أبو گنـّو من مثواه الأخير يندب ونحن من أبراجنا نتراشق بما نكتب
لا يمكن ان يختلف عاقلان على أن التعصب بكل انواعه هو آفة تنخر في عقل الفرد وتقوده الى كل ما هو شاذ في الأعراف , لأنها, أي الآفه, تحرره من سلطة عقله و تغيّب رقابة الضمير في حكمه على الاشياء ,لذا ترتعش ذاكرته كلما جيئ بطارئ حق الاخر, بالتالي كل ما يحكيه يكون مبعث تشويش علىالآخر كونه لا يرى الحق الا في نفسه والآخرون على باطل .إن كانت مهمة المثقف هي تجسيرالهـُوّه, تكون محاولة بناء الجدار العازل مهمة لا تحمد, فما بالك لو بلغ الأمر بمثقفنا وتورط بأجساد أهله مداسا ً له نحو هدفه في حين يرى في منيّة الغرباء ولطماتهم منجاتا له ,أليس تلك معضله يفترض محاصرتها وليكن بجرع تنشط الذاكره قليلا.
لو إتفقنا جدلا على أن أسلوب الإنسان هو العاكس لشخصيته ومعيار تحديد ما يستحقه , وعلى أن الإطراء سواء جاء في محله او في غيره , فهو ذائب كالثلج لامحال ,إذن دعونا نتفق على أن الإنعزاليه والتنكيل والتشهير هي خصال إجتماعيه منبوذه قبل ان تكون سياسية, و لو تفشت في وسط المتعلمين او نالت إعجابهم لإنقلب ذاك المجتمع الى وكر للأوبئةوساعتها لن يفيد جلد الذات.
لو أ ُريدَ منا تقييم الكاتب الذي يطنب في إمتداح حالة ثبت انها شاذه اومشكوك في أمرها , فهو إما يكون جزء من ماكنتها اوفيها ما يلبي رغباته , لذلك تراه من جهة يغرق في تلميعها ومن جهة أخرى يتخمنا بتفاسير معنى الحرية وروح التعايش التي ترفض عقليته العيش معها,هذا عدا انك تراه حينا يوعظنا بإلتزام الإعتدال والثبات في حين طبع النط من معلف لآخر ملازمه, وشعره لا يصدح إلا في حضرة السلطان كلما ضاقت به السبل ,أما مفردات نثره فهي كذرات الملح فوق جراح أهله , كل هذه القتامه وكاتبنا يتباهى بعتمتها لسبب بسيط وهو أنها الأوفر حظا في تحقيق ما تصبو اليه عصبيته للحد الذي كاد بسطاؤنا يتصورون أن الحقوق لا تأتي إلا في فبركة ديباجة تسقيط الأكفاء المعذبين أو بقراءة قصيدة مديح في مجلس الوالي.
عوده الى العنوان و حكاية السكيرأبي گنو :
كانت أصوات أهل الولاية قد تعالت مستاءة ً حين أ ُختير َ(أبوگنو) مترجما ثم دفتر دار الولايه , حيث بحــّت يومها الحناجر محذرّةً من عواقب إسناد مرتاد الحانات منصبا رفيعا ,بل طامة الولايه الكبرى كانت حين إعتبرالوالي تكلم السكير العربية وإجادته الغناء بالتركيه تزكية تكفيه لتولي منصب المترجم ,بينما غض جنابه الطرف عن سيئات السكر وبذاءة الأسلوب وكأنها أمور معتاده ,إذ لم يعرجنابه ولا حاشيته أي إهتمام للتحذيرات الى ان حل الذي حل بالولاية, إذن هل كان ابو گنـــو المذنب لوحده؟
مرت الأيام والولاية تغور في دهاليز ظلام دامس وصمت مريب , و إقتصادها وخدماتها وعلاقاتها العامة تسيئ يوما بعد يوم و الوالي يكبّر ويزمر بمترجمه الذي يجيد التركيه لدرجه أنه أباح له السكر والسهر مع الغواني داخل القصر بعد أن رفعه الى دفتردار مما أفزع الاهالي والتجار الوافدين الذين قرروا في النهاية ترك الولاية و مقاطعة الاتجار بسوقها مفضلين الذهاب الى مكان أخر علـّهم يصونون فيه كرامتهم ويأتمنون على أموالهم, وبعد أن عمت الفوضى في كل الأنحاء,إظطر جناب الوالي الى إستدعاء الدفترداروالإستفسار منه عما يدور لكن بعد خراب البصره.
في حينها , كان أبوگنو قد إختزل جل ّ إستفسارات الوالي وأسئلته بفقرة جوابيه همسها في أذن ذلك الميت الذي صادف أن مرت جنازته امام القصر أثناء إستجواب الوالي له , وقد إظطر أبو گنو قراءة الجمله أمام الوالي أيضا بعد أن هدده بقطع راسه إن لم يفصح عما همسه في أذن ذلك الميت, اليكم نص الفقرة المفترضه ألتي همس بها أبو گنــو في أذن الميت :
(( يا ايها المغادرالى دارالحق , بـلــّغ رب السماوات وملائكته و أسلافنا الراقدين , قل لهم بحق السماء, إني برئ مما يحلّ في الولاية, لأن الولاية التي يديرها حاكم منح سكيرا مثلي شهادة العمل مترجما له ثم دفتردارا , فهو حاكم أهوج قد فاته الرجـــم , و حال ولايته لن يكون أفضل من حال سوق النخاسة فيه يــُداسُ على القانون ويــبصق الأمعات بوجه الأخيار)).
أما اليـــــوم يا سادتـــي :
بعد التجربه الحياتيه التي خاضها أبو گنو ما بين السكر والترجمة وبين الدفترداريه وترف الغواني, يرقد في مثواه الأخير لأكثر من قرن راضيا حيث التراب منامه الوفير وزاده الأبدي ,لكن الحياة الدنيا علـّمته , وسكينة الآخره غيـّرته الى ناصح نادم , وها هو يندب و يصرخ من شدة أسفه علينا نحن الأخلاف الذين لم نتعظ قيد شعرة من تعاسة تجربة الوالي وعواقب منح الحاناتي شهادة العمل في القصر , إن أبوگنو اليوم يا إخوان يذرف من قبره دموع الخيبة والحسره على الذين لم يجدوا إلا في سليــطي اللسان وكارهــي بني قومهم رموزا يصفونها بمشاعل تنير درب الامم وثقافتها!
إنها مأساة ما بعدها مأساة, وأظنها إشارة تكفي حتى لمن لا حلم له.
الوطن والشعب من وراء القصد