Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

هل يتقاعد الرئيس ؟

العراق بلد الريادة التاريخية بحق، قدم عبر تاريخه الحضاري الطويل المُشرق أثمن الهدايا للبشرية وضرب أروع الأمثلة على قدرات الإنسان في مجال الخلق والابتكار والإبداع.
وعلى ذات النهج التاريخي الأصيل، يقدم العراق اليوم للشعوب من جيرانه هدية جديدة، هي الديمقراطية وانتخاب الرئيس وحرية الرأي والتعبير والمعتقد... إلى أخره من مستلزمات الحياة الحرة الكريمة.
إلا ان هذه الهدية، وبسبب غسيل الدماغ التي تتعرض له الشعوب العربية بشكل يومي من قبل آلة دعائية رسمية ضخمة ، قد رفضت.
ومن المعلوم إن الإعلام الرسمي الموجه يخلق وعياً جمعياً هو وعي القطيع، والفرد باعتباره جزءاً من ذلك الوعي لا يفكر ولا يتأمل ولا يبدع وهو مُسير لا مخير حتى لو قادته مسيرته العمياء تلك إلى لقاء مصيره المحتوم.
والجماهير التي تصفق للاعتقالات غير القانونية ولمظاهر الإعدام العلني او السري والخطابات الحماسية الفارغة وتقرع طبول الحرب وهي تقود ابنائها إلى معارك غير متكافئة ومحسومة سلفاً إنما هي تقف على ذات الطابور ولا يعدو ان تكون المسألة مسألة وقت حتى يأتيها دور الى الموت المجاني.
والشارع السياسي العربي خير نموذج لهذه الصورة،فهو لا يقدر قيمة الانجازات الواقعية القيمة على ارض الواقع ، ولا يفرق بين الهزيمة والنصر، إلا بقدر ما توحيه إليه الخطابات الحماسية الرنانة وهو ما برح يستمع إلى نفس الأغاني القديمة التي تقرع طبول الحرب وزغاريد النصر بعد كل هزيمة وان خلفت ورائها الآلاف من الضحايا الأبرياء.
ومن المؤكد ان قادة لا يمكن لهم ان يعترفوا بالهزيمة بروح رياضية لا يمكن لهم ان ينتصروا ابداً في يوم ما، لان الغش والخديعة يفسدان كل شيء حتى ضمير الجماهير وحسها الوطني.
لقد أدرك العراقيون ، وهم شعب من الأحرار الأبطال ، هذه الحقيقة قبل غيرهم، فرفضوا ان يكونوا وقوداً لحرب خاسرة مرة أخرى ، ولكنهم صمموا على انقاذ وطنهم عن طريق الحكمة والوعي والالتفاف حول حكومة وطنية منتخبة ستقودهم في النهاية إلى رحاب الأمن والحرية والاستقلال.
لقد ابرز الأعلام العربي الرسمي، ذو التجربة في تحويل الهزائم المرة الى انتصارات وتحويل الانتصارات الباهرة الى هزائم ، وباتفاق عربي رسمي نادر، صورة واحدة للعراق الجديد ، هي صورة الاحتلال وما نتج عنه ما أسموه بالصراع الطائفي، وأخفى ذلك الأعلام كل الصور الأخرى الجميلة التي رسمها أبناء العراق.
فأحداث تاريخية كبرى مثل كتابة الدستور الدائم والاستفتاء عليه وانتخابات مجلس النواب وانتخابات مجالس المحافظات وتحقيق استقلال القضاء وبناء جيش غير مسيس وحرية الانتماء الحزبي وحرية الصحافة والإعلام لا تعني الإعلام العربي الرسمي ولا يلتفت إليها لأنها تتعارض مع خطط غسيل الدماغ ووعي القطيع المدبر.
ورغم ان أعداء العراق الجديد من ملل ونحل مختلفة ، فبعض الدول التي ساهمت في هذه المؤامرة المدبرة ضد الشعب العراقي تتمتع بعلاقات تاريخية وراسخة مع الولايات المتحدة الأمريكية بينما تسود علاقات الأخرى معها حالة العداء او التشنج او عدم الاستقرار، إلا ان وحدة الهدف قد جمعتهم.
وهكذا امتد شخوص المؤامرة من المغرب العربي الى شرقه والى خليجه، وكان من الصعب إقناع أي عربي واخراجه من حالة اللاوعي او وعي القطيع ، وجعله يتأمل ويفكر ويتخذ قراره ويتبنى موقفه بإرادته الحرة تجاه العراق والعراقيين.
وقبل أيام نقلت بعض وسائل الإعلام خبراً مفاده ان فخامة الرئيس العراقي الأستاذ جلال الطالباني يفكر بالتقاعد نهاية هذا العام ليتفرغ لكتابة مذكراته.
في الحقيقة والواقع فان مجرد طرح هذه الفكرة بحد ذاتها ، فكرة تقاعد الرئيس، هي انجاز تاريخي بحق وهدية يقدمها أبناء العراق للشعوب العربية وان كانت هذه الفكرة تحرج رؤسائهم وتجعلهم أكثر إصراراً على نهج محاولة اسقاط التجربة العراقية.
مما يجعلنا أكثر تمسكاً به ودعوته لتأجيل كتابة مذكراته إلى وقت لاحق. فرجل لا يتمسك بالسلطة خير من يتولى السلطة.
لان الشعوب العربية لا تعرف فكرة تقاعد الرئيس، وإنما هي الآن في محنة الرئاسة بالوراثة، فالرئيس العربي هو في الواقع ملك مبجل وان سمى نفسه رئيساً للجمهورية فالعبرة في التكييف الدستوري لوضع الرئيس هي بالحقيقة الواقعية لا بالوصف الذي يخلعه الرئيس على نفسه.
والحقيقة هي ان الرئيس العربي الذي يرتدي قناع الجمهورية يملك صلاحيات مطلقة غير قابلة للجدل والمناقشة ومراسيمه الرئاسية هي قوانين نافذة ، وخصومه اما معلقين على المشانق او مغيبين في سجون سرية، وله امتيازات شخصية غير اعتيادية وتحميه وعائلته وحاشيته أجهزة بوليسية ضخمة لم يتسنى حتى لملوك القرون الوسطى ان يمتلكوا مثلها.
ثم انه لا يتقاعد الا اذا كان بصدد نقل الرئاسة لنجله.
والمعلوم تاريخياً ان الثورات الجماهيرية الكبرى في التاريخ التي نشأت على أثرها الجمهوريات ، أي حكم الجماهير ، إنما نشأت لمواجهة سلطات الملوك المطلقة وتحكمهم برقاب الشعوب بالوراثة، وهكذا نشأت الجمهوريات الحديثة التي يتولى الرئاسة فيها شخص من عامة الشعب عن طريق الانتخابات ولا يتمتع الا بمزايا مؤقتة تفرضها طبيعة صفته التمثيلية للشعب.
الا ان التطبيق العربي لهذه الفكرة العظيمة ، كان تطبيقاً مشوهاً ليس له علاقة بالاصل الذي نشأت منه الفكرة ، بل انه مجرد مسرحية بائسة لخداع الجماهير بأنهم يمتلكون جمهورية بينما هي ملكية وراثية مطلقة في حقيقتها ومعناها.
وبديهي ان ملكية حقيقية دستورية هي أفضل من ملكية مطلقة مستترة بلباس الجمهورية.
والمفارقة في الأمر ان رئيسنا لم يأت الى سدة الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية او أنها انتقلت اليه بالوراثة ، إنما هو رئيس دستوري شرعي منتخب نال استحقاقه الشعبي قبل ان ينال استحقاقه الرسمي بعد كفاح طويل مرير ضد الأنظمة الدكتاتورية امتد لسنوات طويلة، ومع ذلك فان مشروعيته الفريدة بين نظرائه من الرؤساء العرب لا تمنعه من التفكير بالتقاعد.(1)
وعلى هذا النحو فان الأزمة بين العراق وجيرانه هي أزمة سببها رئيس يُمكن ان يتقاعد ورئيس لا يمكن ان يتقاعد الا اذا كان بصدد نقل الرئاسة بالوراثة.
***********
بغداد في 15 /آذار/2009
1ـ انظر مقالتنا ( حكمة الرئيس وقيم العراق الجديد) في كانون الاول 2007.
فارس حامد عبد الكريم العجرش الزبيدي
ماجستير في القانون
نائب رئيس هيئة النزاهة سابقاً
باحث في فلسفة القانون
والثقافة القانونية العامة
بغداد ـ العراق
البريد:
farisalajrish@yahoo.com
موقعنا: الثقافة القانونية للجميع
http://farisalajrish.maktoobblog.com
Opinions