Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

هل تريد سوريا وإيران فتنمة العراق؟

-1-
دأبت الأدبيات السياسية العربية الحالية سواء كانت من التيارات الدينية أم من التيارات القومية على وصف الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط الآن بأنه غرق في "المستنقع العربي" الموحل والمليء بالزواحف القاتلة، من الصعب على امريكا الخروج منه بسهولة، إلا بعد أن تدفع ثمناً غالياً من جنودها القتلى، وملياراتها المهدورة، وآلياتها المعطوبة. ويشارك هذا الرأي، وهذا التحليل، كثير من المثقفين الأمريكيين والأكاديميين الذين يكتبون في الدوريات الفصلية الأمريكية الرزينة، ويلقون المحاضرات والأحاديث في المنتديات الثقافية والإعلامية من أمثال كينيث بولاك مؤلف كتاب (الرأي العام العربي) المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، والعضو في "معهد دراسات الشرق الأدنى"، ومن أمثال بيتر واتسون الذي كتب بحثاً عن "الضياع في مستنقع الحداثة"، ومؤلف كتاب (الجمال المخيف: تاريخ الناس والأفكار التي شكّلت العصر الحديث) والكاتب اليساري المعروف نعوم تشومسكي وغيرهم. وهؤلاء وغيرهم يردون كانوا على وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفيلد وخطته العسكرية المُسمَّاة (تجفيف مستنقعات الإرهاب Draining the Sawmps ) وهي الخطة التي من أجل تحقيقها جهزت أمريكا حملاتها العسكرية على افغانستان والعراق، وتستعد الآن لتجهيز حملات جديدة على بلدان أخرى من العُصاة والبُغاة ودول الإرهاب في الشرق الأوسط وحاضني "مستنقعات الإرهاب" على حد التعبير الأمريكي الرسمي.
فمن الذي سقط في فخ هذه المستنقعات، الإرهاب أم من جاء ليحارب ويستأصل ويقضي على هذا الإرهاب؟

-2-
ما هو المستنقع الذي وقعت فيه امريكا؟
أُطلق على الوجود الأمريكي في العراق خاصة "المستنقع العراقي"، في حين نجا الأمريكيون على ما يبدو من "المستنقع الأفغاني" الذي سبق أن وقع فيه السوفيت (1979-1989) وغرق فيه 300 ألف جندي، وخسروا فيه أكثر من عشرة آلاف جندي. وأدى وقوع السوفييت في هذا المستنقع إلى تدهور الاقتصاد السوفييتى، وعدم تمكنه من تحمّل نفقات حرب كبيرة خارج حدوده، ومعارضة الجنود السوفييت للحرب ، وظهور موجات من المعارضة لهذه الحرب داخل الاتحاد السوفيتى، ووصول جورباتشوف الى الحكم فى عام 1985 وهو الذي كان ضد هذا الغزو. ولكن المستنقع الأفغاني لم يكن سبباً لانهيار الاتحاد السوفييتى عام 1991 كما تقول الأدبيات السياسية للجماعات الدينية الأصولية .
فهل وضع امريكا في العراق يعتبر "الغرق في المستنقع"، كما كان حال الاتحاد السوفياتي في أفغانستان؟
وهل سيؤدي "المستنقع العراقي" إلى افلاس مالي أمريكي، وانهيار الامبراطورية الأمريكية كما تقول الأدبيات السياسية الأصولية العربية القومية منها والدينية؟
-3-

إن "المستنقع الأفغاني" ومن قبلة "المستنقع الفيتنامي" الذي غرق فيه نصف مليون جندي أمريكي، وقُتل خمسون ألف جندي منهم، وجُرح أكثر من 250 ألف جندي، كانا "مستنقعين حقيقيين" للسوفييت وللأمريكان، في حين أن الوضع في العراق يختلف كل الاختلاف عن هذين المشهدين السياسيين والعسكريين للأسباب التالية:
1- أن المقاومة في كلا المستنقعين كانت شاملة من كافة السكان، وليست من فئة واحدة معينة ضد الاحتلال الأجنبي، كما هو الحال الآن في العراق. إذ من يقاوم الوجود العسكري الأمريكي في العراق فئات معظمها من خارج العراق وبمساعدة سوريا وإيران العسكرية والمالية واللوجستية والفئات الدينية الأصولية المتشددة.
2- أن المقاومة في كلا المستنقعين كان لها مطلب رئيسي وهو جلاء القوات الاجنبية والاستقلال، في حين أن مطلب الجلاء عن العراق ليس مطلباً شعبياً عارماً وليس مطلباً حكومياً رسمياً، وإنما هو مطلب من يريد أن يضع نفسه مكان القوات المنسحبة، وهو ما عبّر عنه صراحة أحمدي نجاد من استعداد العراق لملء الفراغ العسكري والأمني في العراق، وكذلك أبدت سوريا الرغبة نفسها.
3- أن المقاومة في كلا المستنقعين كانت مدعومة من الخارج بقوى عظمى ذات مال غزير، وسلاح وفير. وما يطلق عليه بالمقاومة العراقية الآن أصبحت مدعومة كذلك من قبل دولة غنية كإيران ودولة ذات خبرة طويلة بأعمال الإرهاب كسوريا، ولكن هاتين الدولتين معرضتان للعقاب العسكري والاقتصادي والسياسي نتيجة لذلك، كما نرى التهديدات المتواصلة لهما من قبل أمريكا وفرنسا.
4- أن المقاومة في كلا المستنقعين، كانت مدعومة بالرأي العام العالمي والشرعية الدولية بما فيهما الرأي العام الأمريكي والرأي العام السوفياتي، اللذان كانا سبباً رئيساً للخروج والخلاص من هذين المستنقعين. في حين المقاومة العراقية في نظر الرأي العام العالمي - الذي يلعب دوراً كبيراً في رسم السياسات الدولية - تعتبر عناصر إرهابية يجب القضاء عليها.

-4-

ومن هنا نقول، أن حدود "المستنقع العراقي" ضيقة ومحصورة - إلا إذا وسّعت أمريكا دائرة هذا المستنقع، باستهداف ما يُطلق عليه "ضفتا الإرهاب" (سوريا وايران) - مهما طال به الزمن. ولن تطول كما كان عليه الحال في "المستنقع الفيتنامي" الذي مكثت فيه امريكا احدى عشرة سنة (1964-1975) للأسباب التي ذكرناها أعلاه، حيث كانت فيتنام مجالاً وأرض معركة لصراع القوتين العظميين في العالم، كما كان لبنان (1975-1989) مجالاً وأرض معركة لصراع القوتين العربيتين الرئيستين: حزب البعث السوري (القيادة القطرية) مع بعث العراق ( القيادة القومية).

ومن هنا، فإن بقاء القوات الأمريكية في العراق لن يطول إلا إذا أراد له الأصوليون السُنّة في العراق أن يطول، بفعل الاعتداءات اليومية المسلحة على الحرس الوطني وقوات الأمن العراقي والجيش العراقي ومرافق الدولة الحيوية، وشعور العراقيين بأنهم بحاجة إلى قوة ضاربة لحماية السلم الأهلي والأمن الوطني.

-5-

لقد أرادت إيران وسوريا أن تكون العراق بالنسبة لأمريكا فيتنام مريرة ثانية وهو ما لم يكن في حسبان الإدارة الأمريكية في عام 2003. وأخطأت أمريكا عندما نقلت معركتها ضد الإرهاب من أراضيها إلى الشرق الأوسط؛ أي من أرضها البعيدة والصعبة والمحصنة، إلى أرض أعدائها القريبة منهم والمكشوفة والسهلة الوصول والتسليح. وهذا هو الفخ الوحيد الذي سقطت فيه أمريكا بفعل ثعالب المنطقة. وهو ما دفع واحداً من عقلاء وجهابذة السياسة الأمريكية (هنري كيسنجر) لأن يقول في مقال نشرته جريدة هاآرتس مؤخراً من أن "الحرب في العراق عادت لإثارة ذكريات من حرب فيتنام، وهي التجربة السياسية الأكثر أهمية بالنسبة لجيل أمريكي بأكمله". ولكن كيسنجر يستدرك ويحذر من مغبة الانسحاب الأحادي السريع ويقول:" الانسحاب السريع أحادي الجانب في العراق سيكون كارثياً. يتوجب استنفاد تسوية سياسية من خلال وجهات النظر التي تناقض بعضها البعض أو تتطابق مع بعضها البعض ـ سواء وجهة نظر الأحزاب العراقية المختلفة أو الدول المحاذية للعراق أو الدول الأخرى ذات العلاقة بهذه القضية. من دون هذه التسوية سيفيض الطوفان العراقي علي الجانبين ويغرق كل الضالعين في الأمر. إن الشرط المسبق والضروري هو قدرة الصمود على المدى القريب".

وبهذا تفوّت أمريكا الفرصة على كل أعداء العراق لفتنمة العراق وتحويله إلى فيتنام من جديد. Opinions