ألوانكِ تحلِّقُ فوقَ أحلامِ الصَّباح
وُلِدَ هذا النصّ من وحي مشاهدتي معرض الفنّانة التشكيلية نوال الغانم)نهضْتُ صبيحةَ هذا اليوم من أعماقِ حلمٍ متدفّق من أجنحة غيمة، تنتظرني لوحاتٌ مغموسة ببهاءِ مرحِ الطفولة، لوحاتٌ مستنبتة من ولع ملكةِ نحلٍ متعطّشة لرحيق الأزاهير، رسمَتْها فنانة معفّرة بأحزان غائرة في تجاعيد ذَّاكرة محفوفة بالدموع، أرادَتْ أن تطمس أحزانها عبر ألوان متدفِّقة من اخضرار حنين الغابات، فنانة معجونة بدفءِ الشرق وشغف الشرق وتوهُّجات الشرق، فنانة منبعثة من انشراخات أحلام مشتعلة ليل نهار، تاهَتِ الأحلامُ بين ضفائر عاشقة ضلّت طريقها في خضمِّ دخانٍ متصاعد من أزقَّةِ مدينة مرتكزة على توقِ أنكيدو وهو يبحث عن عشبة مبرعمة في سفينة الخلاص، خلاصنا من جحيم زمنٍ مجصَّصٍ بسماكات القير، كيف سننجو من هولِ الاسوداد، اسودادٌ على مدى جغرافية الروح، على مدى ضياء نجمة الصباح وهي ترنو إلى حدائق معلّقة في بوحِ السَّماء، حضارة مالت أعناقها نحو ألوانٍ لائذة من أنيابِ الحيتان، من قباحات هذا الزمان، آمالٌ طافحة من بوح الشعراء وهم ينتظرون ولادة لوحاتٍ معبَّقة بأريج الياسمين، لا نملكُ في جعبتنا غير أحلامنا المتلألئة فوقَ وهجِ الرُّوح، وحده الشعر يمحقُ ضجري من جلافةِ هذا الزمان، وحدها الموسيقى وانغام اللَّوحات تزرع بهجةً وأملاً في تجلياتِ بوحِ القصيدة، تناثرت الألوان فوقَ خدودِ وردة غافية فوق خيوط الشفق.
وقفَ قلبُكِ مبهوراً في فراشةٍ مسترخية على بتلاتِ زهرةٍ مكسوّة بندى الصباح، فهرعْتِ تلملمينَ أفراحكِ الهاربة من جحيم النيران المتأجّجة على مساحاتِ الروح، تنثرينها عبر ألوانكِ المنسابة من أمانٍ متماهٍ مع تجلِّياتِ الخيال، لعلّكِ تخفِّفين قليلاً أو كثيراً من أنين الجراح المتفاقمة فوق صدغٍ وطنٍ معشّّشٍ بأحزان الدُّنيا، تبدِّدُ ألوانُكِ جزءاً من لظى الدِّماء، من قباحةِ رؤى مدبّبة كأنيابِ الذئاب، تولد لوحاتُكِ من أعماقِ حلمٍ معرَّشٍ باخضرارِ شموخِ النخيل، هل كنتِ يوماً نخلةً شامخة على ضفافِ دجلة، أم نغمة عشقٍ متدفِّقة من شفاهِ غيمة حبلى بنقاوةِ المطر، لهذا أراكِ تزرعين مرحَ الألوان فوقَ شوقِ الأزقة إلى براءةِ الأطفال؟!
تنسابُ ألوانكِ كأنها نسغ حروف معرَّشة في خفايا بوحِ القصيدة، انّي أقرأ تواشيح فرحٍ متماهٍ مع بسمة الطفولة، اصفرارٌ متراقص فوق جفونِ الليل، يتعانقُ مع خطوطٍ بنّية مرتكزة على أجنحة طيورٍ هجرَتْ بعيداً، تبحث عن أغصانِ أمانٍ تبني فوقها أعشاشاً، بعيداً عن الحماقات المفخّخة في قلوبِ المدائن، بعيداً عن جنونِ هذا الزَّمان، بعيداً عن ألسنةِ النيران المتاخمة لفراخِ العصافير.
تنبعث ألوانُكِ مثل شغفِ الغيوم إلى عناقِ المروج، ترعرَعَتْ مروج الرُّوح فوقَ قبّة الأحلام، فترعرَعَتْ معها أغصان اللوز فأزهرت الأغصان براعم ملقَّحة بعبير النَّارنج!
طفلةٌ يجاورها طفلٌ، يبحثانِ عن طريقٍ يقودهما إلى معراجِ الأمان، تخلخلت أجنحة الأمّهات وهنَّ يبحثْنَ عن شواطئ الأمان، يبحثْنَ عن مزارٍ يزرعُ أملاً في القلوب، ويمحقُ ما تبقّى من جنونِ الصَّولجان!
تولدُ لوحاتُكِ مثلَ انسيابِ الدموع، تنفرشُ الألوان فوقَ غمامِ الرُّوح، فتسطع سنابل القلب ورعاً متوهّجاً كهودجِ أميرة تعبرُ هدوء الغابات، مطرٌ شفيف يهطلُ فوقَ أسراب اليمام، أحلامنا تشبه تناغماتِ لوحة تشهق مثل عاشقة مسترخية فوق أسرارِ ليلٍ حنون!
ترفرفُ ألوانُكِ كأنها أجنحةُ طيورٍ تحلِّقُ في أحلام الصَّباح، ثم تنامُ بينَ رفرفاتِ جموحِ القصيدة؟!
تنامُ القصيدة باطمئنانٍ بينَ مهجةِ الألوان، فتنمو فوقَ خدودِ القلبِ بسمة فرحٍ مندلقة من حفاوة النجوم، هل كنتِ يوماً ضياء نجمة ساطعة فوقِ أمواجِ البحار؟! تهفو ألوانُكِ إلى الطلِّ المتناثر في نضارةِ زرقةِ السَّماء!
ترسمين شعراً مقمّطاً بورعِ المحبَّة، محبَّة الوئام بين الكائنات، أي كائنٍ هذا الذي أراه؟ تسيل الدماء نحو بوّابات الجنون، جنون بعض البشر من تفاقمِ جشاعةِ الجشاعات. ماتََتْ حدائق الرُّوح قبل أن ترى النُّور. ماتَتِ الأحلامُ قبلَ أن تعانقَ انبعاثِ غيمة. لظى على مدى أحزانِ الفقراء، على مدى أحزانِ العشاق، على مدى فداحةِ الكثير من ايديولوجيات هذا الزّمان. ماتَت القيم عند أوَّل معبرٍ نحوَ جفونِ السماء! رؤى في مهبِّ الوباء، رياءٌ لا يضاهيه رياء!
وحده الشِّعر يموج شموخاً، فيه أبهى أنواع الوفاء، فيه أنقى ألوانِ الصفاء، تعالوا يا شعراء هذا العالم نزرع على وجه الدنيا أسرار القصيدة لعلها تنمو وتزهر لوناً بديعاً، حباً شامخاً على جبينِ البقاء!
أيّتها المضمّخة بورعِ الياسمين، رأيتكِ منذ زمنٍ بعيد، كنتِ منغمسة في وهجِ الألوان غير مكترثة لحنين الألوان إلى فضاءات القصيدة، رأيتكِ قبل أن ترفرفي في أحضان النُّور، قبل أن ترسمي مهاميز بوح القصيدة، قبل أن يتراقص قلبكِ على أجيجِ نارٍ متصالبة مع خشخشاتِ الرِّيح.
تهفو ألوانكِ إلى نسيم اللَّيل، تحنُّ إلى أريجِ الأزاهير كأنها صلاة ناسكِ يتدفَّقُ عناقاً منساباً مع هفهفات حبرِ القصيدة، ألوانُكِ تروي عطش القصيدة، أحلِّق بانتعاشٍ عميق عبر تجليات بوح الحرف، كأني أنقشُ حرفي على ايقاعِ همهماتِ مطرٍ ناعم يتهاطلُ فوقَ نوافذ الرُّوح!
ترقصُ الألوانُ شوقاً إلى ظلال قلبٍ مقمَّطٍ بضياءِ ليلةٍ قمراء. هل راودكِ يوماً أن ترسمي لوحاتِكِ على ضوءِ شموعِ الرُّوح وهي ترنو إلى وهجِ الشَّمس في أوجِ حبورِ النسيم وهو يعانقُ أزاهيرَ مزدانة بابتهالاتِ السماء؟!
لماذا لا نرقص كلما يبزغ الصباح على أغاني فيروز وهي ترسم لنا معالم العبور في معراج السماء، حيث صفاء زرقة السماء تنتظر ولادات لوحة على إيقاع حلم مفتوح على انتشاء أغصانِ الروح، لماذا تفرُّ أحلامنا بعيداً عن أغصانِ وردةٍ مبرعمة في مآقي اللَّيل؟!
تعالي أرسمُكِ زهرة معبَّقة فوقَ أشواق غيمة متعطّشة للسنابل، تشبهين انسياب اللون فوق ينابيع بوح الرُّوح في أوجِ انعتاقها من جراحِ الحياة وفي أوجِ تجلياتها فوقَ سديمِ البساتين!
تلوذ ألوانك بعيداً عن سيوفِ المجانين، سيوفٌ مستلَّة فوق رقابِ الكهولة، كم من الشيوخ ماتوا من شراهة الصولجان، ماتوا في أعماق الصحارى هرباً من مجازرِ السلطان، ألوانكُ تنمو مثل أجنحة طائر، تحلِّق فوقَ عتمةِ الزنازين، تمحقُ الشرارات المتدفِّقة من غضبِ السجُّان، حلمٌ مبلَّلٌ بالأمل ينساب في تجاويف ألوانكِ المسترخية فوقَ أكتافِ المساءاتِ الحنونة، هل تدمعُ عيناكِ كلما يجرفكِ الحنين إلى مرابع الصبا، أم أنكِ تائهة في خضمِّ الألوان بحثاً عن هودجٍ يتهادى على إيقاعِ أمواجِ الرُّوح؟! روحُنا معتَّقة بالأنين!
تتأمَّلينَ قلبَكِ فيغدو كأنه شجرة متوهِّجة بأزاهير بنفسجيَّة، يتخلَّلُها احمرار شفيف، وخطوط ناعمة كأنها رذاذات مطر ناعم تتهاطل في بداية الربيع كي تغسل الغبار العالق في أغصان القلب، تبزغ خطوطٌ ذهبيّة كأنها بقايا ذكريات محفورة على شواطئ الحنين، تولد ألوانُكِ من شغفِ الطفولة المترعرعة على أرضٍ بكر، تنضح بموسيقى منبعثة من ثغورِ الجبال. فجأةً وأنتِ تطوفين في عوالم ألوانكِ، تتذكَّرين اليوم الذي رسمْتِ فيه الحرف الأول، تدمع عيناكِ ثم يجفل جفنكِ كأنّكِ في حالة حلميّة، تحلِّقين فوق غيمة نديَّة حُبلى بأسرارِ البحر.
سلالم متداخلة بألوان متناغمة مع فرح الأطفال، متعانقة مع صلبان موشّحة ببخور المحبَّة، وتجليات شوق الرُّوح إلى نصاعةِ الأمل عبر تكويرات بيضاء تتصاعد نحو أرخبيلاتِ الأزمنة البعيدة، أحلام اليقظة لا تفارق محطات العمر، ازرقاق متداخل مع توهجات بنفسجية ضاربة إلى اصفرار خفيف، يتخلله وشائج بيضاء مع خطوط متقاطعة مع كوابيس لا تمحى من مغائر الرُّوح، لماذا قلوبنا عطشى إلى ينابيع الزمن الآفل، كيفَ سنزيل كل هذه التكلُّسات الطافحة فوقَ مروجِ الحلم؟! حتّى أحلامنا لم تنجُ من انشراخِ الأيام!
قمرٌ يسطع فوق خمائل عاشقة حالمة بعودة النَّوارس المهاجرة إلى الشَّواطئ البعيدة، شعاعٌ من بين ثنايا بخورِ الشُّموع يغمر وجنة العاشقة الحالمة، هطلَ الفرح فوق براري الحلم، قبلتان موشومتان فوق خدَّي طفلٍ يهفو إلى خيوطِ الشَّمس، تتناثر ألوانكِ فوق عذوبة الليل كأنَّها بشرى خلاصٍ من أتون النار، تنزاح الأحزان بعيداً، تعبرُ شقوق الليل، تتوارى خلفَ شموخِ الجبال، تجرفها الرِّيح نحوَ أمواجِ البحرِ، تتلقَّفُها الأمواج دونَ وجلٍ، تسبحُ ألوانُكِ في رحابِ الفرح حيث الأمل يزدادُ سطوعاً عندَ انبلاجِ الشَّفق!
يتعانق بياض الحبِّ مع وهجِ الاحمرار بكل تدرُّجاته المماثلة لأجنحة اليمام، كأنه منارةُ قلبٍ مضمّخٍ بأسرارِ القصيدة، ألوانٌ وردية مبرعمة على ثغر نجمة معرّشة في معراجِ غربة مفتوحة على بوّابات الأمل. ريشة مغموسة ببسمة غيمة، ألوان مكتنزة بالمخاض، كأننا في انتظارِ ولادة طفلٍ في ليلةٍ معبّقة برذاذاتِ حبّاتِ المطر! لِمَ لا نفرش أجنحتنا تحتَ زخَّاتِ المطر، لعلَّنا نصفِّي أرواحَنا من شوائب السِّنين؟!
تواشيخ متداخلة بخطوط بيضاء شفيفة، تلتقي عند خفقة القلب، كأنها أجنحة فراشة متعانقة مع رفرفات فراخ الحمام، سهام مدبَّبة صغيرة تلامس شفاه وردة مكوَّرة عند برزخ القصيدة حيث أنغام قيثارة الرُّوح تصدح أثناء هبوط اللَّيل، هلالات بيضاء مزدانة بوبرٍ ناعم، كأنَّها شهقة موجة هائجة منبعثة من أعماقِ نفائس مرجان البحر. رفرف القلبُ مع هبوبِ النَّسيم، بهجةٌ منعشة منسابة مع تدفُّقات الخيال، تبدو عذوبة التواشيح كأنَّها رذاذات معبّقة بنكهة عسلٍ برّي تناثرَتْ رذاذاته فوق عذوبة الألوان.
أهزوجة فرحٍ تقمِّطُ عرش القصيدة، جنينٌ يسبحُ في غمارِ الألوان، على مقربة منه يضيء مسار قنديلِ الولادة، ولادة الأمل كلما تشرق الشمس، وكلما ينام الليل ملء جفنيه، يناغي القمر حنين الأمَّهات إلى أطفالهم المنبعثين نحوَ هلالات النُّور، حيثُ منائر الخير تشمخ كأشجار السنديان، آن الأوان أن ترحلَ أحزاني، أن تنمو في ضفافِ القلبِ وردة، أن أرسمَ هدهداً فوق جبينِ غزالةِ الرُّوح!
ينوحُ الليلُ من لظى البكاءِ، يبهتُ الحلمُ من احمرارِ مآقي الحزانى، يولدُ في عتمةِ الليالي بصيصُ أملٍ، الأرضُ خميرةُ الحياة، ملاذُ الكائناتِ، آبارٌ مليئة بالآهات، آهاتنا تغلغلَتْ في وجه الرِّيح فخضَّبَتْ أجنحة العصافير بشهوةِ الاشتعال. أينَ المفرُّ من شراهاتِ الاقتتال، من غدرِ السلاطينِ وموتِ أبهى الخصال؟! لا بدَّ أن نزرعَ في قلوبِ الأطفال شموخَ الجبال، كي ينامَ الليلُ على هدهداتِ الابتهال!
تناغمات خطوط زرقاء شفيفة تتداخل مع تضرعات إنسان يحلم بعودة الوطن إلى سابق شموخه، وطنٌ برمتّه في مهب الانسلاخ عن مروج الحضارة، تصدَّعَتْ أبجديات الحضارة، تصدّعَت معالم الحرف، مالَت أبراج بابل من هولِ شراهاتِ الصولجان، ماتَتْ أجمل الأحلام، لاذت الكائنات ودبيب الليل بعيداً عن رؤى مفخّخة بالآهات، عبرَت الملايين سماء البحار، تبحث عن موطئ قدم، عن وسائد مريحة يسندون رؤوسهم فوقها، يحلمون أن يناموا مرة واحدة على خرزات ظهورهم دون أن يستيقظوا على أنينِ النَّار.
عجباً أرى، أولى الحضارات تتهاوى على تخوم البكاء، حضارةُ الحضارات في مهبِّ الاندثار، مَن يستطيع أن يرمِّمَ الروح من هولِ الانشطار، من هدير البحار، هل سنعودُ يوماً وننامُ بهدوءٍ عميق تحتَ أشجارِ النخيل، بعيداً عن أبجديات الدَّمار؟!
الشّعر يطهِّرُ الرُّوح والقلب من جنونِ الصَّولجان، ويزرعُ أملاً في غدِنا الآتي من أخصبِ الألوان!
ستوكهولم: تمّوز (يونيو) 2010
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com