Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

آمال متجددة لوحدة أبناء بيث نهرين مؤشرات واستقراءات

المسار الوحدوي لأبناء بين نهرين، من أبناء كنيسة المشرق، يمكن تناوله من خلال محور كنسي، وهو موضوع هذا المقال. هذه محاولة استكشاف لمؤشرات ومستجدات في المسار الوحدوي، بما أمكن من موضوعية لعرض الوقائع، مع السعي لاستقراء ما هو لاحق في هذا المسار. ويتخذ هذا المسار صفة كونه مصيري، لأنه بكل بساطة، مسألة حياة أو تبعثر وتشرذم. ويعود هنا التركيز على دور الكنيسة في هذا المجال، الى ضرورة تاريخية، في معالجة المسؤولية الواقعة على عاتق السلطات "الدينية"، تلك المسؤولية الحاصلة في تمزق النسيج القومي لأبناء شعب واحد، بسبب الانقاسامات المذهبية.
الكنيسة... الكنائس، وابناؤها
نلجأ في هذا المقال، الى الحديث عن المشترك بين أبناء كنيسة المشرق وسائر امتداداتها في الكنائس الاخرى، بكل ما يجمعهم من لغة وتراث وتاريخ وديانة مسيحية. ولأغراض التوضيح في التحليل، نستخدم المفردات المتداولة المتعارف عليها، وذلك من حيث الجانب العملي في التشخيص. الهدف من هذا الاستخدام، هو تحديد مختلف الانتماءات الحالية، لهؤلاء الأبناء، من جهات دينية- مذهبية أوثقافية عمومًا، أي حيثما يتوزع اليوم أبناء ما عرف بكنيسة المشرق، منذ حقبة ما قبل القرن السادس عشر، وما بعدها لحد الان. فنذكر هذه المسميات كالآتي: أبناء كنيسة المشرق الاشورية، أبناء الكنيسة الشرقية القديمة، أبناء كنيسة المشرق الكاثوليكية الكلدانية، أبناء الجماعات الكنسية المنحدرة من حركة الاصلاح اللوثري البروتستانية، بمختلف مسمياتها، من التي تضم اعدادًا من المنحدرين من مختلف الكنائس، كما نشير الى احتمال وجود أبناء آخرين ضمن جماعات أخرى غير المذكورة اعلاه على مختلف الثقافات والميول السياسية، مستقلة بشكل مبدئي عن إعلان الانتماء الديني، أو في الأقل غير حاملة قناعة المواضبة الايمانية. هؤلاء هم الأحوج إلى وحدة إخوتهم المؤمنين، حتى يلمسوا بأنهم حقا مؤمنين، فيتأثروا بإيمانهم من خلال وحدتهم، وإلا يجرونهم الى المسار الوحدوي المستقل عن الديانة.

فرص ظهور الشخصية القيادية الموهوبة على المستوى العلماني
هذا المسار، المرتبط بقيم المجتمع المدني، باستقلالية عن مذهب محدد، غالبا ما أثبت فشله في ظروفنا، بسبب تشابك الخصوصية القومية والدينية عند شعب السورث، حتى وصل الحال بالكثيرين، الى ربط سورايا كمرادف لمسيحي. سيما وان الساحة السياسية المختنقة في مواقع الحكم المركزي في العراق، قلما ولدت قائدا استقطب اهتمام مختلف التيارات، ليس لافتقاد الصفات القيادية في الزعماء السياسيين، بل لافتقاد النفوذ والامكانات المادية، وخصوصا بسبب العقبات التي وضعها أمامهم رجال الدين في كنائس المشرق لمآرب ومطامع وطموحات وأسباب متباينة بين المبدئية والفردانية.
وقد يستثنى من هذا التوجه، في ظل الاستقرار التي تشهده منطقة اقليم كردستان، وبروز ما يوحي بظهور زعامة على مستوى شعب السورث، استقطبت أبناء كنائس المشرق، في الإقليم وفي سهل نينوى. بقدر ما تم تجاوز النفوذ والتأثير المعاكس لبعض رجال الدين، مع الحصول على الخط الاخضر من قيادة الاقليم، أكان الأمر مرحليا، أو لمستوى بعيد الأمد، وبواقعية متوازنة تستوعب التعددية؛ إضافة الى توفر الدعم الاعلامي والاقتصادي المنفتح، نحو كل التوجهات المذهبية، دون الارتباط بواحدة على حساب الاخرى.
مستجدات في المعادلات التي شهدها تاريخ كنيسة المشرق
نقصد هنا بالمعادلات.. ما يأتي كنتيجة أو رد فعل لحالة أدت إلى تبدلها نحو حالة أخرى. من تلك المعادلات، في حياة كنيسة المشرق، ما أدى إلى انقطاع علاقتها عن الشركة مع الكنيسة الجامعة، للأسباب العقائدية واللاهوتية، المتأثرة بصعوبة الاتصال والاستخدامات المتباينة للتعابير؛ كل هذا حدث تحت ظروف تاريخية وجيو- سياسية. وكانت (كنيسة المشرق) قبل الانفصال، ضمن الكنائس الرسولية، التي احتفظت بخصوصية كياناتها البطريريكية. هذا ما حدث في أعقاب مجمع أفسس سنة 431، مما أسهب في الحديث عنه المتخصصون. تلك "المعادلات" العقائدية والجيو- سياسية، أدت الى انفصال كنيسة المشرق وبقائها كذلك حتى منتصف القرن السادس عشر.
المعادلة الأخرى تعلقت بالوضع الداخلي لكنيسة المشرق (حتى منتصف القرن 16)، مما أدى بقسم منها الى أن يلتحم بالشركة مع روما، فكانت الكنيسة الكلدانية، منشطرة عن كنيسة المشرق التي عرفت بالنسطورية أو الآشورية.
وسرعان ما طرأت مستجدات على معادلة ظهورالكنيسة الكلدانية، في أجيالها الأولى.. ففي منعطف مفاجئ حدث أن التسلسل المنحدر من البطريرك يوحنا سولاقا للكنيسة الكلدانية، إنقطع بعد أجيال وارتبط بمفارقة جديدة هي من المستجدات غير المحسوبة، بكنيسة المشرق الاشورية، في حين صار لحد الان الكلدان الحاليون، منحدرين من السلسلة البطريريكية المواجهة للبطريرك الكاثوليكي الاول من كنيسة المشرق، مار يوحنا سولاقا.. ، حدث هذا منذ عهد البطريرك يوحنا الثامن هرمز (1830-1838)، بحسب جدول تسلسل بطاركة كنيسة المشرق في دراسة مار سرهد جمو: كنيسة المشرق في شطريها.
وقد ظهرت، خلال تلك القرون، بفعل ظروف حكمت عقلية ذلك الزمان، كتلتان متوازيتان في العائلات المذهبية المسيحية، لمختلف البطريركيات (الأقباط، الأرمن، الروم إلخ...) وهما: كتلة المذهب الكاثوليكي، وكتلة المذهب "الأرثوذكسي" على مختلف الخصوصيات في المعتقد المعلن لكل من تلك الكنائس البطريركية الأرثوذكسية، وقد ادخل العلماء في هذا الخط، كنيسة المشرق الآشورية (أقباط كاثوليك أو أرثوذكس، أرمن كاثوليك أو أرثوكس، روم كاثوليك أو روم ارثوذكس، كنيسة الشرق الكاثوليكية أي الكلدانية، وكنيسة الشرق الأرثوذكسية أي النسطورية - الآشورية). من أولئك المؤرخين، جان بيير فولونيه، في كتابه الموسوعي: حياة وموت المسيحيين في الشرق الاوسط.
مساعي متنوعة لصيانة التراث الثقافي الليتورجي
على العموم احتفظت الكنائس التي اعتنقت المذهب الكاثوليكي، باسمها الاصلي، وعند ابناء كنيسة المشرق الكاثوليكية، حملت تسمية (الكلدانية).. ولم تأت هذه التسمية عن فراغ بل هناك من يرى فيها امتدادا في الجذور التاريخية لابناء بين النهرين، آثور وكلدو، ولا بد أنها مرتبطة بتخريجات تاريخية لتأخذ باي نسبة من الموضوعية تبريرها كتسمية، مقارنة بما أطلق عبر التاريخ من تسمية آشورية متجذرة هي ايضا في تاريخ بين النهرين.
وبفعل الطبيعة الانجيلية الكاثوليكية، سرعان ما ينفتح التوجه في الجانب الكاثوليكي، الى المزيد من الشمولية، بنسب متباينة التباعد مع الخصوصية القومية. كما يمارس الجانب الكاثوليكي في تلك الكنائس الدور المنفتح على الثقافات الاخرى، مع انفتاح بشرىالانجيل اليها.وهكذا بالامكان ان ينتمي الى كنيسة الارمن الكاثوليك من ليس ارمنيا، لكن الارمن الارثوذكس قلما يستجد لديهم مثل هذا الواقع، وان استجد، فيكون باعطاء الجهة الكتلوية التي تعتنق المسيحية، خصوصيتها على المستوى القومي والثقافي، لحد مساعدتها على انشاء كنيستها المستقلة، كما كان الحال في اعتناق جورجيا المسيحية على يد الكنيسة الارمنية.
وقد سعت الكنيسة الكلدانية (كنيسة المشرق الكاثوليكية) عبر التاريخ، جاهدة ومستبسلة، وخصوصا مع عهد البطريرك مار يوسف أودو (1793- 1878 ) سعت، الى جانب انفتاحها على البشرى لكل الشعوب، الى الاحتفاظ بالتراث الثقافي واللغوي والليتورجي المشترك مع سائر ابناء كنيسة المشرق. لكن هذا السعي بقي بنسب متفاوتة وظروف متباينة يقترب او يبتعد عن طريقة الاشقاء الاشوريين في المحافظة على الخصوصية القومية واللغوية والتراثية.
التراكمات على المكتسب الموروث للكتلتين المسيحيتين المذهبيتين
وعند ابناء الكنيسة الكلدانية، لا غرو انه في الأقل منذ القرن السادس عشر، تراكمت مع الاجيال خصوصية ثقافية بما لم يمنع جماعات كثيرة منهم، لا سيما في اطار قوانين بلدان الاغتراب، من أن تعدّها خصوصية قومية بحد ذاتها. ولم يعد يخفى على الكثيرين ان هذا الواقع نشأ كرد فعل لاحتكاكات حدثت مع الأشقاء في الكتلة المذهبية الاخرى (أبناء الكنيسة الآشورية). ونرجع الى مثل الكنيستين الارمنيتين الكاثوليكية والارثوذكسية، التي احتفظ ابناؤها بالتسمية نفسها، لكن التباين الثقافي والتراثي، أخذ يتراكم مع الاجيال من الانفصال. فكيف الحال مع ابناء كنيسة المشرق، الذين اخذوا من كل جانب تسمية ضاربة جذورها في تاريخ بلاد ما بين النهرين. هذا ما أشار إليه المطران سرهد جمو في دراسته المنشورة على الشبكة الالكترونية كنيسة المشرق في شطريها، إذ قال: "وهكذا اذ نحن نستفيق اليوم، بعد اكثر من قرن ونصف، نرى أن النهر الواحد أصبح جدولين، وأن نتائج الانشطار في الرئاسة ونتائج القطيعة بين المجموعتين أدت آخر الامر الى تنوع في الحياة الطقسية والثقافية والاجتماعية." ولكن لحسن الحظ لم يزل يجمع كلا الجانبين باستثناء الاصوليين منهما، اتفاق ضمني على القبول بكونهم جميعا يشكلون شعب السورايي على مذاهب مختلفة.
مستجدات في المسار المعاصر..
- من مستجدات المسار المعاصر لكنيسة المشرق الاشورية، ظهر بفعل أوضاعها الداخلية وظروف مرحلية، كرسي بطريركي آخر باسم الكنيسة الشرقية القديمة (التقويم العتيق).. تبوأه منذ الستينات مار آدي الثاني أزاء الكرسي الذي يتبوآه مار دنخا الرابع.
- تم في خطوة تاريخية كبيرة، في نهاية عام 1994، اللقاء الوحدوي بين البابا مار يوحنا بولس الثاني رأس الكنيسة الكاثوليكة والبطريرك مار دنخا الرابع رأس كنيسة المشرق الآشورية .. كما التقى البابا مار يوحنا بولس الثاني، في مناسبة أخرى، ما أدي الثاني، بطريرك الكنيسة الشرقية القديمة. ومن جانبه، لم يفوّت البطريرك (الكلداني) الراحل مار روفائيل الاول بيداويد، أي فرصة مواتية، ليأخذ زمام المبادرة بالخطوات الوحدوية مع شقيقيه البطريركين مار دنخا الرابع وما أدي الثاني.
مواقف سلبية مؤثرة
- ولكن برغم الخطوات الوحدوية المذكورة، فقد تحركت في بحر التسعينيات مستجدات من عدة جوانب مؤثرة من قبل مختلف الكنائس. لا بد من القول، ان تلك التحركات كانت باتجاه التشبث بالجانب الكتلوي لكل جهة والتشبث بالمكتسبات الشخصية، مما عطل بل أوقف المسار المصيري الوحدوي. فضمن هذه المستجدات، قامت تلك التكتلات المتعصبة من مختلف الانتماءات المذهبية، فتحكمت بطريقة أو أخرى، لجر كل سلطة كنسية، الى الخضوع الحصري للخصوصيةالقومية، وكل كتلة تحركت باتجاه معاكس للكتلة الاخرى. وكل منها يتوخى وضع الخصوصية القومية بنسب متفاوتة، على مستوى اعلى من مستوى المسار المسكوني الوحدوي الانجيلي. مما أضحى تهديدا جديا على مصير المسار الوحدوي.
في هذا التوقف الواضح الذي حصل في أواخر القرن العشرين، على مسار الوحدة المسكونية لأبناء كنيسة المشرق، عاد بهم الحال إلى واقع ما قبل كل تلك الخطوات الوحدوية المذكورة...
في هذه الحقبة، زاد في توقف المسار الوحدوي، سقوط النظام العراقي السابق، وانفلات زمام الامور في التحركات السياسية على شكل جماعات صغيرة متناحرة متقاسمة. وما عقب لك من مداخلات سياسية زادت الفوضى، وجلبت المزيد من الضبابية.. ولم يظهر في البلاد، بشكل ملفت للنظر، شخص يحمل كاريسما الوحدة بما يستقطب الالتفاف الكاسح، بالرغم من زوال الخوف من النظام السابق بشأن اي تحرك وحدوي. قد يرجع ذلك إلى نوع البحث عن الإحساس بالأمان، وعدم خسارة مكتسبات فردية أو مطامح مستقبلية، والتعويل، كل من جانبه، على تقرب الاخرين من الطرف الآخر. كما يرجع الأمر الى غياب المبدئية في التحركات الكتلوية القومية، والبحث عن المصالح الضيقة، وممارسة مؤثرات خطيرة لتعميق هذا الجمود. فكيف الحال إذا تعالت مطالبات من قبل غير الكاثوليك، لأن يتركوا أشقاءهم الشركة مع روما، بحجة تسهيل التقارب الوحدوي الأخوي ما بين الاشقاء!!!

كاريسما - مواهبية الوحدة في تاريخ كنيسة المشرق
ولا بد من الاعتراف، أن الشخصية ذات موهبة الكاريسما نحو الوحدة، بقيت عبر التاريخ بحاجة الى التفاف جماهيري، لو كان قد حدث ، لما كـُنـّا في الحال الذي نحن عليه. وهذه الحاجة تبقى قائمة على كلى المستويين، الكاثوليكي أو الأرثوذكسي. ولا بد من القول أيضا، أنه حتى الجماعات الكنسية البروتستانتية، تعيش هاجس الوحدة المسكونية، كجدلية مطلوبة في الهوية المسيحية. وإن المسيحية (بقدر ما يناسبها هذا الاسم) إذا تحولت الى عنصر بموقع ادنى في خدمة التكتل القومي، دون بشرى الانجيل، تبقى تواجه أحد أخطر التحديات التي بقيت تتكرر عبر التاريخ، منذ عهد الملك قسطنطين، ولحد الان. وهذا الخطر بخضوع الكنيسة للتوجه القومي، على حساب التوجه الراعوي الانجيلي (نسبة الى الانجيل وليس الى الكنائس الانجيلية...)، يشكل تهديدًا جذريا للهوية المسيحية الرسولية الجامعة الكاثوليكية.

مواقف انجيلية مبدئية
نستطيع أن نستخلص مبدئية واضحة تستند إليها كتابات أعلام وحدويين في الكنيسة الكلدانية، من أمثال المطران أدي شير، والاب يوسف حبي، على سبيل المثال لا الحصر، واذا اقتصرنا على الاستشهاد بالراحلين. ولا تخلو الساحة، من أمثالهم، في عموم كنيسة المشرق، بمختلف مذاهبها. كما نستطيع أن نستخلص المبدئية في رعاة الكنيسة الكلدانية.. حيث تم وصفها، في أكثر من موقع ومناسبة ومنبر إعلامي، بكونها كنيسة المشرق الكاثوليكية.. هذا الموقف يمكن أن يفهم منه، ومن خلال مختلف التصريحات مهما كانت متباينة، أن رعاية كنيسة المشرق الكاثوليكية – الكلدانية، ترى من موقع المسؤولية، الجانب الجوهري، في طبيعة الشركة الكاثوليكية الجامعة.. بمستوى يسمو على المعلن من الخصوصيات القومية، من السورايي؛ سواء الذين يعلنون أنهم كلدان، وهم من غالبية أبناء هذه الكنيسة، وغالبية المسيحيين في بلاد بين النهرين، وجماعات الاغتراب؛ أو فيهم من الآشوريين، مع تأكيد وجودهم في الكنيسة الكلدانية، بنسبة كبيرة أيضا، الى جانب وجود المنتمين الى القوميات الاخرى، بما هو ضمن الطبيعة الشاملة لأي كنيسة كاثوليكية لنشر شهادة لبشرى المسيح في العالم كله.

مخاطر في المسار المصيري للوحدة
من كل ما سبق يتبين ما يكتنف مسار الوحدة المسيحية المسكونية من مخاطر عند طغيان تأثير الكتل القومية. هذه العناصر التي تسعى إلى أن تطغي الصفة القومية على رسالة الكنيسة الجامعة، تجر كل كنيسة إلى أن تعيش في عزلة عن بشرى الانجيل وعن رسالتها المسكونية. وإذا حصل وأن خضعت الكنيسة للتوجه القومي فوق التوجه المسيحي، فعندما تحصل الحقوق القومية لأبنائها، عندئذ سيبدأ التململ بين دور السلطة الكنسية ودور السلطة المدنية في الجانب القومي، ومن ثم تحاشي تدخل الكنيسة في السياسة. مثل هذا التململ الذي حصل بعد إعلان دولة أرمينيا. ناهيك أن السلطة الكنسية سوف تتقاذفها التأثيرات السياسية القومية بين هذه الأمواج وتلك، مما لمسه المطلعون في حياة كنائس "قومية" مختلفة. إلى جانب هذا، فإن تدخل السلطة الكنسية في الشوؤن السياسية والقومية، على حساب الشؤون الدينية سيجرها الى اتخاذ مواقف تتحمل هوامش من الخطأ ومراجعة الذات والتراجع عنها، على ضوء مقولة "السياسة هي فن الممكن".

مصير التكتلات القومية- السياسية تحت الغطاء الديني
الخطر المحدق بالكنائس الخاضعة الى المد التكتلي القومي على حساب الرسالة المسيحية، ليس فقط ابتعادها عن جوهر الرسالة المسيحية، بل سيجعل منها ما سمي بالكنائس المجهرية الموغلة في الصغر، إن لم يحلها الواقع إلى جماعات يغلب عليها طابع البدعة. وهذا ليس فقط على مستوى الكنائس الجاثاليقية (القومية) التي تحجمت في هذا الاتجاه فحسب، بل ستتزاحم على الانقسام بجدلية التجزئة الداخلية التي شهدتها الكنائس الانجيلية، بفعل اختلاف وجهات النظر بين ذوي النفوذ فيها، فيفتح كل منهم كنيسة تحت الاسم الرنان الذي يختاره، وتجيزه القوانين النافذة في البلد الذي يعيش فيه.
أما الجماعات ذات التكتل التعصبي الأعمى، الذي يلغي التفاف الآخرين، ويصر على الخطيئة ضد الروح القدس، والسعي الى التأثير على السلطات الكنسية، نحو مآربها ومطامعها، فإن هذه الجماعات، علاوة على كونها تحوّل كنائسها الى بؤر بدعية مهمشة،وتدعو إلى تأليه القومية وتأليه الرموز القومية قبل التاريخ المسيحي، واعتبار مدن في التاريخ القومي كمدن مقدسة... إنها تصبح كبدع تكتنفها الفضائح الأخلاقية والمالية. وهذه الجماعات بعينها، ستتحول هي أيضا الى ما يشبه النوادي الاجتماعية، أو في أحسن الأحوال الى جمعيات تتحرك تحت غطاء إدعائي من العلمية، تتقاذفها المصالح والانتخابات، والانتخابات المضادة المجيّرة لصالح هذا الغول أو ذاك.
ولكن سيبقى النهر الكبير، هو نهر الحياة الواسع، نهر التعددية والديمقراطية في اطار الوحدة، تصب فيها الامال، ويستقطب المزيد من جمهور المريدين.

آمال معقودة على خطى البطريركين يوحنا سولاقا ويوحنا الثامن هرمز
إزاء ما تناولناه من مخاطر ظهور كنائس مجهرية، منغلقة على الخصوصيات القومية لأتباعها، ومنغلقة على الرسالة المسيحية في الوحدة، تبقى الامال معقودة على الاصوات النبوية المواهبية ذات كاريسما الوحدة. اولئك الذين يتخذون الوحدة، كثمرة للمحبة والسلام، ويحملونها في شغاف القلب، كقضية ورسالة واستجابة لنداء المسيح، في أحلك الظروف، خصوصا عند ابتعاد هذه الرئاسة الكنسية أو تلك، عن المسار الوحدوي، وانشغالها بالشأن القومي على حساب الشأن الروحي والراعوي.
بل إن هذه الاتجاهات التكتلية، هي أكثر من أي وقت آخر، أضعف من جانب الايمان المسيحي، وهي أكثر ضعفا من الجهات التي كانت في عهد القطبين مار يوحنا سولاقا وما يوحنا الثامن هرمز. ودليل هذا الضعف هو ما يستخدم من شراسة وضراوة، ضد الوحدويين المسكونيّين حاملي رسالة الوحدة. وإن الأقطاب المنافسة لها في كنائسها الأصلية، لن تملك مع الزمن الا الاحتجاب والالتغاء، على حساب المزيد من الاستجابة لدى رعاة الاقطاب الوحدوية المتزايدة، من صعيد الالتحام بين الفروع الأصيلة في التجمعات الثقافية والكنسية، إلى صعيد الانفتاح الثقافي الحضاري والوحدة المسكونية الجامعة.
وإن الأصوات النبوية اذا اجتمعت لديها السلطة الراعوية واستقطبت الالتفاف الجماهيري، هي المنقذة للمسار المصيري للوحدة، لتضعه في الخط الصحيح، بقدر ما تكتمل فيها، مع الوقت، المصداقية المرجوة في نبوة غمالائيل في أعمال الرسل، الذي اعطى الفرصة للزمن، بان يتبين المعدن الأصيل من المزيف، المسكون بدعوة الوحدة والمتجه بكفاءته ونزاهته الى صفات القداسة فالغبطة في كنيسة المشرق الموحدة.

الأب نويل فرمان السناطي

المسار الوحدوي لأبناء بين نهرين، من أبناء كنيسة المشرق، يمكن تناوله من خلال محور كنسي، وهو موضوع هذا المقال. هذه محاولة استكشاف لمؤشرات ومستجدات في المسار الوحدوي، بما أمكن من موضوعية لعرض الوقائع، مع السعي لاستقراء ما هو لاحق في هذا المسار. ويتخذ هذا المسار صفة كونه مصيري، لأنه بكل بساطة، مسألة حياة أو تبعثر وتشرذم. ويعود هنا التركيز على دور الكنيسة في هذا المجال، الى ضرورة تاريخية، في معالجة المسؤولية الواقعة على عاتق السلطات "الدينية"، تلك المسؤولية الحاصلة في تمزق النسيج القومي لأبناء شعب واحد، بسبب الانقاسامات المذهبية.
الكنيسة... الكنائس، وابناؤها
نلجأ في هذا المقال، الى الحديث عن المشترك بين أبناء كنيسة المشرق وسائر امتداداتها في الكنائس الاخرى، بكل ما يجمعهم من لغة وتراث وتاريخ وديانة مسيحية. ولأغراض التوضيح في التحليل، نستخدم المفردات المتداولة المتعارف عليها، وذلك من حيث الجانب العملي في التشخيص. الهدف من هذا الاستخدام، هو تحديد مختلف الانتماءات الحالية، لهؤلاء الأبناء، من جهات دينية- مذهبية أوثقافية عمومًا، أي حيثما يتوزع اليوم أبناء ما عرف بكنيسة المشرق، منذ حقبة ما قبل القرن السادس عشر، وما بعدها لحد الان. فنذكر هذه المسميات كالآتي: أبناء كنيسة المشرق الاشورية، أبناء الكنيسة الشرقية القديمة، أبناء كنيسة المشرق الكاثوليكية الكلدانية، أبناء الجماعات الكنسية المنحدرة من حركة الاصلاح اللوثري البروتستانية، بمختلف مسمياتها، من التي تضم اعدادًا من المنحدرين من مختلف الكنائس، كما نشير الى احتمال وجود أبناء آخرين ضمن جماعات أخرى غير المذكورة اعلاه على مختلف الثقافات والميول السياسية، مستقلة بشكل مبدئي عن إعلان الانتماء الديني، أو في الأقل غير حاملة قناعة المواضبة الايمانية. هؤلاء هم الأحوج إلى وحدة إخوتهم المؤمنين، حتى يلمسوا بأنهم حقا مؤمنين، فيتأثروا بإيمانهم من خلال وحدتهم، وإلا يجرونهم الى المسار الوحدوي المستقل عن الديانة.

فرص ظهور الشخصية القيادية الموهوبة على المستوى العلماني
هذا المسار، المرتبط بقيم المجتمع المدني، باستقلالية عن مذهب محدد، غالبا ما أثبت فشله في ظروفنا، بسبب تشابك الخصوصية القومية والدينية عند شعب السورث، حتى وصل الحال بالكثيرين، الى ربط سورايا كمرادف لمسيحي. سيما وان الساحة السياسية المختنقة في مواقع الحكم المركزي في العراق، قلما ولدت قائدا استقطب اهتمام مختلف التيارات، ليس لافتقاد الصفات القيادية في الزعماء السياسيين، بل لافتقاد النفوذ والامكانات المادية، وخصوصا بسبب العقبات التي وضعها أمامهم رجال الدين في كنائس المشرق لمآرب ومطامع وطموحات وأسباب متباينة بين المبدئية والفردانية.
وقد يستثنى من هذا التوجه، في ظل الاستقرار التي تشهده منطقة اقليم كردستان، وبروز ما يوحي بظهور زعامة على مستوى شعب السورث، استقطبت أبناء كنائس المشرق، في الإقليم وفي سهل نينوى. بقدر ما تم تجاوز النفوذ والتأثير المعاكس لبعض رجال الدين، مع الحصول على الخط الاخضر من قيادة الاقليم، أكان الأمر مرحليا، أو لمستوى بعيد الأمد، وبواقعية متوازنة تستوعب التعددية؛ إضافة الى توفر الدعم الاعلامي والاقتصادي المنفتح، نحو كل التوجهات المذهبية، دون الارتباط بواحدة على حساب الاخرى.
مستجدات في المعادلات التي شهدها تاريخ كنيسة المشرق
نقصد هنا بالمعادلات.. ما يأتي كنتيجة أو رد فعل لحالة أدت إلى تبدلها نحو حالة أخرى. من تلك المعادلات، في حياة كنيسة المشرق، ما أدى إلى انقطاع علاقتها عن الشركة مع الكنيسة الجامعة، للأسباب العقائدية واللاهوتية، المتأثرة بصعوبة الاتصال والاستخدامات المتباينة للتعابير؛ كل هذا حدث تحت ظروف تاريخية وجيو- سياسية. وكانت (كنيسة المشرق) قبل الانفصال، ضمن الكنائس الرسولية، التي احتفظت بخصوصية كياناتها البطريريكية. هذا ما حدث في أعقاب مجمع أفسس سنة 431، مما أسهب في الحديث عنه المتخصصون. تلك "المعادلات" العقائدية والجيو- سياسية، أدت الى انفصال كنيسة المشرق وبقائها كذلك حتى منتصف القرن السادس عشر.
المعادلة الأخرى تعلقت بالوضع الداخلي لكنيسة المشرق (حتى منتصف القرن 16)، مما أدى بقسم منها الى أن يلتحم بالشركة مع روما، فكانت الكنيسة الكلدانية، منشطرة عن كنيسة المشرق التي عرفت بالنسطورية أو الآشورية.
وسرعان ما طرأت مستجدات على معادلة ظهورالكنيسة الكلدانية، في أجيالها الأولى.. ففي منعطف مفاجئ حدث أن التسلسل المنحدر من البطريرك يوحنا سولاقا للكنيسة الكلدانية، إنقطع بعد أجيال وارتبط بمفارقة جديدة هي من المستجدات غير المحسوبة، بكنيسة المشرق الاشورية، في حين صار لحد الان الكلدان الحاليون، منحدرين من السلسلة البطريريكية المواجهة للبطريرك الكاثوليكي الاول من كنيسة المشرق، مار يوحنا سولاقا.. ، حدث هذا منذ عهد البطريرك يوحنا الثامن هرمز (1830-1838)، بحسب جدول تسلسل بطاركة كنيسة المشرق في دراسة مار سرهد جمو: كنيسة المشرق في شطريها.
وقد ظهرت، خلال تلك القرون، بفعل ظروف حكمت عقلية ذلك الزمان، كتلتان متوازيتان في العائلات المذهبية المسيحية، لمختلف البطريركيات (الأقباط، الأرمن، الروم إلخ...) وهما: كتلة المذهب الكاثوليكي، وكتلة المذهب "الأرثوذكسي" على مختلف الخصوصيات في المعتقد المعلن لكل من تلك الكنائس البطريركية الأرثوذكسية، وقد ادخل العلماء في هذا الخط، كنيسة المشرق الآشورية (أقباط كاثوليك أو أرثوذكس، أرمن كاثوليك أو أرثوكس، روم كاثوليك أو روم ارثوذكس، كنيسة الشرق الكاثوليكية أي الكلدانية، وكنيسة الشرق الأرثوذكسية أي النسطورية - الآشورية). من أولئك المؤرخين، جان بيير فولونيه، في كتابه الموسوعي: حياة وموت المسيحيين في الشرق الاوسط.
مساعي متنوعة لصيانة التراث الثقافي الليتورجي
على العموم احتفظت الكنائس التي اعتنقت المذهب الكاثوليكي، باسمها الاصلي، وعند ابناء كنيسة المشرق الكاثوليكية، حملت تسمية (الكلدانية).. ولم تأت هذه التسمية عن فراغ بل هناك من يرى فيها امتدادا في الجذور التاريخية لابناء بين النهرين، آثور وكلدو، ولا بد أنها مرتبطة بتخريجات تاريخية لتأخذ باي نسبة من الموضوعية تبريرها كتسمية، مقارنة بما أطلق عبر التاريخ من تسمية آشورية متجذرة هي ايضا في تاريخ بين النهرين.
وبفعل الطبيعة الانجيلية الكاثوليكية، سرعان ما ينفتح التوجه في الجانب الكاثوليكي، الى المزيد من الشمولية، بنسب متباينة التباعد مع الخصوصية القومية. كما يمارس الجانب الكاثوليكي في تلك الكنائس الدور المنفتح على الثقافات الاخرى، مع انفتاح بشرىالانجيل اليها.وهكذا بالامكان ان ينتمي الى كنيسة الارمن الكاثوليك من ليس ارمنيا، لكن الارمن الارثوذكس قلما يستجد لديهم مثل هذا الواقع، وان استجد، فيكون باعطاء الجهة الكتلوية التي تعتنق المسيحية، خصوصيتها على المستوى القومي والثقافي، لحد مساعدتها على انشاء كنيستها المستقلة، كما كان الحال في اعتناق جورجيا المسيحية على يد الكنيسة الارمنية.
وقد سعت الكنيسة الكلدانية (كنيسة المشرق الكاثوليكية) عبر التاريخ، جاهدة ومستبسلة، وخصوصا مع عهد البطريرك مار يوسف أودو (1793- 1878 ) سعت، الى جانب انفتاحها على البشرى لكل الشعوب، الى الاحتفاظ بالتراث الثقافي واللغوي والليتورجي المشترك مع سائر ابناء كنيسة المشرق. لكن هذا السعي بقي بنسب متفاوتة وظروف متباينة يقترب او يبتعد عن طريقة الاشقاء الاشوريين في المحافظة على الخصوصية القومية واللغوية والتراثية.
التراكمات على المكتسب الموروث للكتلتين المسيحيتين المذهبيتين
وعند ابناء الكنيسة الكلدانية، لا غرو انه في الأقل منذ القرن السادس عشر، تراكمت مع الاجيال خصوصية ثقافية بما لم يمنع جماعات كثيرة منهم، لا سيما في اطار قوانين بلدان الاغتراب، من أن تعدّها خصوصية قومية بحد ذاتها. ولم يعد يخفى على الكثيرين ان هذا الواقع نشأ كرد فعل لاحتكاكات حدثت مع الأشقاء في الكتلة المذهبية الاخرى (أبناء الكنيسة الآشورية). ونرجع الى مثل الكنيستين الارمنيتين الكاثوليكية والارثوذكسية، التي احتفظ ابناؤها بالتسمية نفسها، لكن التباين الثقافي والتراثي، أخذ يتراكم مع الاجيال من الانفصال. فكيف الحال مع ابناء كنيسة المشرق، الذين اخذوا من كل جانب تسمية ضاربة جذورها في تاريخ بلاد ما بين النهرين. هذا ما أشار إليه المطران سرهد جمو في دراسته المنشورة على الشبكة الالكترونية كنيسة المشرق في شطريها، إذ قال: "وهكذا اذ نحن نستفيق اليوم، بعد اكثر من قرن ونصف، نرى أن النهر الواحد أصبح جدولين، وأن نتائج الانشطار في الرئاسة ونتائج القطيعة بين المجموعتين أدت آخر الامر الى تنوع في الحياة الطقسية والثقافية والاجتماعية." ولكن لحسن الحظ لم يزل يجمع كلا الجانبين باستثناء الاصوليين منهما، اتفاق ضمني على القبول بكونهم جميعا يشكلون شعب السورايي على مذاهب مختلفة.
مستجدات في المسار المعاصر..
- من مستجدات المسار المعاصر لكنيسة المشرق الاشورية، ظهر بفعل أوضاعها الداخلية وظروف مرحلية، كرسي بطريركي آخر باسم الكنيسة الشرقية القديمة (التقويم العتيق).. تبوأه منذ الستينات مار آدي الثاني أزاء الكرسي الذي يتبوآه مار دنخا الرابع.
- تم في خطوة تاريخية كبيرة، في نهاية عام 1994، اللقاء الوحدوي بين البابا مار يوحنا بولس الثاني رأس الكنيسة الكاثوليكة والبطريرك مار دنخا الرابع رأس كنيسة المشرق الآشورية .. كما التقى البابا مار يوحنا بولس الثاني، في مناسبة أخرى، ما أدي الثاني، بطريرك الكنيسة الشرقية القديمة. ومن جانبه، لم يفوّت البطريرك (الكلداني) الراحل مار روفائيل الاول بيداويد، أي فرصة مواتية، ليأخذ زمام المبادرة بالخطوات الوحدوية مع شقيقيه البطريركين مار دنخا الرابع وما أدي الثاني.
مواقف سلبية مؤثرة
- ولكن برغم الخطوات الوحدوية المذكورة، فقد تحركت في بحر التسعينيات مستجدات من عدة جوانب مؤثرة من قبل مختلف الكنائس. لا بد من القول، ان تلك التحركات كانت باتجاه التشبث بالجانب الكتلوي لكل جهة والتشبث بالمكتسبات الشخصية، مما عطل بل أوقف المسار المصيري الوحدوي. فضمن هذه المستجدات، قامت تلك التكتلات المتعصبة من مختلف الانتماءات المذهبية، فتحكمت بطريقة أو أخرى، لجر كل سلطة كنسية، الى الخضوع الحصري للخصوصيةالقومية، وكل كتلة تحركت باتجاه معاكس للكتلة الاخرى. وكل منها يتوخى وضع الخصوصية القومية بنسب متفاوتة، على مستوى اعلى من مستوى المسار المسكوني الوحدوي الانجيلي. مما أضحى تهديدا جديا على مصير المسار الوحدوي.
في هذا التوقف الواضح الذي حصل في أواخر القرن العشرين، على مسار الوحدة المسكونية لأبناء كنيسة المشرق، عاد بهم الحال إلى واقع ما قبل كل تلك الخطوات الوحدوية المذكورة...
في هذه الحقبة، زاد في توقف المسار الوحدوي، سقوط النظام العراقي السابق، وانفلات زمام الامور في التحركات السياسية على شكل جماعات صغيرة متناحرة متقاسمة. وما عقب لك من مداخلات سياسية زادت الفوضى، وجلبت المزيد من الضبابية.. ولم يظهر في البلاد، بشكل ملفت للنظر، شخص يحمل كاريسما الوحدة بما يستقطب الالتفاف الكاسح، بالرغم من زوال الخوف من النظام السابق بشأن اي تحرك وحدوي. قد يرجع ذلك إلى نوع البحث عن الإحساس بالأمان، وعدم خسارة مكتسبات فردية أو مطامح مستقبلية، والتعويل، كل من جانبه، على تقرب الاخرين من الطرف الآخر. كما يرجع الأمر الى غياب المبدئية في التحركات الكتلوية القومية، والبحث عن المصالح الضيقة، وممارسة مؤثرات خطيرة لتعميق هذا الجمود. فكيف الحال إذا تعالت مطالبات من قبل غير الكاثوليك، لأن يتركوا أشقاءهم الشركة مع روما، بحجة تسهيل التقارب الوحدوي الأخوي ما بين الاشقاء!!!

كاريسما - مواهبية الوحدة في تاريخ كنيسة المشرق
ولا بد من الاعتراف، أن الشخصية ذات موهبة الكاريسما نحو الوحدة، بقيت عبر التاريخ بحاجة الى التفاف جماهيري، لو كان قد حدث ، لما كـُنـّا في الحال الذي نحن عليه. وهذه الحاجة تبقى قائمة على كلى المستويين، الكاثوليكي أو الأرثوذكسي. ولا بد من القول أيضا، أنه حتى الجماعات الكنسية البروتستانتية، تعيش هاجس الوحدة المسكونية، كجدلية مطلوبة في الهوية المسيحية. وإن المسيحية (بقدر ما يناسبها هذا الاسم) إذا تحولت الى عنصر بموقع ادنى في خدمة التكتل القومي، دون بشرى الانجيل، تبقى تواجه أحد أخطر التحديات التي بقيت تتكرر عبر التاريخ، منذ عهد الملك قسطنطين، ولحد الان. وهذا الخطر بخضوع الكنيسة للتوجه القومي، على حساب التوجه الراعوي الانجيلي (نسبة الى الانجيل وليس الى الكنائس الانجيلية...)، يشكل تهديدًا جذريا للهوية المسيحية الرسولية الجامعة الكاثوليكية.

مواقف انجيلية مبدئية
نستطيع أن نستخلص مبدئية واضحة تستند إليها كتابات أعلام وحدويين في الكنيسة الكلدانية، من أمثال المطران أدي شير، والاب يوسف حبي، على سبيل المثال لا الحصر، واذا اقتصرنا على الاستشهاد بالراحلين. ولا تخلو الساحة، من أمثالهم، في عموم كنيسة المشرق، بمختلف مذاهبها. كما نستطيع أن نستخلص المبدئية في رعاة الكنيسة الكلدانية.. حيث تم وصفها، في أكثر من موقع ومناسبة ومنبر إعلامي، بكونها كنيسة المشرق الكاثوليكية.. هذا الموقف يمكن أن يفهم منه، ومن خلال مختلف التصريحات مهما كانت متباينة، أن رعاية كنيسة المشرق الكاثوليكية – الكلدانية، ترى من موقع المسؤولية، الجانب الجوهري، في طبيعة الشركة الكاثوليكية الجامعة.. بمستوى يسمو على المعلن من الخصوصيات القومية، من السورايي؛ سواء الذين يعلنون أنهم كلدان، وهم من غالبية أبناء هذه الكنيسة، وغالبية المسيحيين في بلاد بين النهرين، وجماعات الاغتراب؛ أو فيهم من الآشوريين، مع تأكيد وجودهم في الكنيسة الكلدانية، بنسبة كبيرة أيضا، الى جانب وجود المنتمين الى القوميات الاخرى، بما هو ضمن الطبيعة الشاملة لأي كنيسة كاثوليكية لنشر شهادة لبشرى المسيح في العالم كله.

مخاطر في المسار المصيري للوحدة
من كل ما سبق يتبين ما يكتنف مسار الوحدة المسيحية المسكونية من مخاطر عند طغيان تأثير الكتل القومية. هذه العناصر التي تسعى إلى أن تطغي الصفة القومية على رسالة الكنيسة الجامعة، تجر كل كنيسة إلى أن تعيش في عزلة عن بشرى الانجيل وعن رسالتها المسكونية. وإذا حصل وأن خضعت الكنيسة للتوجه القومي فوق التوجه المسيحي، فعندما تحصل الحقوق القومية لأبنائها، عندئذ سيبدأ التململ بين دور السلطة الكنسية ودور السلطة المدنية في الجانب القومي، ومن ثم تحاشي تدخل الكنيسة في السياسة. مثل هذا التململ الذي حصل بعد إعلان دولة أرمينيا. ناهيك أن السلطة الكنسية سوف تتقاذفها التأثيرات السياسية القومية بين هذه الأمواج وتلك، مما لمسه المطلعون في حياة كنائس "قومية" مختلفة. إلى جانب هذا، فإن تدخل السلطة الكنسية في الشوؤن السياسية والقومية، على حساب الشؤون الدينية سيجرها الى اتخاذ مواقف تتحمل هوامش من الخطأ ومراجعة الذات والتراجع عنها، على ضوء مقولة "السياسة هي فن الممكن".

مصير التكتلات القومية- السياسية تحت الغطاء الديني
الخطر المحدق بالكنائس الخاضعة الى المد التكتلي القومي على حساب الرسالة المسيحية، ليس فقط ابتعادها عن جوهر الرسالة المسيحية، بل سيجعل منها ما سمي بالكنائس المجهرية الموغلة في الصغر، إن لم يحلها الواقع إلى جماعات يغلب عليها طابع البدعة. وهذا ليس فقط على مستوى الكنائس الجاثاليقية (القومية) التي تحجمت في هذا الاتجاه فحسب، بل ستتزاحم على الانقسام بجدلية التجزئة الداخلية التي شهدتها الكنائس الانجيلية، بفعل اختلاف وجهات النظر بين ذوي النفوذ فيها، فيفتح كل منهم كنيسة تحت الاسم الرنان الذي يختاره، وتجيزه القوانين النافذة في البلد الذي يعيش فيه.
أما الجماعات ذات التكتل التعصبي الأعمى، الذي يلغي التفاف الآخرين، ويصر على الخطيئة ضد الروح القدس، والسعي الى التأثير على السلطات الكنسية، نحو مآربها ومطامعها، فإن هذه الجماعات، علاوة على كونها تحوّل كنائسها الى بؤر بدعية مهمشة،وتدعو إلى تأليه القومية وتأليه الرموز القومية قبل التاريخ المسيحي، واعتبار مدن في التاريخ القومي كمدن مقدسة... إنها تصبح كبدع تكتنفها الفضائح الأخلاقية والمالية. وهذه الجماعات بعينها، ستتحول هي أيضا الى ما يشبه النوادي الاجتماعية، أو في أحسن الأحوال الى جمعيات تتحرك تحت غطاء إدعائي من العلمية، تتقاذفها المصالح والانتخابات، والانتخابات المضادة المجيّرة لصالح هذا الغول أو ذاك.
ولكن سيبقى النهر الكبير، هو نهر الحياة الواسع، نهر التعددية والديمقراطية في اطار الوحدة، تصب فيها الامال، ويستقطب المزيد من جمهور المريدين.

آمال معقودة على خطى البطريركين يوحنا سولاقا ويوحنا الثامن هرمز
إزاء ما تناولناه من مخاطر ظهور كنائس مجهرية، منغلقة على الخصوصيات القومية لأتباعها، ومنغلقة على الرسالة المسيحية في الوحدة، تبقى الامال معقودة على الاصوات النبوية المواهبية ذات كاريسما الوحدة. اولئك الذين يتخذون الوحدة، كثمرة للمحبة والسلام، ويحملونها في شغاف القلب، كقضية ورسالة واستجابة لنداء المسيح، في أحلك الظروف، خصوصا عند ابتعاد هذه الرئاسة الكنسية أو تلك، عن المسار الوحدوي، وانشغالها بالشأن القومي على حساب الشأن الروحي والراعوي.
بل إن هذه الاتجاهات التكتلية، هي أكثر من أي وقت آخر، أضعف من جانب الايمان المسيحي، وهي أكثر ضعفا من الجهات التي كانت في عهد القطبين مار يوحنا سولاقا وما يوحنا الثامن هرمز. ودليل هذا الضعف هو ما يستخدم من شراسة وضراوة، ضد الوحدويين المسكونيّين حاملي رسالة الوحدة. وإن الأقطاب المنافسة لها في كنائسها الأصلية، لن تملك مع الزمن الا الاحتجاب والالتغاء، على حساب المزيد من الاستجابة لدى رعاة الاقطاب الوحدوية المتزايدة، من صعيد الالتحام بين الفروع الأصيلة في التجمعات الثقافية والكنسية، إلى صعيد الانفتاح الثقافي الحضاري والوحدة المسكونية الجامعة.
وإن الأصوات النبوية اذا اجتمعت لديها السلطة الراعوية واستقطبت الالتفاف الجماهيري، هي المنقذة للمسار المصيري للوحدة، لتضعه في الخط الصحيح، بقدر ما تكتمل فيها، مع الوقت، المصداقية المرجوة في نبوة غمالائيل في أعمال الرسل، الذي اعطى الفرصة للزمن، بان يتبين المعدن الأصيل من المزيف، المسكون بدعوة الوحدة والمتجه بكفاءته ونزاهته الى صفات القداسة فالغبطة في كنيسة المشرق الموحدة.
Opinions