أعمدة الحكم عندالامام علي (ع)
لمعرفة ملامح السياسات الاقتصادية العامة التي انتهجها امير المؤمنين (ع) خلال فترة تولّيه للسلطة، ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار الملاحظة المهمة التالية، وهي:
ان كل السياسات في اي حكم تنبع من طبيعة النظام السياسي الحاكم، فالسياسات الاقتصادية والتعليمية والبيئية والصحية والثقافية والإعلامية وغيرها، هي نتاج النظام السياسي الحاكم، ولذلك لا يمكن ان نفهم الاقتصاد في معزل عن طبيعة وأسس وأركان السياسة التي يتبعها النظام او السلطة في اي بلد من البلدان، وكذا سائر السياسات.
ولذلك، فعندما نريد ان نقرا ملامح السياسات الاقتصادية للإمام علي (ع) فان علينا ان نطالع الأسس والمقومات التي اعتمدها في النظام السياسي الذي تبنّاه او على الأقل الذي أرسى بعض ملامحه خلال سني حكمه، الا وهي:
اولا: الحقوق والواجبات، فالحاكم لا يمتلك شيئا ابدا، وإنما هو موظف عند الرعية، ولذلك لا يوجد في قاموس المفاهيم عند الامام شيء اسمه (مكرمة) أبدا، وإنما هي حقوق للرعية على الحاكم، واجبه إدارتها بشكل سليم.
ثانيا: المساواة، خاصة في فرص الخير، وان الحاكم لا ياخذ أكثر من غيره كما ان عشيرته او ابنائه او أزواج بناته ليس لهم اية امتيازات إضافية تختلف عن الآخرين ابدا.
ثالثا: الكرامة، فالإنسان له حق العيش بكرامة بغض النظر عن دينه وجنسه وقوميته ومستواه الاجتماعي او اي شيء اخر، فلا زال هو مواطن في الدولة فان من حقه على الحاكم ان يعيش بكرامة، ولعل في قصة العجوز المسيحي الذي صادفه الامام مرميا على الرصيف ليلتفت الى وزير ماليته (ابو بصير) فيسأله مستنكرا {ما هذا؟} فلما أجابه الوزير: انه عجوز نصراني يا امير المؤمنين، رد عليه الامام مستنكرا مرة اخرى وبلهجة حازمة: لم اسالك عن دينه، وإنما سألتك عن الحالة، ثم أمره ان يلحقه ببيت المال ويصرف له ما يؤمّن له حياة كريمة.
رابعا: العدل في ادق الامور، ففي رسالة الى بعض عمّاله، يقول عليه السلام {وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، وَالاِْشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ}.
ولقد عزل الامام أبا الأسود الدؤلي عن القضاء، لأنّ صوته يعلو قليلا صوت الخصمين!! من دون خيانة او جناية.
خامسا: اعتماد معايير العلم والخبرة والنزاهة والنجاح في التوظيف للشأن العام، فنراه كان يحدد المعايير المطلوبة لكل وظيفة أعماله عندما يبعثهم الى الأمصار، كما هو الحال مع مالك الأشتر (رض) عندما ولاه مصر، فحدد في عهده له معايير التوظيف والاستعمال في الوزراء والمستشارين وعمّال الخراج وهكذا، فكتب له يقول {ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى، فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع} ويضيف {ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ}.
سادسا: الشفافية والصراحة والثقة المتبادلة بين الحاكم والرعية، فيقول في عهده الآنف الذكر {وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً، فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ فِيه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ }.
ان الامام عليه السلام اعتمد هذه الملامح للتاسيس للنظام السياسي، وان كل السياسات الاخرى انبثقت عنها، ولعل من ابرزها السياسات الاقتصادية، التي لو كانت قد استمرت طبق الخطة التي رسمها الامام لقضى على الطبقية الاقتصادية التي تضخمت في زمن الخليفة الثالث بسبب الفساد المالي والإداري المهول الذي ابتُليت به الدولة وقتها، ولكان الامام قد نجح في القضاء على الفقر، الذي انتشر بشكل واسع بسبب السياسات الاقتصادية المنحرفة التي انتهجها الحكم، كونه اعتمد على نظام سياسي فاشل.
ولقد كان الامام واعيا جدا عندما قال {كاد الفقر ان يكون كفرا} او قوله {ما رايت نعمة موفورة الا وبجانبها حق مضيّع}.
ان من يروم تغيير المنهج الاقتصادي في بلد من البلدان، فان عليه ان يغيّر النظام السياسي وطبيعة الحكم في البلاد، لان من يحاول تغيير الاقتصاد من دون التفكير بتغيير السياسة فهو واهم، ولذلك نرى ان الأنظمة في جل البلاد العربية والإسلامية تتخبط في سياساتها الاقتصادية، لانها تريد تغييرها من دون التفكير في اصل المشكلة، الا وهي الحكم وطريقته والنظام السياسي، ولذلك ترى بلداننا في فوضى اقتصادية، فيها الفقر تتصاعد نسبته على الرغم مما تمتلك من نعم عظيمة وهبها الله تعالى لها، فكيف يريدون تغيير الواقع الاقتصادي اذا كان الحاكم ينظر الى البلاد وكأنها إرث من ابيه او من أمه؟ وكيف يمكن القضاء على الفقر اذا كان زوج بنت الحاكم يتصرف بأموال الدولة وكأنها ملك الذين خلّفوه؟ وكيف سنحقق تكافؤ الفرص اذا كانت عشيرة الحاكم او محازبيه والإمعات التي تحيط به تستحوذ عليها بالكامل؟ وكيف سنضع الرجل المناسب في المكان المناسب اذا كان المعيار الاول والأخير في التوظيف والتعيين هو الولاء للحاكم او لاحد أبوابه؟.
ان العراق الجديد لا يُستثنى من كل هذا، على الرغم من ان الفرصة امام العراقيين كبيرة اذا غيروا عقلياتهم وبداوا يفكرون بطريقة جديدة تعتمد المقومات التي رسم معالمها الامام امير المؤمنين عليه السلام.
مختصر حديث على الهواء مباشرة لقناة الامام
الحسين (ع) الفضائية أمس (٢ حزيران ٢٠١٤)
٣ حزيران ٢٠١٤
للتواصل:
E-mail: nhaidar@hotmail. com
Face Book: Nazar Haidar
WhatsApp & Viber: + 1 (804) 837-3920