هل حقا يريد الوطن الاستفادة من علماءه وكفاءاته في الخارج؟
في العالم لا يختلف اثنان حول اهمية الكفاءات المهاجرة في بناء البلد الا في العراق فشأن هذا الموضوع شأن المواضيع الساخنة الاخرى التي تعرقل حل المشاكل والقضاء على الازمات ودفع مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي الى الامام. وفي العالم لا جدال حول اهمية العنصر البشري في العملية الاقتصادية مهما كان انتمائه او لون بشرته او مكان اقامته طالما يمتلك الخبرة والكفاءة والمعرفة التي تتلائم مع احتياجات المجتمع التنموية، فدول العالم اهتمت وتهتم بكفاءاتها الموجودين في الخارج كأهتمامها بكفاءات الداخل، لا بل تعطي اهتماما اكبر لكفاءات الخارج بسبب تمكنها ونجاحها في مجتمعات متطورة ومتقدمة وفي اجواء تنافسية عالية ولتمتعها بدرجة عالية من التعليم والمهارة.في العراق فقط ترى حالة عدم احترام القدرات العلمية والكفاءات التي ترغب صادقة في خدمة وطنها، وتسود اراء عدائية نحو كفاءات الخارج منها ما يؤكد على عدم احتياج العراق الى هذه الكفاءات وبأنها غريبة عن تربة الوطن ولا تفهم مشاكله ولا تستطيع ان تقدم حلولا لها. اصحاب هذه الاراء لا يعرفون ان العلماء العرب في امريكا فقط يقدمون لها دخلا لا يقل عن 40 مليار دولار سنويا، وهو ما يعادل نصف دخل الدول العربية مجتمعة من النفط، وبأن احد اسباب ازدياد تخلف الدول العربية هو هجرة علمائها الى الخارج وعدم الاستفادة من خبراتهم في التنمية. وفي المقابل تعتبر كل الاراء المنشورة والتصريحات الرسمية حول الموضوع ان الادمغة المهاجرة هي خسارة جسيمة للاقتصاد الوطني، وتأكد على ضرورة الاستفادة منها في كل مجالات التنمية.
وفي صدد تقديم اجوبة شافية للاسباب الداعية لهجرة الادمغة العربية يشير الدكتور عبد الحسن الحسيني في كتابه "التنمية البشرية وبناء مجتمع المعرفة" (1) الى تبذير الاموال والطاقات والتدخل المباشر في حياة الفرد والى انتشار الفساد واستلام الفاسدين والمفسدين مقاليد الامور بحيث يؤدي ذلك الى ان يعيش طلاب العلم في غربة وسط ازمات سياسية وعلمية واقتصادية مما تدفعهم الى الهجرة والعمل خارج اوطانهم فيبرعوا وينتجوا. فاذا كان الجميع يتفق حول خطورة هذه الهجرة ويدق كثيرون ناقوس الخطر ويحذرون من نتائجها السلبية ويعقدون مؤتمرات ليبحثوا وسائل الحد منها وكيفية استعادة هذه العقول إلى وطنها فلماذا لا نجد حتى ابسط الحلول والسياسات تطبيقا في بلداننا؟ وهل ان من يبرع وينتج في الخارج لا يستحق الرعاية والتقدير في الداخل؟
ماهي اسباب النهج والاراء العدائية؟ ولماذا لم يستفيد العراق من كفاءاته في الخارج بصورة صحيحة وفاعلة؟ ولماذا يستمر ابعاد وتهميش الخبرات والكفاءات؟ ولماذا نجحت دول نامية في اجتذاب علماءها وكفاءاتها في حين فشل العراق؟ يعزو البعض ان بعض الاسباب تعود الى العرقلة الادارية التي يمارسها بعض المسؤولين بسبب تخوفهم من الخبرة القادمة، حيث الهدف هو تحقيق المصالح الشحصية قبل مصلحة الوطن. قد يكون هذا هو احد الاسباب، الا انه ليس بالسبب الرئيسي. الفشل في الاستفادة من العقول العراقية في الخارج يعود بدرجة ما الى انعدام الاهتمام بهذه الظاهرة ومحاولة فهمها ووضع افضل السبل لمعالجتها. وتتحمل الدولة مسؤولية كبيرة في هذا التقصير ونحن نتفق مع جعفر الونان (2) في انه يؤخذ على الحكومة عجزها في وضع برنامج علمي لتحفيز وجذب العقول العراقية المهاجرة وانعدام الحلول الجذرية واستمرار التجاذبات بين رئاسة مجلس الوزراء الحالمة بعودة عدد اكبر من الكفاءات وبين الوزارات التي تضع ضوابط معقدة. كما ان مجلس النواب السابق لعب دورا في ايقاف تشكيل هيئة اعادة الكفاءات الوطنية العراقية المهاجرة التي كان من المفترض تشكيلها من عدد من الوزراء ووكلاء الوزراء والشخصيات العراقية وذلك بعدم تشريع قانون الكفاءات في الوقت الذي اعتبر فيه وزير التعليم العالي د. عبد ذياب العجيلي الكفاءات العلمية المهاجرة ثروة وطنية وخزين وطني استراتيجي.
لابد من التأكيد على أن سياسات الاستفادة من الكفاءات لابد ان تبنى على اساس ازالة العوائق التي تعيق ارتباط العلماء واصحاب الكفاءات بالوطن ومنحهم الحوافز المادية والاجتماعية للعمل في الوطن، ومنها ازالة الروتين القاتل في انجاز معاملات العائدين وصعوبة الحصول على سكن ملائم ووظيفة ملائمة. الا ان هذا ليس بالكافي لان هجرة الكفاءات وعدم رجوع المهاجرين وبقاءهم في بلد المهجر يعود الى جملة من العوامل السياسية والاقتصادية تم تناولها عدد كبير من الكتاب والباحثين في موضوع هجرة العقول ولا مجال لتناولها بالتفصيل هنا في هذه المقالة القصيرة، ونكتفي بذكر بعض الاسباب كالفقر والبطالة والاضطهاد السياسي وانعدام الحريات وحالة عدم الاستقرار والمشكلات الاجتماعية وضعف فرص المشاركة والعمل الملائم والتي ادت الى هجرة ما بين عشرين الى ثلاثين مليون مهاجر أي ما يزيد عن 10% من سكان العالم العربي. وتشيرالتقارير الى أن 55 % فقط من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج يعودون إلى بلادهم فيما يستقر الآخرون في الخارج. يا ترى كم من الطلاب الذين ترسلهم وزارة التعليم العالي ورئاسة مجلس الوزراء سيعودون الى العراق بعد انتهاء دراستهم؟ وهل اخذت احتمالات عدم عودة الكثير من الطلبة واسبابها بنظر الاعتبار في اختيار المرشحين للبعثات؟ لقد كنا قد اقترحنا سابقا بالتأكيد على تدريب من هم اكثر ضمانة بالرجوع للوطن الا وهم اساتذة الجامعات الحاليين واقترحنا فترات بين سنة وثلاث سنين وبدفع كافة التكاليف على عكس ما تعتمده وزارة التعليم العالي حاليا من برامج قصيرة للتدريب ومن دون دفع اجور التدريب للجامعات المضيفة وهو ما يؤدي الى صعوبة ايجاد موقع ملائم للتدريب واذا وجد الموقع فأن التدريب لايؤدي الى الغرض المرجو منه لقصر الفترة.
اذا ما فرضنا عدم وجود زخم كبير لهؤلاء الذين لا يرغبون بعودة الكفاءات او الذين يتخوفون من منافسة او مزاحمة الكفاءات الخارجية او حتى هؤلاء الذين يحملون الضغينة والكره لمن هو في الخارج لاعتقادهم بعدم وطنيته او بعمالته او لفكره السياسي الليبرالي، نجد ان فرص الاستفادة من كفاءات الخارج هائلة ولا تتطلب تخصيص مبالغ مالية كبيرة اذا ما اعتمدنا مبدأ "تحفيز الكفاءات على استثمار طاقاتها داخل العراق" وذلك بالاستناد الى خيار بقاء هذه العقول في الخارج كبديل عن خيار العودة لاعتقادنا بأن هذا الاسلوب هو الوحيد القادر فعليا على الاستفادة من العقول المهاجرة لانه حل منطقي وعملي وهو حل ملائم لاصحاب الكفاءات المهاجرة التي تريد خدمة وطنها مع بقاءها في الخارج، ولقد سبق وان كتبنا حول هذا الموضوع ويمكن للقارئ مراجعة محاضرتنا المدرجة واصلها الالكتروني في اسفل هذه المقالة (3)، كما يمكن مراجعة كتاب "العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار" للبرفسور نادر عبد الغفور احمد (4) والذي يقدم دراسة تحليلية لهجرة العقول العراقية وكيفية استثمارها لخدمة الوطن.
وخلاصة ما يستهدفه خيار الاستثمار في مجال التعليم العالي هو بقاء العقول في الخارج مع اشراكهم في التدريس والاشراف على الدراسات العليا عن طريق الزيارات والتواجد لفترات قصيرة داخل الوطن او "التعليم عن بعد" وطرق ايصال المعرفة الاخرى. وهنا لابد من ذكر ان وزارة التعليم العالي العراقية قامت بدعوة عدد محدود من العلماء العراقيين للمشاركة في مؤتمرات علمية ولتقديم بعض المحاضرات. ومن المؤسف عدم وجود خطة عملية لتنظيم الزيارات بحيث تضمن استمراريتها وازديادها وبحيث لا تخضع الى المزاجية والموسمية. اما وزارة التعليم العالي لاقليم كردستان فقد بدأت بالفعل في العمل ببرنامج للاشراف المشترك على الدراسات العليا في الجامعات التي تقع في اقليم كردستان حيث يتوجب على طالب الدكتوراه قضاء فترة لا تقل عن سنة في الجامعة الاجنبية وبالتحديد في مختبر الاستاذ المشارك في الاشراف حيث يتم اجراء بعض جوانب البحث التي يستوجبها المشروع الدراسي المشترك. ولقد قامت الوزارة بوضع التعليمات اللازمة لانجاح هذا الاسلوب ولتطوير الدراسات العليا وكذلك تطوير التعاون العلمي مع المؤسسات البحثية العالمية.
وما نصبو اليه هو ان يتم العمل على تعزيز الجوانب التنظيمية والادارية للزيارات العلمية على مستوى الوزارات والجامعات لتحسين النشاط التدريبي والاستشاري والبحثي وتعزيز فاعليته وبحيث يصبح دعوة العلماء عملا مستمرا لكل وزارة ولكل جامعة. لذلك يتوجب العمل وبسرعة لكي لا يستمر النزف هو ان تقوم الدولة والوزارات المختلفة بوضع الاجراءات الضرورية وخلق الاليات العملية وتخصيص الاموال اللازمة لزيادة ميزانيات البحث والتطوير وبوضع التعليمات التي تؤدي الى تشجيع وتسهيل الدعوات لعلماء وكفاءات الخارج بزيارة الوطن والمشاركة في بناءه. كما يتطلب اخذ الاجراءات التي من شأنها ان تشجع كل كفاءة خارجية بالاتصال بجامعة او بمعهد تدريب او تطوير او بوزارة لاعلامها بوجوده وبرغبته لتقديم خبرته حتى ولو كانت على صورة محاضرة قصيرة او اجتماع قصير. ولو كنت في موقع المسؤولية لوضعت مراقبا في كل مطار من مطارات العراق لكي يقوم بتقديم الدعوة لكل زائر من العراقيين ممن له كفاءة او خبرة لزيارة المؤسسة التي تتمكن من الاستفادة من خبرته. ان جامعات ومؤسسات البحث والتطوير العالمية تتطلع وتتوق الى زيارات العلماء من خارجها وتخصص التمويل اللازم لاستضافتهم والاستفادة من خبرتهم كما تقوم الشركات العالمية بالاستفادة من خبرة العلماء عن طريق الاستشارة وتكلفها مثل هذه الفعاليات أموالاً طائلة لان العلماء لا يمنحون جهودهم مجانا للشركات الصناعية مثلما يمنحون هذه الجهود للجامعات الاخرى. فاذا كانت جامعاتنا العراقية ومؤسسات البحث والتطوير في وزارة العلوم والتكنولوجيا وفي الوزارات الاخرى راغبة حقا في الاستفادة من العقول المهاجرة فستجد المئات من العلماء العراقيين مستعدين لتلبية الدعوة وتقديم الخبرة، مستجيبين بذلك إلى الرغبة بتعويض وطنهم الاصلي جزئيا من الضرر الواقع نتيجة هجرة تلك الأدمغة.
__________________________________________________
1- عبد الحسن الحسيني (2008) التنمية البشرية وبناء مجتمع المعرفة. الدار العربية للعلوم ناشرون.
http://www.iraqgreen.net/modules.php?name=News&file=article&sid=142102-
http://www.parliament.iq/iete/1-2%20.doc.ppt3-
4- نادر عبد الغفور احمد (2003) العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار. مؤسسة الرافد.