أستهداف الكَهَنة الكلدان ... لماذا
ليست هي المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي نسمع فيها عن خطف كاهن مسيحي وبالذات كلداني القومية ، فالأب سامي عبد الأحد الريس هو الخامس في تسلسل الكَهَنة الكلدانيين والسادس في تسلسل الكَهَنة المسيحيين ، وقد توجّه غبطة أبينا البطريرك مار عمانوئيل الثالث دلّي بَطْرِيَرْك الكلدان في العراق والعالم بنداء إستغاثة للخاطفين يرجوهم فيه بفك أسر الكاهن المختطف ليعود إلى مؤمنيه يخدمهم بما يُرضي الله والضمير ،عسى أن تلقى رسالة غبطة أبينا البطريرك تجاوباً من قِبَل الخاطفين ، فهي أقل ما يقال عنها بأنها رسالة محبة لمن أعتدى على حرمة رجال الدين، مؤمنين بالقول الكريم للسيد المسيح له المجد : ولكني أقول لكم أيها السامعون : أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم .لقد خطفوا الأب الكاهن سامي عبد الأحد الريس بعد خروجه من داره هو وسيارته وأقتادوه إلى جهةٍ مجهولةٍ ، لقد كان الكاهن متوجهاً إلى بيت الله ليعبد الله ، ولم يكن متوجهاً إلى مقر حزبٍ أو ليقود تظاهرةً أو ليفخخ سيارةً أو ليفجر نفسه في مكانٍ مزدحمٍ ليقتل أكبر عدد ممكن من الناس الأبرياء والأطفال الأعزاء والشيوخ المسنين .
إنَّ هذا التوّجه المتعمد في خطف الكَهَنة الكلدان يقودنا إلى التفكير العميق عن سبب هذا الخطف وما هي مدلولاته ، ولماذا الكَهَنة الكلدان بالذات ، ألا يعلمون بأن الكلدان هم القومية الكبرى بين القوميات المسيحية العراقية ؟ ألا يعلمون بأن الكلدان هم أصل أسم العراق وهويته وحضارته وتراثه ، فبدون الكلدان لا يمكن أن تعرف هوية العراق التاريخية ، وبدون الكلدان لا يمكن أن يكون لك تراث وتاريخ أصيل يمتد آلاف السنين .
قد يكون السبب في ذلك يعود لجملة نقاط منها :
1- لربما هو توجيه رسالة إلى كافة الكهَنة الكلدان لمنعهم من القيام بواجباتهم الدينية والمذهبية تجاه شعبهم وتجاه ربّهم .
2- لكون الكلدان هم كاثوليكيي المذهب ، وهو المذهب القويم الوحيد الذي وقف بوجه المد الصهيوني ، ولم يستطيعوا أختراقه .
3- أو لربما لكي يوهمون الناس الأبرياء بأن ينجرّوا وراء صراعات مذهبية مسيحية حالهم حال أخوتهم المسلمين .
4- لكون القومية الكلدانية هي ذات الثقل الأكبر في العراق ، فهي رسالة لهم لترك وطنهم والتفكير جدياً بالهجرة ، وذلك لإفراغ العراق من شعبه المسيحي .
5- أم هي لتغطية الصراع الطائفي والمذهبي الدائر على قدمٍ وساق بين المسلمين أنفسهم ، وذلك من خلال القتل على الهوية والتهجير القسري وغلق المناطق بحجة تطبيق الشريعة الإسلامية .
6- لقد نبّه الأمين العام للأُمم المتحدة السيد كوفي أنّان بأن العراق قد دخل مرحلة الحرب الأهليةوالطائفية .
7- ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو : ما هو ذنب رجال الدين المسيحيين من كلِّ ما يحدث ؟
إنَّ رَجُل الدين المسيحي يختلف عن زملائه رجال الدين في بقية الأديان الأخرى ، فرَجُل الدين المسيحي محذورٌ عليهِ العمل في السياسة ، أو الأنخراط في الأحزاب السياسية ، أو قيادة التظاهرات أو تشجيع العصيان ضد الدولة ، أو الدخول في تحالفات ... الخ
إنَّ واجب رَجُل الدين المسيحي هو قيادة شعب الله إلى طريق الله ، طريق الخَلاص ، بالموعِظَة الحَسِنة فقط ، وليس له أي سبيل آخر غير الموعظة ، أمَّا أساليب العنف والبطش والتشجيع على القتل ورفض المحبة ورفض المسامحة فهي ليست من صفاته .
بيت الله أي الكنيسة التي هي مقر عمل الكاهن ، بيت يتم فيه مناجاة الله ، التكلم مع الله ، الأختلاء إلى الله ، طلب العفو والمغفرة من الله ، يستعين بالله وسائر القدّيسين وأولياء الله الصالحين .
في بيت الله أي الكنيسة ، يستذكر الكاهن ومعه المؤمنين ، حياة يسوع المسيح وما عاناه من ظًلْمٍ وتعذيبٍ وأضطهاد، يستذكرون جميعاً ما عاناه السيد المسيح من المذلّ’ واما لحقه من الإهانات ، ليس لجُرْمٍ أرتكبه ، بل من أجل خطايانا ومعاصينا .
يستذكر الكاهن في بيت الله أي الكنيسة مع المؤمنين ، كيف تحمّل السيد المسيح الجَلْد والصَلْب لكي يزيل عَنّا خطايانا ويبعد عنّا النار الأبدية وليكون لنا جميعاً الخَلاص ، لجميع بني البشر . المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة . لأنه لم يقل بالمسيحيين المَسَرَّة بل قال لجميع الناس .
في بيت الله أي الكنيسة يُذَكِّر الكاهن جميع المؤمنين بما عاناه القديسين الأوائل وكيف قدّموا أنفسهم وأرواحهم فِداء على مذبح الإيمان الطاهر ، ويستذكرون سويةً سِيَر الشهداء من القدّيسين ويستلهمون منها العِبَر والدروس ، في سبيل الحياة الأبدية ، ليقوي من عزيمتهم ويشدَّ من أزرهم ويُثَبِّتَهُم في الإيمان ، لكي يكون لهم نصيب مع الملائكة والقديسين ، وليواجهوا ربَّهم وهم أطهار نظيفين ولم يكونوا بدماء الغير ملطَّخين .
في بيت الله أي الكنيسة ، يوعِظ الكاهن شعبه المؤمن بأن يلتزم بنظرية المسيح القائلة : أحبوا بعضكم بعضاً .
في بيت الله أي الكنيسة يطلب الكاهن من كل مسيحي أن يفحص ضميره ، وذلك من خلال مراجعة سريعة لتصرفاته خلال الفترة القريبة من ثلاث نواحي :
ألأولى مع الله : هل شكك برحمته ، أم حلف بالزور ، أم لم يبالِ بالصلاة ، أم أنه أستهزأ بالدين ... الخ
الثانية مع نفسه : هل كان ضعيفاً أمام صعوبات الحياة ؟ هل سعى إلى إصلاحِ نفسهِ ؟ هل خالطَ رِفاقاً أشرار ؟ هل كان أنانياً ؟ هل تَكَبَّرَ ؟ ... الخ
الثالثة مع غيره : هل أغضب والداه ؟ هل حقد على أخيه من بني البشر ؟ هل كشفَ عيوب الغير ؟ هل أفترى على الغير ؟ هل تخاصم معه ؟ هل أراد الأنتقام منه ؟ هل حسَدَ غيره ؟ هل كذب ؟ هل سرق ؟ هل أعتدى على الغير سواء بالفكر أو بالقول أو بالفعل أو بالإهمال ؟ ... الخ
في بيت الله يوصينا رَجُل الله أي الكاهن بأن نغفر لمن أساء إلينا تطبيقاً لوصية معلمنا الإلهي حيث علَّمنا أن نقول عندما نُصلّي :
وأغفر لنا خطايانا لأننا نغفر لكل مَنْ يُخطئ إلينا . لوقا 11 : 4
في بيت الله أي الكنيسة يوصينا رَجُل الله أي الكاهن بأن نذهب ونصالح مَن أساءَ إلينا ، أو مَن له علينا شئ :
وإذا كنتَ تُقدمُ قربانك إلى المذبحِ وتذكرتَ هناك أن لأخيكَ شيئاً عليكَ ، فاترك قربانك عند المذبح هناك، واذهب أولاً وصالح أخاكَ ثم تعال وقدّم قربانكَ . متى 5:23
سؤالنا هو : ماذا فعل رَجُل الله أي الكاهن ، من سوء لكي تخطفوه ؟ هل ما ذكرناه أعلاه يستوجب الخطف والقتل والإرهاب ؟
أَ بَعْدَ كُل هذا الجُهد الشاق الذي يبذله الكاهن في سبيل تنشئة وتربية جيل من البشر تربية مسيحية صادقة صالحة مملوءة بحب الله والبشر والوطن ، يستحق منكم أن يخطف ظ أو أن يُهان ويُسجَن ويُمنَع عن تأدية واجباته تجاه الله والبشر ؟
إنّكم أيها ألإخوة بخطفكم الكَهَنة تمنعون تواصل البشر مع الله ، ولكن هل يرضى ذلك قادتكم الدينيين ؟
هل فكّرتم في الإختلاء مع أنفسكم ولو للحظةٍ واحدةٍ ، وأن تجروا عملية فحص للضمير كما شرحناها في اعلاه ؟وهل تستطيعون أن تقيّموا أنفسكم بعد هذا الفحص لتروا إلى أي مستوى وصلتم ؟
هل فكَّر أحدكم بمقدار الأذية التي سبّبها للغير أو لنفسه أو لوالديهِ ؟
الكَهَنة الكلدان هم من خيرة رجال الدين المسيحي في العراق ، وهم نخبة خيّرة من أبناء شعبنا المسيحي الكلداني ، وقادة دينيين لهذا الشعب ، ولم يترك الكَهَنة الكلدان شعبهم وأبناء رعيتهم في المهالك وهربوا إلى حيث المال والجمال والوجه الحسن ، بل أن الكَهَنة الكلدان كانوا وما زالوا مع شعبهم يتألمون لألمه ويعيشون مأساته ويُحرمون مِما حُرم منه من ماء وغذاء وأمانٍ وأطمئنان .
الكَهَنة الكلدان يعيشون مع أبناء رعيتهم في قلب الحدث ومع الحدث ومن الحدث ، يشدون أزرهم ويقوون إيمانهم ويرفعون من معنوياتهم المنهارة ويذكّرونهم بأن الفرج قريب لا ريب ، وأن الله معهم ويعينهم ولن ينساهم . في ضيقي من الأعماق صرختُ يا رب !!!
نداءنا إلى الأخوة الخاطفين أن يعودوا إلى منطق الحق والعدل ، وأن لا يستمعوا إلى نِداء الباطل الذي غايته تدمير أبناء الوطن وتقطيع أواصر الصداقة المسيحية الإسلامية العراقية التي أمتدت لعدة مئات من السنين ولازالت ونتمنى أن تستمر .
المسؤولية تقع الآن على عاتق القيادات الدينية بتوجيه نداء إلى كافة منتسبيهم يحثونهم على أستذكار الله وعمل الخير .
إن نداء الواجب يدعوهم جميعاً للقيام بحملة إعلامية غايتها تثقيف وتنوير عقول من غطّضت الغشاوة عقولهم ، ويتصورون أنهم بخطفهم كاهنٍ هنا أو قتلهم كاهنٍ هناك سوف يستطيعون إشعال نار فتنةٍ من نوعٍ جديد .
لقد عاش المسلمون مع المسيحيين في العراق العظيم ن وتقاسموا الحلو والمر ، فلا يجوز أن تُنسى بمجرد عملٍ طائشٍ قام به نفرٌ ضال جاء من خارج الحدود ليوقع القتال بين أبناء الوطن الواحد .
المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الحكومة المركزية ورئيسها، لذا يجب أن يكون أهلاً لتحمل مسؤولياته الوطنية والأمنية وإلا ليشد الرحال إلى بلاد أجنبيه يحتمي بفيّها بدلاً من التفرج على أقتتال الأخوة ، وأن يفسح المجال لمن هو أكفأ . وبالله المستعان .
نزار ملاخا / الدنمارك – 6/12/2006