أجل استاذ مسعود البارزاني إنها محاولة لوأد تجربة كردستان
عالم السياسة غريب عجيب ، فهنالك دائماً اهداف وأمور وقضايا تعلن على الملاء ، وتبقى الخبايا ، وما يضمر من الأهداف غير المعلنة هي التي يسعى اليها الساسة في مجمل تحركاتهم وأفعالهم . تركيا المتغيرة كما يلقبها هاينتس كرامر تبحث عن ثوب جديد ، أرى انها ربما تكون متغيرة في اشياء كثيرة لكن يبقى هاجس الشعب الكردي يؤرقها ، ولا تستطيع استيعابه وهضمه مهما بلغت من الرقي والحضارة ، إنها في الحقيقة لا تريد ان تعترف بأبجدية تقرير المصير للشعوب ومنها الشعب الكردي .كانت تركيا تشكل رقماً مهماً في عملية احتواء الفعّال للأتحاد السوفياتي السابق منذ اندلاع الحرب الباردة ، حيث كانت تركيا تحرس الخاصرة الجنوبية الشرقية للحلف الأطلسي ، ففي العرف الغربي فإن تركيا هي دولة ديمقراطية علمانية مستقرة وذات توجهات غربية في سياساتها المعلنة .
إن كان هذا انطباع الغرب عن تركيا فما بال هذه الدولة تسلك سلوك الشرطي مع جيرانها . من البديهي ان ان التدخل الخارجي في شؤون الغير يحمل اجندته ومصالحه الأستراتيجية ، والتدخل الخارجي هو بحاجة الى ثغرة تشكل مبرراً للتدخل ، على سبيل المثال يوم تحرير الكويت او تحرير العراق كان ثمة مبرر للتدخل الأمريكي . لكن تركيا تبدو متلهفة للعثور على ثغرة للنفاذ منها في عملية التدخل في الشأن العراقي وعلى التحديد في منطقة اقليم كردستان . ويبدو ان احلام الأمبراطورية التركية المتجانسة التي تدغدغ مخيلتها لا زالت قائمة ، وهي لا تريد ان تكون شاهد على تجربة كردستان الناجحة ، فهي ترى في هذه التجربة خطراً جسيماً عليها ، إن هاجس العمق الكردي في تركيا ذلك ( البعبع ) الدائم ، لا تريد له النهوض من ( قمقمه ) ، إنها لا تريد ان تفتح عيونها لترى الواقع ، وهي تشارك النعامة في محاولة التعامي عن الحقيقة ، لقد دأبت على العزف على نفس الوتر وإن اختلفت النوتة الموسيقية فاليوم يجري العزف على نغمة خطورة حزب العمال الكردستاني .
إذا كان لتركيا ان تعلمنا من دروسها في الديمقراطية والعلمانية فعليها ان تفتح النوافذ لتشرق هذه النعمة على غيرها ، فالديمقراطية والحرية كنور الشمس لا يمكن ان يحجب نورها عن الأخرين ، وهكذا النسيم العليل الذي يهب لا يستقيم امر احتكاره وصده عن الآخر .
على تركيا ان تكون واقعية مع نفسها ومع غيرها ، فالشعب الكردي كبقية شعوب الأرض يحق له تقرير مصيره بنفسه دون وصاية ، واليوم يثبت الشعب الكردي انه شعب مسالم يحب البناء والأستقرار وهو يثبت بالتجربة الناصعة هذه الخاصية فلماذا تريد تركيا وأد هذه التجربة ؟
لا ريب ان الشعب الكردي اليوم اكثر من أي وقت بحاجة الى اصدقاء وبنظري ان توطيد اواصر العلاقات الأستراتيجية مع الولايات المتحدة سيصب في مصلحة الطرفين ، وحسنا فعل الرئيس البارزاني حينما اكد ان عدم لقائه برايس لا يعد مؤشراً على توتر العلاقات مع الولايات المتحدة وبرأيي ان الذين يضمرون الحقد على كردستان يرومون الى عزل كردستان دولياً . وقد اسقط البارزاني تلك الأوهام حينما بين ان سبب عدم توجهه الى بغداد لمقابلة وزيرة الخارجية الأمريكية رايز كان بسبب تعرض قرى كردية متاخمة للحدود التركية للقصف وكان عليه الأجتماع مع ابناء شعبه للأطمئنان عليهم والوقوف بصفهم ساعة محنتهم .
لقد كان البارزاني صريحاً مع ابناء شعبه حينما أكد ان القصف التركي يستهدف إجهاض تجربة إقليم كوردستان والشـعب الكردي ، لقد وضـع اصـبعه على الجرح وقال امام مواطني القرى التي تعرضت للقصف :
إن الطائرات والدبابات والمدفعية لن تقتل إرادة الشعب الكوردي، رغم تمكن تلك الأدوات من القتل والتدمير، موضحاً أن القصف يستهدف تجربة الإقليم والشعب الكوردي:
"لا يمكن أن نقبل بأية حجة أن تقصف قرانا، وقلت مراراً إن الهدف هو تجربة إقليم كوردستان والشعب الكوردي".
وأشار البرزاني إلى لقاء مرتقب له مع رئيس الجمهورية جلال الطالباني للبحث بشكل جدي في مسألة القصف التركي، متعهداً لمواطني قرى سفح جبل قنديل ببذل جهود حثيثة لإعادة إعمار قراهم، وتقديم المساعدات اللازمة للنازحين من هذه القرى .
في كل مرة يؤكد الرئيس مسعود البارزاني استعداد اقليم كردستان لحل كل القضايا العالقة بالطرق الدبلوماسية بضمنها مشكلة مقاتلي حزب العمال الكردستاني ، إن المنطقة ينبغي ان تتجاوز مرحلة المعارك والتوتر للأنتقال الى مرحلة التنمية والبناء ، إن الأنتعاش الأقتصادي وخلق الأجواء المستقرة وحدود آمنة للتجارة يصب في مصلحة كل الأطراف وفي مقدمتها تركيا .
إن الحكومة التركية ورئيسها رجب طيب أردوغان تطرح على الصعيد الداخلي حديث متنام مفاده وجود خطة شاملة لحل المسألة الكردية في تركيا سلمياً ، ومن المؤكد ان ذلك يتطلب التحلي بالشجاعة للجوء الى الآلية التي تفضي الى الطريق السلمي لحل الأشكال المتعلق بالحزب العمال الكردستاني . لكن الأستشراف لحجم الأستنفار العسكري والدبلوماسي والسياسي الذي حشدته انقرة في حملتها العسكرية هذه المرة ، يؤشر الى اهداف أبعد تكمن وراء الزعم بشن حملة محددة على مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين يتخندقون في شعب وتضاريس جبلية عاصية ، فالحكومة تشن مثل هذه الحملات منذ ربع قرن . ماذا حمل حكومة أردغان لمثل هذا الأستنفار والتجييش هذه المرة ؟
وبنظري ان أنقرة استهدفت من وراء تلك الحملة ، وفي استخدام جديد لذريعة حزب العمال الكردستاني ، بإرسال رسائل معينة في هذا التوقيت وهي تستبطن جهوداً بالضغط وتطويق التجربة الكردية وتطويقها وكبح مسيرتها ، بوضع الخطوط الحمراء لفرملة هذه المسيرة . وأرى ان اهداف الحملة تتلخص في أولاً : ربما تصفية حسابات قديمة مع القيادة الكردية العراقية .
وثانياً : تهدف الى دق اسفين الخلاف بين القيادة الكردية العراقية والولايات المتحدة ، فأنقرة لا يسعدها تطور وتنامي هذه العلاقات .
وثالثاً ترمي الى الأجهاض على التجربة الكردية الرائدة التي تنال الأعجاب والتأييد في اوساط شعبية ورسمية على النطاق الدولي والأقليمي .
ورابعاً : وهو الأهم يمكن استقراء رسالة واضحة ترسلها حكومة اردوكان للشعب الكردي وقيادته في اقليم كردستان مفادها : ان إقامة كردستان متطورة حديثة لن يكون يسيراً وسهلاً .
حبيب تومي / اوسلو
habeebtomi@yahoo.com