ألقوش تنادي , أين أنتم يا أبنائي, هل ستجعلوا مني ماردين ثانيه ؟
عن ألقوش وجذورها الضاربه في أعماق التاريخ قيل الكثير, و بأسفارها و مآثر أجيالها تزخر الذاكره وتزدان صفحات الكتب , عرف عن ابنائها توارثهم مفخرة التحدي وعشق مشــّقة مقارعة الظلم ونبذ الإستبداد فقط بسبب حبهم للحياة بعز و البقاء كرماء على أرض الآباء.مثلما يخبرنا التاريخ عن قلاع ٍ طاحت هنا, يخبرنا ايضا عن أخرى شيدت على أنقاض من تطأطأت رؤوسهم وأنحنت قاماتهم أمام سفاهة الزمن و سطوة المعتدي ,بينما والحديث عن القوش, ظلــّت بإصرارابنائها وبأصالة إرثها شامخة كالنسر, فارشة ً جناحيها, لم تلويها موجات العواتي و لم ترهبها عنجهية الطامعين أيـاّ كانت منابعها ,هكذا عرف العراقيون القوش وأهلها, وهكذا كان أمل المظلومين معقودا عليها طيلة العقود العجاف .
بسبب تلك العجاف التي سبــّبتها ثقافات التفرد و التوسع العنصريه و سياسات الأنظمة الاستبدادية طفحت هذه البلدة بصمود أبنائها وعنادهم المعروف,ثم توالت تضحياتهم وتراكمت ملاحمهم ومآثرهم لتشكــّل سجلا ً ثخينا حافلا بثخن جراحاتها النازفة وويلات الإظطهادات المأسويه و أصناف الحرمان المتنوعه , فشهداؤها بدمائهم سقوا بذرات بدايات النضال, ومقاومتهم لحملات الإعتقالات و الإعدامات والتعذيب تشهد لها السجون و الزنزانات وبها ضربت الأمثال في صمودهم وتواصلهم ,أما حرمان الناس من بناء مسكن صغير او أنشاء مشفى بكم سرير او تشييد مصنع ينعشها او تسييج بستان يزينها فكان ذلك عقاب الذين خارج السجون , ناهيك عن آلاف المهجـّرين والمغتربين الذين شتتتهم الظروف وإظطرتهم ملاحقات السلطات الحاكمه وسياساتها الى إختيار منافي مغارب الأرض ومشارقها ملاذا لها .
لو كان التشتت والضياع قدر كل ذي نفس واجهت الظلم بإباء وعز وصمدت أمام أبشع الازمات وتحملت بصبرها شتى الويلات , ففي خليقة الكون خطأ لا يصححه إلا الذي صنعه, أما إن كنا نتفق ونحن مجمعون فعلا على أن نفق تلك العذابات والمعاناة قد طالت قساوته , فلابد من نهاية لهذا النفق , ولابد للظلام الدامس ان ينجلي, إذن دعونا نتفق أو نفترض ان نهاية النفق كما يبدو قد دنت و ها هي طلائع شعاعات خيوط الضوء وبوادر الامل تتبين , ماذا بعد إذن يا ايها الكرام أينما إعتمرتم؟سؤال يتوجب علينا ان نجيب عليه قبل أن نتغنى بحبنا لألقوش و قبل ان نحكي عن مفخرة تعلقنا بجذورنا و شوقنا اللاهف لأعشاشنا.
لقد ســلّمَنا الاباء أمانة ً كانت كالوديعة محفوظه في حدقات عيونهم رغم إشتداد الأزمات وتكالب المطامع , نطروا بأنفاسهم هواءها كي ينهل الابناء والأحفاد شهقات نقية من نسائمها, وحرثوا بعرق جبينهم وسواعدهم السمر تربتها كي ينعم الأحفاد بزادها الغني والنظيف, وسهروا الليالي كي ينام الأبناء والأحفاد نومة العافيه و الهنا , ولكن السؤال المؤرق يبقى: أين هم هؤلاءالأحفاد الآن؟
عقود مريره توالت ونحن نغادر أعشاشنا الى المجهول حاملين معنا أهزوجة مدعاة حبنا الخجول للعش الذي فيه ترعرعنا , حبٌ بات باهت الطعم وعديم النكهة, خالي من القدسية مادام تنقصه المصداقية , ومتى يكون هذا الحب صادقا يا ترى؟ حتما عندما يستجيب الحبيب لنداء الحبيبه في ضائقتها, تتألق المصداقية وتتلاشى الحواجز وتلتحم الأرواح قبل الأجساد .
ألقوش التي وصفها القاصي والداني بالقلعةالأبية تناشد أبناءها اليوم وتدعوهم الى بذل الغالي من أجل حفظ هذه الأمانة وتجميل طالعها , القوش التي منحتنا شارات الفخر والعز تطالب أولا : مسؤولي الإدارة المحلييين في( القضاء والناحيه) أن يتحملوا مسؤولياتهم الملقاة على عاتقهم ويرتبوا اوضاعهم و علاقاتهم الداخلية الرسمية وغير الرسميه فيما بينهم ونبذ خلافاتهم الشخصيه من أجل عيون أهل المدينة ومن أجل إيجاد الحلول البناءه لإيقاف ظاهرة الهجرة المخيفه , إذن مطلوب من مسؤولينا المحليين بالذات بذل اقصى الجهود من أجل تطوير البلدة وتحقيق خدمة إحتياجات الناس وليس إستغلالها لمصالحهم الشخصية ( والحليم تكفيه الأشاره).
أما نحن المغتربون المرفهون,فمدينتنا اليوم بأمس الحاجةالى دورنا المساند لها أكثر من أي وقت مضى, والكلام موجه الى الطيبين الميسورين في بلدان الغرب كي يستفيقوا وينتبهوا الى ان وقت إيفاء الذمم لجمائل مرضعتهم الوفيه قد حان,ولان الخدمات في البلده جدا متواضعه إن لم نقل شبه منعدمه والبطاله متفشيه والأسباب عديده لا مجال لذكرها , مما يتطلب من أهلنا في الخارج أن يشمروا السواعد ويستنهضوا الهمم ويبادروا الى تشكيل لجان وجمعيات لإستثمارأموالهم والإستفادة من خبراتهم في تطوير اوضاع بلدتهم المحرومة و بناء مشاريع متواضعه توفر فرص عمل و تخلق عوامل استقرار للناس وتحسين حالتهم المعاشية .
وأنا في طريقي من زاخو الى أسطنبول,إظطررت المبيت في مدينة ماردين (قلعة ماردين) جنوب شرق تركيه, يا ليتني لم أظطر إليها, ساعات قضيتها اتجول في شوارعها وأزقتها وانا منبهر ببنيان تلك البيوت القديمه التي بدت وكأنها قلاع متلاصقه, لكنها مع الأسف خاليه من أهلها الاصليين بعد ان هجروها , لا أخفيكم سرا , بينما كنت سارحا في تلك الاقواس والبنايات الحصينه تذكرت بعض مفاصل الأحاديث التي دارت قبل أيام مع أصدقاء طيبين في القوش , وفجأة داهمني هاجس مرعب ظل يراودني طيلة فترة بقائي في المدينه ماردين, هاجس تخيلت فيه نفسي وكأني في عام 2025 أتجول مكتئبا مكسورا في أزقة القوش لارى فيها(لاقدر الله) ما رأيته في ماردين , أعوذ بالله , عسا الهاجس كان مكرا ً من عمائل الشيطان, لكن الهاجس لم يأت من فراغ .
كل عام وأنتم بخيــر
الوطن والشعب من وراء القصد