أذهان يابسة في سجون مقفلة !
بيني وبين فيكتور ديفيز هانسون : مفارقة الماضوية عن التاريخيةكنت قد نشرت مقالة في الكوريار إنترناشونال يوم 14 نوفمبر 2002 ، عنوانها «التفكير والحريات في سجن مؤبد!!»، قلت فيها أشياء عديدة تخص حياتنا المعاصرة، وغابت عني أشياء، بصدد معاناة مجتمعاتنا ودولنا معا، من سطوة الماضي السياسي، ورهبة التوحّش، ونزعة الحنين العاطفي إلي كل قديم، أو التشّبث بجملة هائلة من المواريث التي لم يعد لها أي نفع في مثل هذا العصر ومن دون الالتفات إلي كنه هذا العصر والمشاركة فيه من خلال ما يمكن تقديمه من منتجات حيوية والتوّغل في صنعه بعيدًا عن مستهلكاته.
إن الماضوية التي كنت وغيري قد نّبهنا إلى مخاطرها منذ أكثر من ربع قرن، تعني باختصار، العيش على أوهام ينفيها العقل نفيًا قاطعًا، فيغدو التفكير محبوسًا في سجن الماضي المؤبد! وهي مرض استعصي طويلاً على الحكماء والفلاسفة وكل المصلحين الحقيقيين الذين استطاعوا تشخيص أعراضه بكل شجاعة ، وخصوصًا عندما يفّسر أصحابها إبداعات غيرهم وتشيؤات خصومهم (هكذا يتخيل العرب دومًا غيرهم خصومًا لهم) بأبشع الصفات، علمًا بأنهم وظفوا أزمانهم ولم يركنوا إلي ماضوياتهم! إن الماضي لا يطعم ولا يسقي ، وحتى وإن كان أكثر فضيلة وأرسخ قيما وأخصب عمالقة!
كتب فيكتور ديفيز هانسون تعقيبًا علي مقالتي في الكوريار نفسها عنوانه: «ما الذي جري بالتاريخ؟»، يضفي أفكارًا جديدة، وهو يعتب فيه على الغربيين كيف أنهم نسوا الماضي وراء ظهورهم ، وكيف غدوا جزءًا من عجلة العصر وطغيان الحاضر ونزعة المعاصرة، ثم أخذ يضادد ما كنت قد طرحته عن العرب في الصحيفة نفسها ، عندما يصف التشبّث بالمعاصرة مرضًا أو داء عضالاً.. وهو يحّن حنينًا جارفًا إلى الأسلاف الذين بنوا كل شيء وتركوه إلى الأخلاف!
هنا أود استعادة التفكير من جديد وبعد أن قارنت كلاً من الفكرتين المتضادتين، أيهما تخدمان أكثر.. فهل تشبّث الغرب (والعالم من ورائه) بالمعاصرة أهم؟!.. أم هل تشبّث العرب «والمسلمين معهم» بالماضي أهم؟! علمًا بأن فيكتور هانسون لم يقل بالماضوية، بل طالب بالتاريخ.. والفرق بين الماضي والتاريخ كبير جدًا! ناهيكم عن أن تصنيف العقلاء واضح لكل الدنيا، إذ لا يمكن أن نفّضل من يعيش في سجن ماضوي مؤبد بذاك الذي اكتسح العالم كله بمعاصرته ورؤيويته ومنتجاته وبات العالم كله لا يستطيع الحياة من دونه أبدًا. وعليه ، فان النزعة الماضوية التي ندينها شيء ، وان الفكرة التاريخية التي نتطلع إليها شيء آخر !
النزعة الماضوية
إن العرب تنزع بصورة غير مألوفة للحديث عن الآباء والأجداد بنبرة من التقديس والتفاخر من دون الاهتمام بالأبناء والأحفاد، وكأن المعادلة مفقودة التواصل بين الأبوة والبنوة كما هو حال الأمم الأخرى التي تبقى تحترم مواريثها وتعتّز بها اعتزازًا شديدًا من دون تقديسها أبدًا! إن ما تقوم به مجتمعاتنا من إضفاء صفة القدسية والبهرجة والانبهار على زعمائنا وأبطالنا الذين ينتمون إلى أجيال مضت من دون مراعاة مضامين ما حملوه، حتى وإن كان الأكثر مشاركة وفاعلية في تاريخ الحضارة.. ستضيف جديدًا في الحياة التي تصلبّت منذ أزمان ، وبث الدماء في شرايين المستقبل.. إن الزمن تافه في عرف مجتمعاتنا، وإن تفكيرهم لا يتحسس الزمن، وهو الذي يدفع الإنسان، وبالتالي المجتمع إلى أن يشعر بأنه صاحب إرادة لتحطيم القيود التي تكبله في سجنه المؤبد الذي وجد نفسه فيه منذ أزمان مضت.. إن التفكير إذا بقي مصفدًا بالأغلال هو الآخر سيبقي عدة أجيال كاملة لا تعرف طريقها نحو الأفضل.. فما الذي يشحذ التفكير إذا بقي مسجونًا داخل صندوق مغلق من دون أن يستعيد التفكير على نحو جديد كي ينحى نحو الحرية.. ؟؟؟ إن الحرية لا يمكن تحقيقها في المجتمع إن لم يحققها الإنسان في ذاته بتغيير ذهنيته المركبة وتفكيره المطبق معا، كي ينطلق باتجاهات مختلفة لا يخشى أية سلطات على عقله ومشاعره ، بل ولا يداهن ولا يرائي .. لا يهرّج ولا يتصلّب .. لا ينافق ولا يكذب .. لا يتسّيس ولا يتيبّس .. لا يتزمت ولا يتطرف .. الخ من سلوكيات مرضى نفسانيين ، وجدوا أنفسهم هكذا في بيئاتهم التي توارثت الاحقاد والكراهية والمكبوتات منذ أزمان لأسباب متباينة اجتماعية وسياسية ومعيشية وتربوية لا تعد ولا تحصى ! إن من أشد مصائب مجتمعاتنا أنها تعشق الماضي وتهيم بماضويتها ، وقد تصل بها إلي حد القداسة! ولكنها لا تفقه شيئًا عن تاريخها ، ولم تستفد أبدًا من تجاربها، كونها بعيدة عن المعرفة التاريخية بعدا كبيرا ، وهي المعرفة التي لا يمكن امتلاكها من دون وسائل نقدية وأدوات منهاجية وأفكار متحررة من كل الأقفاص المقفلة .. فتراها وكأنها مجتمعات بدائية التفكير لم يسبق لها أن مرت بعصور وسطى!
ماضوية الذاكرة الجمعية العربية
إذا كان الغربيون ينتقدون أنفسهم بأنهم نادرًا ما يأتون على ذكر أسلافهم، ونحن ندرك مدى قرب أسلافهم منهم وما قدموه لهم منذ أزمان النهضة، فإن العرب والمسلمين قاطبة باقون في معبد الماضي، يتهجدون في جنباته ويتعبدون رموزه ضمن تقاليدهم وأعرافهم ليس من أجل تهذيب الأرواح والتسامي في التجليات الدينية إزاء السماء فهذا لا أقصده، بل إنما أعني أداءهم عادات فطروا عليها بإتباع سنن الآباء والأجداد، ممن كان عصرهم يبدو بدائيًا أصغر جدًا من هذا العصر ومكانهم واسع هائل أكبر جدًا من هذا المكان.. إن الآباء والأجداد قد أورثوها لهم وماتوا من دون أن يدرك المعاصرون منّا ما الذي يعود عليهم بالفائدة التي ترجى من ذلك كله؟
إن الفجوة المريعة في الذاكرة الجمعية بين ما يقدم للماضي وما لابد له أن يقدم للحاضر من أجل المستقبل ، لم يكن هكذا أبدًا، فلقد كانت هناك عدة أجيال سبقتنا ، كانت لها سمات مميزة في السعي للاندماج ضمن حياة العصر المتقدّمة ، وجعل المنظومة الاجتماعية شركة مساهمة في منتجات مخصبة تشارك هذا الزمن وظائفه من دون نسيان أسلافنا وماضوياتنا التي يمكنها أن تشكّل دفعا من نوع نادر، ولكن التفكير الجمعي قد انقلب على عقبيه انقلابًا مريعًا في الخمسين سنة المنصرمة ، إذ غدت مجتمعاتنا مستعدة للبقاء في سجنها المؤّبد ولا تعرف غير ماضيها التليد، وإذا ما سألت الناس عن المستقبل، أجابوا بالتواكل وأن ذلك ليس من اختصاصهم أبدًا.. فهم لم يعرفوا كيف يخططون أو يتدبرون ولا يوظفون الزمن .. وهم لم يعرفوا كيف يغتنمون الفرص السانحة ، وهم لم يعرفوا ماذا سيفعلون.. وهنا أود أن أسجل بعض ما كنت قد نشرته قبل سنين ، وبالذات في العام 2002.
انتفاء المعادلة الأساسية للبناء الحضاري
الحقوق والحريات +البيئة والثقافة + الذهنية والتفكير = دولة ومجتمع + نخبة + انسان
يؤمن رجال القانون الذين عرفوا في العصر الحديث ، بأن عاملين اثنين يحددان تقدم أي دولة وأي مجتمع، هما: الحقوق والحريات، وأن عاملين آخرين اثنين يحددان تقدم أي نخبة، هما: البيئة والثقافة! وأن عاملين آخرين اثنين يحددان شخصية أي إنسان في وجوده، هما: الذهنية والتفكير! وكلما يجري الزمن، يشقى الإنسان الواعي شقاء الوعي، ويكتشف أن دولنا ومجتمعاتنا في جميع أوطاننا هي أضعف بكثير مما كان قد رسمه في مخيلته من أوهام العظمة والمجد والمفاخرة والنسيب والمدائح .. كما تعلمها الأطفال في أناشيدهم المدرسية الكاذبة وما تربّت عليه الأجيال.. ومن هنا يبقى العرب يربّون أولادهم في بيوتهم ومدارسهم على أكذوبات أحلام، وشعارات وأوهام ، وأشعار كاذبة ، وقصص مرعبة .. كلها لا أساس لها من الصحة.. فضلاً عن أن سؤالاً يفرض نفسه علينا جميعًا نحن العرب كي ندرك حجم المأساة التي يعيشونها اليوم في معاصرتهم، فهل يمكن لأي عاقل أن يتقبّل مجتمعاتنا، وهي لم تزل تعيش في الماضي، ولكن شاخصة فقط في الحاضر؟! هل باستطاعة مجتمعاتنا تقّبل نقد ذاتها وموروثها وتراثها وكل نصوصها نقدا علميا يخضع لمعايير النقد ؟ هل يمكن تطوير القابليات الذهنية كي نجعل الأجيال الجديدة تفكّر بطرق مختلفة عن التفكير السائد ؟ هل باستطاعة الإنسان أن يعّبر عن رأيه بكامل حريته من دون أن يشتم أو يقمع أو يلاحق .. وربما يقتل ؟ هل هناك ثمة قوانين رادعة لكل من يستغل الحريات للإساءات الشخصية وأعمال التحريض ؟ هل هناك ثمة أعرافا وتقاليد في مجتمعاتنا تراعي أحوال التحولات .. بحيث لا تجعل الفوضى تسود بديلا عن الحريات ؟
قرأت يومًا في كتاب عنوانه: «قانون العقوبات المدني» ولعل من أكثر ما رسخ في عقلي وشغل تفكيري نص قانوني مدني يقول: «من قتل حيوانًا أليفًا كلبًا أو قطة من دون وجه حق يحكم بالحبس الشديد مدة زمنية لا تقل عن ستة أشهر ويدفع غرامة معينة»!! بقي هذا «النص» يشغل تفكيري منذ أربعين سنة، خصوصًا أنني أتذكره كلما أسمع كم من بشرنا وأناسنا الأبرياء ، ومن دون وجه حق ، قد أزهقت روحه ، إذ قتل، أو أعدم ، أو عذب ، أو اغتيل ، أو فجّر ، أو سحل ، أو قّطع ومثِّل فيه ، أو نكّل به ، أو حل الغدر به ، أو أفتي بمصيره ، أو ذهب ضحية بريئة لثارات قبلية مقيتة ، أو قتلت مع سبق الإصرار لغسل العار وهي بريئة ، أو اضطهد ، أو لوحق ، أو شتم وطعن به ، أو أسيئ إليه من دون أي مبرر .. الخ وكلها تحدث ، لأسباب تافهة سياسية أو اجتماعية أو تحزبية أو دينية أو طائفية أو عنصرية أو شخصية سايكلوجية من قبل أناس حاقدين أو مجرمين ، أو مرضى نفسيين ، أو مكبوتين ، أو متعصبين ومتطرفين ، أو جهلاء منغلقين .. ولقد تعودت مجتمعاتنا أن يكون الإنسان عندها أرخص شيء في الوجود! وعلينا أن نحصي قتلانا في محيطنا العربي لخمسين سنة مضت.. أولئك الذين ذهبوا ضحايا الاحتلالات والقمع والدكتاتوريات والاضطهاد والتعذيب والاغتيالات والانقلابات الدموية وأنواع الحروب الغبية الإقليمية والمحلية والأهلية.. ناهيكم عن ضحايا الفكر والرأي ، وضحايا السياسة والايديولوجيا ، وضحايا الدين والمذاهب والمعتقدات ، وضحايا صراع المصالح والطبقات والمافيات .. وأخيرا ضحايا الإرهاب المفجع الذي يجتاح عالمنا اليوم بمختلف الطرق الوحشية.
وأخيرا : عادات وتقاليد بالية تغّيب الوعي
لعل من أقسى السيناريوهات التي علمونا إياها في المدارس منذ عشرات السنين: محاربة العادات والتقاليد البالية وهي عبارات قرأناها منذ صغرنا، ومن غدر الزمن ، أن تغدو اليوم تلك العادات والتقاليد «البالية» أصيلة يفخر الناس بها وبممارستها، وتتشّبب الحكومات في حمايتها بقوانين تحت ذرائع الأصالة والتراث.. ومن تحت شقوق هذا الباب ، هبت علينا كل القيم السقيمة ، وابتلينا بكل ما جعلنا نتأخر ونتقهقر في سلم الأولويات.. لقد خسرنا زماننا الثمين، وخسرنا أكثر من جيل بدا اليوم عقيمًا ، ليس في عاداته وتقاليده حسب، بل حتى في تفكيره وثقافته ، وطغت الذهنيات المركبة الموائمة بين النقائض ولا وعي لأصحابها، وهي التي رضيت بواقع مليء بالموبقات المريعة واستنساخ الجهالة بأوجه متباينة ! تناقضات لا عد ولا حصر لها أبدًا على مستوى الدولة والمجتمع والإنسان نفسه! تناقضات لم يشق بها الناس نظرًا لغياب الوعي بخطورتها وجناياتها، ولابد أن نتذكّر معا بأن تجارب العرب السياسية كلها فاشلة في بناء حياتهم التاريخية المعاصرة سواء جاءت على أيديهم عوامل الإخفاق ، أم أن هناك من هدد الحصون من دواخلها ، أم أن هناك عوامل خارجية وقفت ضد التحولات نحو الأفضل .. كما وان العرب في اغلب مجتمعاتهم ، لم تنجح برامج أحزابهم ولا إيديولوجيات ثوراتهم وانقلاباتهم.. خصوصًا عندما تعاملوا مع الزمن تعاملاً ساذجًا، إذ يعولون على انقلاب عسكري معين لينقلهم من بدائيتهم إلى ارفع أنواع التحضر ، أو يعتقدون أن حزبا معينا ، أو قائد ضرورة ، أو زعيما أوحدا .. سينقلهم إلى مصاف الأمم الراقية .. إنهم لا يدركون بأن الحياة المتقدمة لا يصنعها هؤلاء ، بل وان اعتقد البعض إن صناعتها هي من خلال المؤسسات ، فان الاثنين لا يدركان أن ما يسبق هذا وذاك هو صناعة الإنسان ! لقد مرت على مجتمعاتنا مئة سنة والناس فيها تتوهم الأوهام حقائق ، والشعارات بدائل ، والحريات كفر والحاد .. بقي انغلاق التفكير سائدا حتى عند البعض ، أو راح البعض يتوهم بأن الزمن يتلاشى أمامه ، فهناك مبدأ الطفرة التي اعتمدها الليبراليون العرب الأوائل، والطفرة محال، وهناك من تعامل مع فكرة حرق المراحل التي اعتمدها الماركسيون، وقد باءوا بالفشل الذريع، وهناك من تعامل مع أسلوب تفاهة الزمن وازدواجية فاشلة للتراث والمعاصرة التي مارسها القوميون والبعثيون وقد أخرّوا الحياة، وتراجعت القهقرى.. وهناك من يتعامل مع تواكلية الزمن كما يؤمن الإسلاميون الأصوليون بذلك، وهذا ما سنجده في تطبيقاتهم القدرية.. إلخ بل يصل الأمر ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين أن نجد مجتمعات كاملة تزحف نحو المجهول ، وهي تنتظر إماما سيأتي من وراء الغيب يخلصها مما هي فيه ، وهي تؤمن بذلك إيمانا حقيقيا !! السؤال الآن: ما الذي يمكن عمله إزاء مصيرنا القادم؟ دعوني أعالج ذلك في مقال قادم.
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4303 - السبت الموافق - 27 نوفمبر 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com