Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

هل يمكن بناء الديمقراطية في العراق ؟

حين احتل الإنكليز كل العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى, كان العراق غارقاً في بحر من الظلمات العثمانية. فكانت العلل الثلاث, الجهل والفقر والمرض, سيدة الموقف في كل أرجاء العراق, وكانت هذه العلل ناشئة عن قاعدة اقتصادية متخلفة وعلاقات إنتاجية شبه إقطاعية استغلالية, حيث كانت هناك طبقتان أساسيتان تشكلان بنية المجتمع, وهما طبقة الفلاحين الفقراء, وتشكل غالبية المجتمع, وطبقة الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية, وتشكل الأقلية, وكانت بجوارهما فئات اجتماعية كادحة مثل البرجوازية الصغيرة المدينية وجمهرة صغيرة من مثقفي ذلك الزمان من خريجي المدرسة الفكرية والسياسية العثمانية. كما كانت هناك مؤسستان تهيمنان على الاقتصاد والمجتمع وعلى الوعي الاجتماعي للإنسان, وهما: المؤسسة العشائرية التي تخلت عن العلاقات الأبوية لصالح التملك الخاص للأرض الزراعية من قبل شيوخ العشائر, بعد أن كانت الأرض تستثمر من قبل أفراد العشيرة. وأصبح شيخ العشيرة هو المستثمر للأرض والمستغل لأفراد العشيرة من الفلاحين. وأصبح الفلاحون أداة لاغتناء الإقطاعيين وكبار الملاكين وعيشهم المرفه, أما المؤسسة الدينية فكانت مصالحها متشابكة مع مصالح الإقطاعيين وكبار الملاكين في الريف, وكانت قادرة على التأثير بالناس عبر الدين. وفي إطار هذا الواقع وفي ظل حكم عثماني أوتوقراطي كان العراق لا يعرف من المدنية الحديثة ومن حضارة المجتمع المدني الغربي شيئاً يذكر. ولم يسمع المجتمع بمصطلح الديمقراطية قبل ذاك, في ما عدا بعض الأفراد الذين تسنى لهم قراءة بعض المجلات أو الكتب أو الذين تسنى لهم السفر إلى الغرب والإطلاع على حياة مجتمعاتهم.

لهذا كان دخول البريطانيين إلى العراق واحتلاله بداية الاحتكاك مع الغرب والحضارة الغربية ومع الاستعمار الحديث ومع مصطلح الديمقراطية في آن, وبعد أن أصبح فيصل بن الحسين ملكاً على العراق في أعقاب ثورة العشرين.

حينذاك طرح البريطانيون مسودة الدستور العراقي الذي أقر في العام 1925 بعد أن نوقش وعدل في بعض جوانبه من جمهرة صغيرة من العراقيين الذكور, إذ لم يكن للمرأة في حينها مكان في المجتمع الذكوري غير البيت والحقل, وكانت مضطهدة بكل معنى الكلمة ومن كافة الجهات.

كانت المسودة وما جرى عليها من تعديلات ذات مضمون ديمقراطي لا ينسجم مع واقع المجتمع وعموم الحال في العراق, إذ لم تكن في العراق قاعدة اقتصادية واجتماعية لبناء مجتمع مدني ديمقراطي, كما لم يكن في العراق ديمقراطيون, إذ أن الديمقراطيين لا يخلقون من فراغ. فكان الدستور وحده هو الديمقراطي الوحيد في البلاد. وبسبب غياب مستلزمات وجود مجتمع مدني ديمقراطي, سار العمل في تطبيق الدستور منحاً غير ديمقراطي, منحاً شوه في الممارسة بنود الدستور وزيف وعي الناس. إذ كان هدف الانكليز الحفاظ على القاعدة الاقتصادية دون تغيير وعلى الاستغلال الإقطاعي في البلاد بجوار استغلالهم الرأسمالي. ثم نشأت, بالرغم من المستعمرين, وبسبب حاجتهم إلى استثمار ثروات البلاد واستغلال شعبها, مشاريع اقتصادية وموانئ وطرق حديثة ورؤوس أموال تتدفق في قطاع النفط الخام. ثم نشأت تدريجاً بعض الأحزاب السياسية وقلة من منظمات المجتمع المدني على غرار ما هو موجود في بريطانيا دون أن تكون لها مضامين ديمقراطية مكرسة ومستندة إلى قاعدة متينة وثابتة في أرض الواقع العراقي. وكان الديمقراطيون عملة نادرة والغالبية تستخدم الكلمة دون أن تدرك عمق مضمونها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وأبعادها الحضارية.

فكان الدستور ديمقراطياً والحكم غير ديمقراطي والممارسة بشكل عام غير ديمقراطية. وحين نشأ الصراع بين الحكم والمعارضة, التي حاولت أن تكون ديمقراطية, لم تكن تحكمه الديمقراطية بل القوة ومن يفرض نفسه بالسلاح من جانب الحكم, أو من يمتلك القدرة في السيطرة على الشارع (الأحزاب). وكان الكسب مرة لهذا ومرة لذاك ويبقى الوضع على حاله دون تغيير ولفترة طويلة.

هذه الحالة, مع الاختلاف في الزمان والأحزاب والشخوص, بدأت تتكرر في العراق منذ ربيع العام 2003. شنت حرب خارجية وفرض الاحتلال الأمريكي على العراق, رغم الحديث عن التحرير, كما في المرة الأولى ولكن من قبل البريطانيين حينذاك, بعد إسقاط دكتاتورية مريعة بلغ عمرها 35 سنة, ولكنها في الواقع يبلغ عمر الاستبداد والقسوة والقمع في العراق قروناً كثيرة.

مجتمع تسوده العشائرية ثانية ويتعاظم تأثير المؤسسة الدينية والمذهبية على وعي الناس. لقد تمكن صدام حسين من خلق وعي مجتمعي مشوه ومزيف وإرادة مفككة’ لم ينته بسقوطه بل تفاقم من أوجه معينة.

لا توجد أرضية ولا قاعدة صلبة لمجتمع مدني ديمقراطي, كما لا توجد أحزاب ديمقراطية بالمعنى السليم للديمقراطية, فالأحزاب, كما هو معروف, تشكل جزءاً من البناء الفوقي الذي يقوم على قاعدة اقتصادية معينة, وهي مكونات تنبثق من صلب المجتمع فهي البناء الفوقي الذي يمكن أن يتميز عليه بقدر ضئيل لا غير. الأحزاب لا تتعامل مع الديمقراطية حتى باعتبارها أداة, دعْ عنك أن تكون فلسفة ومبادئ وقناعات.

هذه الحقيقة المرة يلمسها المواطن والمواطنة اليوم بشكل صارخ. فليست الأحزاب وحدها لا تمتلك وضوحاً ولا تمارس الديمقراطية, بل وكذلك الكثير من الناس عموماً, إضافة إلى المصاعب التي يواجهها القضاء بسبب ما يواجهه من ضغوط وتأثير بعض الأحزاب السياسية, وكذلك المؤسسات "الدستورية" المنبثة من هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

هل نحن ديمقراطيون؟ ليس سهلاً على الإنسان العراقي, وخاصة السياسي, الإجابة عن هذا السؤال بـ "نعم", بل الإجابة أقرب ما تكون إلى "لا". وليست هذه إساءة لأحد, بل هو استنتاج يستند إلى واقع الحال وما يجري في العراق من مسرحية عمرها سنوات سبع, ولكن وبشكل خاص منذ أن بدأت الحملة الانتخابية الأخيرة. إنها تجربة تؤكد غياب الديمقراطية الفعلية عن أرض وسماء وغالبية سياسيي العراق. خذوا علاقاتنا الحزبية, سواء أكانت في داخل كل حزب أم في ما بين الأحزاب السياسية؛ خذوا اللغة التي نتصارع بها سياسياً والاتهامات بالعمالة التي لا تنفك تلصق بالناس جزافاً؛ خذوا الموقف من المال العام وما يجري الحديث عنه علناً من فساد ونهب للمال العام؛ خذوا الموقف من المرأة وحقوقها عائلياً ومجتمعياً وعلى المستوى الرسمي؛ خذوا الموقف من حقوق الإنسان المهدورة والمهضومة, ومنها حقوق المعتقلين والسياسيين والمحتجزين وما يجري من تعذيب فيها, إذ ستجدون العجب العجاب؛ خذوا الموقف من النقد الذي يوجه لهذه الشخصية السياسية أو تلك أو لهذا الحزب أو ذاك, إذ يعتبرون النقد سبة وإساءة للشخص أو للحزب, وبالتالي على المنتقد أن يتلقى الحجارة. وإذا كان بيت المنتقد من زجاج, فسيدفن تحت أكوام الحجارة! وإن لم يكن كذلك فستبقى محاولات التشويش والتشويه مستمرة لأخذ الثأر من المنتقد! يمكن أن يورد الإنسان مئات الأمثلة عن غياب الديمقراطية في طريقة تفكيرنا وتعاملنا اليومي. وهي ليست مشكلة فردية, بل هي مشكلة جمعية, وهي ليست تهمة إزاء أحد, بل هي من واقع المجتمع وعلاقاته ومستوى تطوره. خذوا الموقف من النقد الذي يوجه لهذه الشخصية السياسية أو تلك أو لهذا الحزب أو ذاك, إذ يعتبرون النقد سبة وإساءة للشخص أو للحزب, وبالتالي على المنتقد أن يتلقى الحجارة. وإذا كان بيت المنتقد من زجاج, فسيدفن تحت أكوام الحجارة! وإن لم يكن كذلك فستبقى محاولات التشويش والتشويه مستمرة لأخذ الثأر من المنتقد! خذوا أخيراً هذا المقال الذي لم يجد طريقه للنشر في بغداد بسبب صراحته وشفافيته مع المجتمع العراقي والمسؤولين في العراق!

نحن بحاجة إلى خلوات مع النفس والحديث معها بصراحة وشفافية عالية لكي نتبين مدى عمق سلوكنا الاستبدادي ومدى قسوتنا في التعامل في ما بيننا ومع الآخر. نحن بحاجة إلى معرفة المشكلات التي تعاني منها شخصيتنا التي هي من تنشئة هذا المجتمع ومن سلوك وتصرفات الحكومات العراقية المتعاقبة على مدى الحكم الوطني. ولكن هذا يعود إلى ماض سحيق سار بنا ومعنا منذ مئات السنين.

هذه ليست من بنية جينات العراقيات والعراقيين, بل هي من تربية المجتمعات والحكام الذين هيمنوا على بلادنا وحكموا شعبنا على مدى مئات بل آلاف السنين. ويكفي أن نقرأ ملحمة گلگامش لنجد كيف هذا الشاعر العبقري قد بين لنا طبيعة الحاكم المستبد مثلاً وعلاقته بالنساء, إذ لم يترك امرأة واحدة إلا ودخل فيها, أو لنقرأ ما سجل من شريعة على مسلة حمورابي. فمن 282 مادة, توجد هناك (52 مادة) تعاقب على مرتكبي الجرائم بالموت وبطرق مختلفة, وهي مساوية لعدد صيغ أحكام القتل عند الطاغية صدام حسين.

سنبقى ندور في حلقة مفرغة نفتش عن الديمقراطية ولا نجدها وسنطالب بالديمقراطية وصوتنا يضيع في سوق الصفافير, بل سنجد ما يسمى بفوضى الحرية التي تعني بالضبط غياب الديمقراطية وتعني ما يجري اليوم في العراق.

علينا أن نبدأ بتغيير واقعنا الاقتصاد والاجتماعي, لنخلق الأساس المادي للديمقراطية, علينا تغيير مناهج التعليم في جميع مراحله في بلادنا, علينا تغيير أحزابنا وتغيير وجهة تفكيرنا وعقلانية الموقف من حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والحلول السلمية لمشكلاتنا المتنوعة. ما لم نكف عن التفكير بممارسة العنف باعتباره خير وسيلة لانتزاع أو فرض الحق,

السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب

ستطول الفترة حتى نستطيع بناء الديمقراطية, وستكون أطول بكثير حين لا نفكر بتغيير بنية اقتصادنا وبنية مجتمعنا, وسنبقى مجتمعاً ريعياً, استيرادياً واستهلاكياً لا غير, وبالتالي لن تتغير بنية تفكيرنا ووجهة عملنا.

أتمنى أن يختلي كل منا إلى نفسه, أن يختلي كل سياسي عراقي بشكل خاص, مع نفسه ليحاورها, ومن ثم لنتحدث ويتحدث كل فرد بصوت مرتفع بحيث يسمعه الآخرون ويساعدوا في الإمساك بما يقود إلى التغيير. إحداث ثورة في بلد ما, أسهل بكثير من تغيير ما في النفس. فهل نحن قادرون؟ إنه التحدي الكبير..

كاظم حبيب



Opinions