من قدسية الدير مبتغاهم، ولو سألناهم كم وكم من المرات ملأ الدير بطونهم وأتخم كروشهم بما أكلوه من خيراته وما شربوه من ينابيع مياهه فلا جواب لهم إلا إننا كفّار، ومع هذا فهم يحسبون كل شيء يقومون به حلالاً طاعة لإله تنظيمهم البائس،إنه دمار وموت وتهجير وتكفير وذبح وجزية وشهادة وأكثر من ذلك.نعم ، هذا ما خلّفه وراءه تنظيم الدولة الإسلامية، ومما زاد في نهجه التدميري،  انه أنشأ صراعات طائفية، وسيَّس الدين وأولجه في قوالب القتل والدمار والذبح. فالمسلمون والمسيحيون حلال قتلهم إنْ لم يكونوا في طاعة الإرهاب في أي بلد عربي كان،بل في العالم باسره ،  وما هذا إلا ديدنهم. فلقد تمت التضحية بالإنسان وبحضارته وعلمه وبشعوب المنطقة في سبيل مصالح أجنبية وعمالة مربحة، فهذه السياسة المدمِّرة هي التي تسبّبت بقتلنا وتهجيرنا من بلادنا، وفي ذلك ما نحن إلا مشاريع استشهاد في سبيل الحقيقة وإن كنّا أحياء، وما جريمتنا ، إلا أن الأرض أرضنا ونحبها، إنها أرض آبائي وأجدادي، دُفنوا في ترابها، وجَبلوا ترابها بدماء رقابهم ضحايا، شهداء، فعُجنوا فيها كالخميرة وستبقى( متى 6   ) ، ومهما كان زمن الإرهاب طويلاً ستبقى أرض أرضنا ، وبدوننا ستعود الأرض صحراء قاحلة لا نَفَس فيها ولا حياة، كما ستبقى أسواقاً للجاهلية والتخلّف والارهاب .

هجرة وضياع

أكيد إن الأحوال اليائسة التي نحياها جعلت مكوِّننا الأصيل يفكر في الهجرة والضياع بسبب ما يعانيه من الأمان الهشّ وسرقة ممتلكاته وأراضيه. إنهم يريدوننا أن نكون لهم عبيداً. إنهم يريدون أن يستملكوا عقاراتنا، أراضينا، بيوتنا، مدّعين أن ذلك ما هو إلا غنائم حصلوا عليها عبر إجرامهم البائس. فنحن كفرة ولا يجوز أن نمكث ديار آبائنا قائلين "هذه ليست دياركم، اخرجوا ولا تبقوا في البلاد وإلا ستدفعون ثمن بقائكم شئتم أم أبيتم. فارحلوا"... إنها عبارات قيلت لكثيرين من الذين خطفتهم القاعدة بالأمس، واليوم تنظيمهم البائس.

البابا فرنسيس

في الثامن من تموز 2018، قال قداسة البابا فرنسيس خلال لقائه البابا تواضيروس (بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية)، قال:"لقد سادت في السنوات الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط حروب وظلم وعنف وهجرة إجبارية، وأمام كل هذا صمت الكثير وأصبح الشرق الأوسط مهدَّداً بهجرة المسيحيين منه. ولكن إذا افتقر الشرق الأوسط من المسيحيين لن يصبح شرقاً أوسط، وستتغير طبيعته ووجهه"... وما ذلك إلا صوت الحقيقة.

خارطة طريق

 أحبائي المسيحيين... تعالوا نرسم لنا خارطة طريق، فالمرحلة المقبلة تحمل لنا تحديات خطيرة بل مميتة. فوجودنا في امتحانٍ قاسٍ، ودورنا قد انحسر في بيوتنا، فكفانا تشتّتاً وانقساماً، وكفانا كلاماً وصراخاً، فالوطن وطننا ولا يمكن أن نسترجعه إذا ما اضعناه أو إذا ما طُردنا منه، فالحجّة اليوم هي للأقوى، ومع موت الوطن يموت الحوار المتبادَل ويعقبه موت العيش المشترك، وتنحسر فيه التعددية وتموت الاقلية، فيتحقق قول قداسة البابا فرنسيس إذ قال:"إذا افتقر الشرق الأوسط من المسيحيين لن يصبح شرقاً أوسطا، وستتغير طبيعته ووجهه"، والويل لنا إذا اضعنا أرضنا.

 مخططات ومغامرة

نعم، لندرك أن مخططات عديدة تترقبنا وهذه كلها ستحدد مصيرنا ومصير وجودنا في أرض أجدادنا، فما نحن إلا حملان لإبراهيم، ساعة يشاؤون علينا أن نكون لهم ومن أجلهم، فنحن أمام مخططاتهم عناصر معادية يجب القضاء عليها. كما نحن مدعوون إلى أن نخوض المغامرة وإن كان" الاضطهاد " ( متى 44:5     ) يلفّ المسيحيين في العالم وعلى مستويات عالية، فما علينا إلا أن نكافح من أجل البقاء. إننا نرى وطننا يتداعى، وما ذلك إلا وصمة عار على جبيننا كلنا، فنحن على شفير الهاوية، وعبثاً نحن نفتش عن شعبنا ونحن متنازِعون.وإنني متعجب، فلم أجد ولم أسمع ولم أحضر اجتماعات ومؤتمرات ومناشدات وبيانات وإعلانات وصراخات و... و... هذه السنين بقدر ما سمعته في  السنين السابقة التي كنّا فيها لا نحتاج إلى شيء، فكل شيء كان واضحاً، والمسيرة أوضح ومع هذا فالمخطط واضح وظاهر أمام الملأ ولكن ربما لا نريد ان نسمع وأن نرى والقافلة تسير نحو الضياع ، حتى ما ؟؟.

صوت صارخ 

فكونوا أمناء لكنيسة أمّنا، لأنكم أنتم رجاؤها... بالمسيح الذي هو رجاؤنا ، أنتم رسل المحبة بعيشكم القيم المسيحية المتجسدة في الخدمة المجانية من أجل نشر العدالة والسلام. فتعالوا نعود إلى جذور إيماننا، فإنني أقولها: إن إيماننا لا زال ربما سطحياً بل عاطفياً، لا ندرك كيف نحياه في مراحل مسيرتنا الصعبة، وفي الغالب يصيبنا الإحباط والملل بل ربما نقع في مسيرة ضياع تقودنا إلى الهجرة شئنا أم أبينا. واعلموا أن مشكلتنا لا تُحَلّ بالبكاء والعويل والرحيل، فالحياة لا تقاس بسندويج المساء ونعاس الليل، بل أن نكون صوتاً صارخاً متحدّين صوت المخططات السيء الصيت، وفي ذلك ندرك _ كما يقول الكاردينال البطريرك ساكو _ أن كنيسة اليوم هي غير كنيسة الأمس (كنيسة أيام زمان)، فنحن بحاجة إلى مواجهة تحديات جديدة من أجل معالجة ملائِمة وطروحات ينبغي التعامل معها.

موقف تاريخي

  وهنا اذكر ما قاله يوماً قداسة البابا شنودة الثالث مُظهراً موقفه التاريخي في مسيرة الكنيسة القبطية ألأرثوذكسية، قال:"إنْ كانت أمريكا ستحمي كنائس مصر فليَمُت الأقباط وتحيا مصر"، وجاءت هذه المقولة في إطار ما كان يشاع من محاولة تهجير المسيحيين في بلدان الشرق بدءاً بمصر ومروراً بالعراق وسوريا ولبنان.

   إن هذه المقولة علامة أكيدة أنْ لا أحد يحمي المسيحيين والمكوِّنات إلا المصالح والمخططات، وما أكثر الذين يعلنون عكس ذلك عبر البيانات والإعلانات والتصريحات والزيارات. وأما الحقيقة فهي غير ذلك لأن الأيام تظهرها لنا جلياً وتفسرها لنا مسيرة حياتنا، وأصبحنا لا نكترث بالمظاهر الخارجية المفعَمة أحياناً بالنفاق إنما نبتغي نفوساً صدقت في إيمانها، وجسّدت تعاليمها السماء، لأن مثل هذه المظاهر لا يمكن أن تخدعنا لفترة طويلة ولكنها تعجز عن خداع حقيقة الحياة. فما نحتاجه ليس فقط الصمت والسكون بل علينا أن نكسر حداد الصمت ونعلنها واضحاً وجلياً وبصوتٍ عالٍ كي تُعلَن شهادتنا لمسيرتنا ولإيماننا، فإذا خسر المسيحيون حضورهم وتأثيرهم في هذا الشرق فمن المؤكَّد أننا سنكون مع مَشْرِق متطرّف ومتعصّب، وتبقى الحروب ومآسيها جاثمة على صدورنا حتى تدفع بنا إلى الرحيل والهجرة والنزوح والشهادة والموت وفقدان الثقة. فلا يجوز أن نختبئ خلف هموم تافهة فنكون عملاء لغايات شريرة ومسيسة ، فيظيع وجودنا وتموت حقيقتنا.ولنملك رجاء الحياة بالمسيح الحي وان كنا نعيش ازمة رجاء فالواقع يرفض كل حقيقة ويعلن الفساد حقيقة، وهذا ما يجعل الإنسان تعيساً لأن رجاءه وُضِع في هذه الدنيا،  ليس إلا .

الختام

وختاما اقول ، ومع هذا أيها الإرهابيون، اعلموا أنّ الرب المسيح الحي أوصانا بكم وقال لنا "صلّوا لأجل أعدائكم وأحبوهم"(لوقا 6: 27-38) ، فنحن اليوم _ كما في الماضي _ نرفع صلاتنا إلى الإله الحق بالمسيح الحي لكي يمنحكم نعمة التوبة والندامة على أعمالكم الإجرامية. واعلموا جيداً _ أنتم وغيركم من الدواعش _ أن أجدادنا وآباءنا هم علّموا آباءكم وأجدادكم القراءة والكتابة والحساب، وترجموا لكم كتباً لتكون دليلاً لعلمكم البائس القاتل والمميت، وبنوا وأسّسوا لكم مدارس ومعاهد لكي تدركوا علم الحياة. ألبسوكم يوم كنتم عريانين، وطيّبوكم يوم كنتم مرضى في بيوتهم ومستشفياتهم، واسكنوكم حضارة الحياة عبر مساكن الراحة بدل خيم الصحراء، ووضعوكم في مسار التاريخ لتدركوا حقيقة الأثر حينما يُبنى السلام والتعايش، ولكنكم لم تفلحوا في ذلك شيئاً. علّموا أسنانكم أكل حنطة الحياة من أجل سنابل الحضارة والحوار، ولكنكم لا زلتم متعوّدين على افتراس البريء وسحق الحقيقة وقتل الضحية، ولكن اعلموا مهما ذبحتم، ومهما هدمتم منازل وكنائس وأديرة، وسرقتم أموالاً وممتلكات، وحرقتم بيوتاً، فنحن سنبقى نسير بقاماتٍ طوال، ونبقى نحرث أرضنا ونزرعها لتُنبت سنابل السلام بحبات الحوار، وعندما نكبر،  وتتعبون أنتم من حروبكم البائسة، وتفرغون عقولكم من حقدكم وكراهيتكم وتكفيركم وأعمالكم الإجرامية، ندعوكم ضيوفاً لتستظلّوا بظلّها. فالمسيحية شجرة باسقة تعطي ثمراً للجائع في أوانه وفي غيره (لوقا 43:6) ، كما هي ظلّ للمتعَب وحياة للمائت (  يو 25:11 ) . ونعلمكم إذا ما تبتم عن أعمالكم ورجعتم عن جرائمكم، تأكدوا أننا سنسامحكم ونقول لكم "إننا نحبكم" ( لو6: 27-38 ) ، فهكذا علّمنا إلهنا، المسيح الحي، الذي لا يموت.نعم هذه شهادتنا وهذا أستشهادنا ، نعم وامين .

 

 

        

Opinions