أصعب مهنة في العراق !
" وماذا يهم إن كانت هي الرؤيا ؟ "الروائية العراقية لطفية الدليمي
تاريخ العراق: حكاية مستلبة !
لا أبالغ أبدا إن قلت إن أصعب مهنة في العراق ، هي مهنة المؤرخ الذي يدرك من خلال عمله كم غدا تاريخ العراق مستلبا من هذا الطرف أو ذاك ، وما الثقل الذي يتحمله صاحبنا المؤرخ ، ليس بسبب حجم تاريخ العراق بطوله وعرضه وتعقيداته وغرائبه ، بل بسبب كثرة المتعصبين وأهل الغلو والتطرف من العراقيين .. ولا أغالي أبدا إن قلت مقارنا أن جغرافية العراق عصية على أهله بالرغم من انفتاحها على العالم ، ولكن تاريخه ، كان ولم يزل يعّبر بكل ثقله بين عظمته وهشاشته .. أمجاده وهزائمه عن حكاية مستلبة على أيدي العراقيين أنفسهم .. وطن عريق بلا مواطنين حقيقيين ينسجمون مع بعضهم الآخر على الحلو والمر.. وبلاد رافدينية وجدت نفسها في مركزية العالم ، ولكن دوما ما تصيب التشظيات أهلها ، فيزدادون تشظيا وفرقة وعزلة ! كل المهن في العراق تمتد بمرونتها أو تنتهي بمصاعبها ، إلا مهنة المؤرخ حيث يبقى صاحبها يناضل ، ولوحده طويلا أمام عالم صعب جدا مأهول بالغلو والرعب والعنف ، أو بالمنافقين والانتهازيين والمتلونين مع كل العهود .. وان بحث عن غاياتهم ، وجدهم هم أنفسهم لا يعرفون ماذا يريدون ! ويبدو أن الطيبين من العراقيين ، أما سكتوا وآثروا الصمت ، أو لاذوا بالفرار من هول المحنة هنا أو اتقاء الفتنة هناك .
المؤرخ يدرك الجزئيات ولا يحكي عموميات
إن أصعب مهنة اليوم أن تكون مؤرخا للعراق ، فأنت ملزم بسند الوثائق ، وقول الحقائق مهما كانت قوتها أو درجة سخونتها ، كما أعرف ، والآخرون لا يعرفون غير ترتيل ما كانوا قد سمعوه أو يسمعونه اليوم أو ما يشددون عليه .. مؤرخ العراق اليوم يمشي على جمر موقد بالنار ووقودها الأحجار .. أنه اليوم مستلب هو الآخر ، فإما أن يرضي هذا على حساب ذاك ، أو يريدونه أن يسكت ! مؤرخ العراق اليوم لا يريدونه يتكلم بالجزئيات ، فالأجزاء هي التي تفصح عن الحقائق وتفضح المستورات ، وهم لا يعرفونها كونهم لم يطلعوا عليها .. وان سمعوها يشدهون كونهم لم يسمعوا بها .. وأين يسمعون بها ، أو يقرأونها إن كانت في طيات الماضي ، أو مسجلة في الدفاتر الرسمية والتقارير الحكومية ، أو محفورة في الذاكرة الوطنية ؟ مؤرخ العراق الجاد ، اليوم ، إما أن يكون منحازا كي يرقص على حلبة هذا ، ويتهم من قبل ذاك ، أو أن يعاني كثيرا من المتطفلين على شغلته .. المؤرخ العراقي إما أن يكون مع .. أو أن يكون ضد .. وفي كليهما هو الخاسر الأكبر .. ولكن أن يكون مع الحقائق بحلوها ومرّها ، فانه سيدفع ثمنا غاليا من كرامته ، فكّل يريد أن يسجل الأمجاد باسمه ، أو باسم طائفته ، أو تحت يافطته ، وهم لا يريدون كشف الحقائق ، بل يريدون تحريفها لمصلحتهم فقط ، كل لما يقبله ويرتضيه على حساب شرف المهنة .. رحم الله العلامة ابن خلدون عندما افتتح مقدمته الشهيرة قائلا : " اعلم أن التاريخ فن عزيز المذهب ، شريف الغاية .. " . لقد أصبح تاريخ العراق يباع بالمزاد العلني ، فمن يمتلك القوة والسلطة والنفوذ والجاه احتكره لنفسه .. ومن ليس له إلا قلمه وشرفه وكرامته وعزّته .. فانه يفتح عليه أعشاش الدبابير ..
تاريخ العراق لا يخلو من القراصنة !
العراق سفينة تمخر في بحر الظلمات منذ زمن بعيد ، ولا تهدأ الأحوال حتى تلاطمها الأمواج ، وتكاد تغرق بعد أن تاهت منذ زمن طويل .. هذا يقذفها لذاك ، وذاك يلعنها لعنة أبدية .. وتلك تجعلها تائهة وتخشى أن تبوح بأسرارها .. أما الآخرون ، فهم قد تخندقوا في خنادقهم ، وكل خندق لا يعرف إلا استلاب الأمجاد له ولجماعاته ، وكأنه يقول إنني وحدي محتكر لهذا التاريخ كما هو احتكاري للسلطة والحكم .. الآخرون فضلوا السكوت أو تناسوا أن لديهم ما يمكن أن يتحدثوا به .. وثمة من يقف عند نقاط معينة وينكر وجود نقاط أخرى .. ليس لأن العراق قد انشطر على نفسه مرات ومرات ، بل لأن سكانه ينكر احدهم وجود الآخر .. انه كالجسد الذي امتلأ بالأرواح الشريرة التي لا يهمها إلا خباياها منذ أزمان وأزمان.. وطن فاقد سبيله بين الأمواج .. وأهله قد فقدوا الرؤيا له وطنا للجميع .. إنهم لا يريدونه وطنا للجميع ، بل يريدونه محتكر لكل قسم أو قبيلة أو عشيرة أو طائفة أو قومية أو جماعة منهم ، فكيف بتاريخه الذي أمسى يتجاذبه كل إلى كهفه المظلم . سفينة تأوي في جوفها كل الناس الطيبين ورثة الآباء والأجداد .. ويقودها من حين إلى حين ثلة من القراصنة !
الامجاد المنهوبة
تاريخ العراق ليس مجموعة حكايات عامة يتداولها الناس في المقاهي أو على الأرصفة ، بل هو جسد مليء بالأخاديد والتلافيف والأسرار .. تاريخ العراق ليس مجرد " وجهات نظر" يتزعمها هذا ليصفق له ذاك ، بل هو صفحة صعبة القراءة مذ وجدت منذ الأزل .. تاريخ العراق لم يصنعه حزب ، ولا مذهب ، ولا زعيم بطل ، ولا مجموعة مرتزقة ، ولا عصابات مرتزقة .. بل هو مدينة عظيمة لا يمكن لأحد أن يجوس في درابينها وأزقتها إلا من ثقلت موازينه .. وليس تاريخ العراق كله حدائق وأزهار وجنان تأخذ الألباب ، بل فيه الأشواك والمقاتل والغزوات والمجازر والمسالخ والخرائب والنائحات .. تاريخ العراق لا يمكنه أن يكون ترديد أمجاد ، أما المثالب فمسكوت عنها .. تاريخ العراق لا يمكنه أن يروى على السن العامة ، وان عرضت الحقائق المخفية هربوا منها أو ارتعشوا بسببها .. نعم ، أصبح تاريخ العراق يحكيه كل من زاويته ، لينكر على الآخر تخصصه وخبراته ومعلوماته .. تاريخ العراق ، أصبح نهبا مشاعا بلا أي حقائق ولا أية تغطية موضوعية ولا مقارنات منهجية .. إن كل شعوب الدنيا تعتز برموزها الذين كانت لهم أدوارهم الثرية في صناعة تاريخ أوطانها ، إلا العراقيين ، فلقد تنازعوا منذ مئات السنين من تكون رموزهم حقا .. وتصارعوا وكتبت الكتب عن مقاتلهم .. رجال ونسوة خدموا العراق على امتداد تاريخ حضاري خصب ، وان ذكروا ، فلا يهتم بهم أحد ولا تجد إجماعا عراقيا عليهم !
في خضم ملهاة العراقيين
إن كتبت تاريخا أمميا هاجمك المثاليون والسلفيون .. وان كتبت تاريخا قوميا خذلك الشيوعيون .. وان كتبت تاريخا وطنيا هاجمك القوميون .. وان تعاطفت مع بكائيات الشيعة وتاريخ آلامهم اتهمك أبناء السّنة بتهم خطيرة ! وان كتبت عن أمجاد هارون الرشيد أو صلاح الدين تلقيت ما لا يسرك من أبناء الشيعة ! وان تعاطفت مع محنة ابن حنبل اتهموك بالوهابية ! وان قلت إن ثورة العشرين ثورة وطنية قالوا : ويحك إنها شيعية ! وان قلت أن للزعيم قاسم أخطاؤه اتهموك بالبعثية ! وان قلت أن للبعثيين خطاياهم أصبحت عميلا للأجنبي من قبلهم ! وان كتبت تاريخا عربيا للعراق غدوت شوفينيا ! وان أرخت هجمات إيران الصفويين أصبحت انكشاريا من العثمانيين ! وان فضحت استبداد الولاة العثمانيين أصبحت ضد الإسلام والمسلمين ! وان تعاطفت مع تاريخ الأكراد أمسيت من المستكردين ، وان حكيت عن عروبة الموصل جعلك الأكراد من الشوفينيين .. إن قلت أن الفرهود ضد ممتلكات اليهود العراقيين .. عملية لا أخلاقية ، أصبحت من غير الوطنيين .. إن تكلمت عن مكابدات ( الأقليات ) عبر تاريخ طويل ، اتهموك بالانحياز إلى غير مكونات العراق الرئيسية الجديدة ! وهكذا ، سلسلة غريبة وكبيرة من الاتهامات المتبادلة التي لا يعاني منها الا من كانت مهنته مؤرخا للعراق والعراقيين .
تاريخ وطني موحد ام تاريخ متنازع عليه ؟
تاريخ العراق يتلون بمختلف الألوان السياسية ، فمن لم يلونه سياسيا حسب لون المرحلة أو العهد أو الطائفة أو القومية أو الدين .. يصبح في عداد المارقين أو الجاهلين .. تاريخ العراق لا يكتب بحرية ولا بأمانة ولا بموضوعية ولا بمنهجية حيادية كونه ماض مثقل بالأحداث والأسماء والأمجاد والمعطيات المتباينة .. ولكنه مضمخ أيضا بالقساوة والآلام التي صنعتها السياسات أو الغزاة ، وما حل بالبلاد من نزاعات وانقسامات .. انه بيت عتيق يتناحر فيه أبناؤه ليس على موجوداته حسب ، بل حتى على رموزه .. تاريخ العراق بحاجة إلى قراءات واعية ونقدية وذكية ومحايدة وبأعلى درجات الامانة .. فإذا كان واقعنا قد رضخ للرعب والقهر والتخلف والتخندق الحزبي والطائفي والشوفيني على امتداد عهود وعهود .. فان الانقسامات طالت كل الأبعاد .. بدت الرؤية منعدمة في قلب إعصار هائج ، ومن يثير هذا الإعصار لا يهمّه إن سحق كل العراق بمن فيه ! وكما كان السابقون يقولون : جئنا لنبقى .. يردد اللاحقون : جئنا لنحكم ! من هم أولئك الذين حكموا ؟ ومن هم هؤلاء الذين يحكمون ؟ أليسوا عراقيين ؟ الجواب عند كليهما : نحن العراقيين ولا غيرنا ! ونحن الذين لنا أمجادنا دون غيرنا ! ونحن الذين أتينا بها لوحدنا دون غيرنا ! لقد أصبح الكل يفتك بالزمن .. تجدهم لا يفكرون بالعراق ، بقدر ما يفكرون ببعضهم الآخر من العراقيين .. لا يقبلون سماع الحقائق أبدا كونهم عاشوا بين ركام من التناقضات في حياتهم .. إن العراقي أصبح لا يقبل العراقي الآخر ، فهو يتسمى بـ " عراقي " ، لكنه لا يتنازل عن نزعته اّنا كانت إزاء وطنيته التي يعتبرها له وحده من دون الآخرين ، فما داموا يرفضونه اليوم ، فهو مرفوض حتى من صنع الأمجاد !
مؤرخ العراق : مهنة بين محنة وفتنة
إن العراقيين من أصعب الناس قبولا للرأي الآخر ، ومهما تشدقوا بالديمقراطية ، فهم لا يدركون عشر معشارها .. هذا مفهوم ومعلوم ولا يقبل الجدل ، ولكن كثرت جموع المتعصبين فيه اليوم الذين يتجاوزون عليك ، وعلى رجال المعرفة دون أن يحسبوا أنهم أمام ( علماء ) .. ليس من اجل مبدأ أو قيم ، بل من اجل مصالح معينة فئوية أو جهوية أو طائفية أو قومية أو سياسية.. وسكت الحقيقيون من المؤرخين العراقيين عن إثارة أهم الموضوعات المثيرة للجدل منذ زمن طويل بفعل الخوف من السلطة أو التزلف لها ! إن توظيف التاريخ غير لي أعناقه ، إذ يقوم بذلك نفر باستطاعته أن يقفز بمهارة عالية بين كل العهود .. وينافق بإمكانية عالية بين هذا الزمن أو ذاك .. ويتلون بين كل الألوان .. ليغدو ليس من أصعبهم قبولا للحقائق ، وليس من أقواهم ارتباطا بالعراق ، ولكم من أكثرهم عداء لغيره من العراقيين ، وقلما تجد اليوم من يرى في شعبه دمه ولحمه ! أو في أبناء وطنه لحمته وسداه ! إن هذا الشرخ ينبغي علاجه ، وان هذا الجرح ينبغي رتقه مهما كانت الأحوال ، ولتكن للعراقيين الخيرين مهما كان منابتهم وأديانهم ومذاهبهم وقومياتهم .. أنفاسهم الطويلة فهم أصحاب مصير مشترك ، ولا يمكنهم أن يعيشوا إلى الأبد ، واحدهم ينحر الآخر ، وينفي وجوده ، ويهمش تاريخه المشترك ويرى في نفسه البراءة ويرى في خصمه الشرور .. إن العراقيين من أروع أنواع البشر لو تخلصوا قليلا من تعصباتهم وغلوهم وانقساماتهم .. فهل يمكنهم أن يتغيّروا في يوم من الأيام ؟ نعم ، عندما يزرعوا في قلوبهم بذور محبة ورسائل عشق وصحائف صدق يراد بها حق ولا يراد بها باطل .
نشرت مختزلة في الف ياء الزمان ، 18 اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com