Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أليس الاختلاف في وجهات النظر والنقاش هو الطريق لتعميق المعرفة؟

ليس جديداً حين نقول: ما كان للفكر والمعرفة وحضارة الإنسان على هذا الكوكب الجميل أن تتطور, وما كان للثقافة الإنسانية أن تغتني وتتعزز وتنتشر وتتلاقح في كل ما أبدعته الشعوب والجماعات والأفراد على مدى تاريخ البشرية, لولا النقاش وبروز الاختلاف في وجهات النظر ثم النقاش حول ذلك مجدداً للوصول إلى الأكثر صواباً أو الأمثل والأقرب إلى الواقع. أوليس النقاش هو الذي أوصلنا غلى تكريس الكثير من مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية ونبذ الحروب والتطلع للسلام؟ أوليس هو الذي كرس الكثير من المثل والقيم والتقاليد الجميلة لدى الشعوب والتخلص مما هو متخلف وغير مفيد ومضر؟

ليس جديداً حين نقول بأن أبرز ما يميز الجنس البشري هو امتلاك الإنسان لتلك القدرات العقلية التي اكتشفت أو خلقت كل شيء على أرضنا المعطاءة, وإن أبرز ما يميز تاريخ الفكر والمعرفة هما النظرة النقدية لدى الإنسان للأمور والاستعداد لخوض النقاش حول كل ما هو قديم وجديد, أو ما كان في الماضي وما هو قائم حالياً وما يفترض أن يكون عليه مستقبلاً, وهي الطريقة الوحيدة لتطوير القيم والمعارف لدى الإنسان والتقدم إلى أمام.

وإذا كان تاريخ البشرية هو من صنع الإنسان, أو بتعبير أدق من صنع كل الناس, فأن للمثقفات والمثقفين دورهم البارز في كل ذلك, وهو الذي يجعل منهم في الوقت نفسه عرضة للنقد أو أن يمارسوا أنفسهم النقد إزاء بعضهم الآخر أو النقد الذاتي إزاء أنفسهم, وهي من السمات الجميلة التي يفترض أن نحافظ عليها ونطورها.

وتاريخ العراق القديم والوسيط والحديث غني بكل ما هو إيجابي, كما أن فيه الكثير من السلبيات والمآخذ التي يستطيع المؤرخون والمثقفات والمثقفون عموماً الكتابة فيه ونقده وفق زاوية الرؤية التي ينطلقون منها والمنهج الذي يستندون إليه والمصالح التي يمثلونها, إضافة إلى مستوى المعلومات والخلفية التاريخية التي يمتلكونها والمستوى الثقافي الذي بلغوه والحصافة التي يتمتعون بها.

واستناداً إلى كل ذلك يمكن أن تبرز تقديرات ومواقف وتفسيرات مختلفة لمسيرة التاريخ وأحداثه وقواه ورموزه والأفكار التي برزت في حقبه المختلفة. كل هذا نشاهده اليوم ونقرأ فيه ولا نجد في ذلك ما يفترض أن نستغرب منه. بعض الكتابات نختلف فيها وبعضها الآخر لا نرتاح لها ونعتقدها مغايرةً للحقائق, رغم نسبيتها, وبعضها الآخر يثير فينا الرغبة في الكتابة ومناقشة ما كتبه الآخر أو الآخرون, كما إن بعضها يكون مؤيداً منا أو من بعضنا. وهو أمر طبيعي حقاً. وكمثقفات ومثقفين علينا أن نقبل بالرأي الآخر دون تعصب لرأينا, رغم احتمال قناعتنا بصواب ما نطرحه دون الآخر, إذ أن الآخر يعتقد بصواب ما يطرحه دون رأينا. وكل هذا يمكن أن يتم في ما بين الكاتبات والكتاب بشكل طبيعي ومقبول. ولا يمكن لأحد أن يعترض عليه.

وحين يُفتح الباب للتعليقات من قبل آخرين, علينا أن نتوقع الكثير من الآراء المتباينة المؤيدة أو المعارضة أو الرافضة كلية, وهو أمر طبيعي أيضاً. ما دامت النقاشات والتعليقات تدور في إطار احترام الرأي والرأي الآخر, فهي المساعدة على إثارة أي طرف منا للتفكير بما كتبه وما يفترض أن يعيد النظر فيه أو يؤكده.

ولكن الأسئلة المنطقية التي يفترض أن أطرحها هنا هي: هل يمكن ضمان أن جميع من يعلق على هذا الرأي أو ذاك يمتلك مستوى متقدم من المعلومات والثقافة التي تؤهله لخوض النقاش؟ وهل يمكن ضمان أن لا يسيء هذا المعلق أو تلك المعلقة لهذا الطرف أو ذاك من جهة أخرى؟ ثم, هل يمكن إيجاد نظام غربلة لما هو جيد وما هو سيء في نظام التعليقات على صفحات الإنترنيت؟

إذا كانت الإجابة عن السؤالين الأول والثاني بـ "نعم" غير ممكنة, فإن إيجاد نظام للغربلة ممكن بطرق مختلفة ولكن بحدود معينة حقاً وليس كاملة.

لهذا يفترض فينا جميعاً أن نتوقع في إطار النشر على صفحات الإنترنيت جملة من الأمور, منها مثلاً:

** إن المتناقشات والمتناقشين لا يمكنهم أن يتحكموا في المواقع التي تنشر مقالاتهم ونقاشاتهم, إذ أن هناك الكثير من المواقع تأخذ المقالات وتنشرها دون علم الكاتبات والكتاب.

** إن المعلقات والمعلقين لا يرجعون إلى الكاتبات والكتاب ليسألونهم عن مدى صحة ودقة تعليقاتهم بل ينشرونها كما يرغبون, ولا يمكن للآخرين معرفة طبيعة ومستوى التعليقات.

** وعلينا أن نتوقع إساءات يمكن تأتي من هذا المعلق أو المعلقة على هذه الكاتبة أو ذاك الكاتب, ما دمنا نكتب جميعاً في الشأن العام.

** وأن مثل هذه الإساءات رغم كونها جارحة, يفترض فيها أن لا تغيظنا كثيراً إلى الحد الذي تقود بنا إلى عواقب سلبية في العلاقة بين الكاتبات والكتاب أنفسهم أو بين المتحاورين, أو أن نكتب ما لا تجوز كتابته بشأن الآخر أو الانجرار لتعليقات بعض المعلقات والمعلقين غير الودية أو المتحاملة.

** كما أن علينا ونحن نناقش بعضنا الآخر في ما نكتبه, أن نبتعد عن النعوت والاتهامات, بل من حقنا النقد كوجهة نظر مخالفة لوجهة نظر الآخر, وأن لا نتساهل في ما نعتقده خطأ, ولكن دون الاعتقاد بصوابنا المطلق, فليس هناك خطأ مطلق ولا صواب مطلق.

لقد جربنا حواراً طويلاً دار بين الأخ والصديق الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل وبيني حول موضوعات مهمة وذات وجهات نظر خلافية, ولكن حافظنا على ما هو ضروري في الحوار والنقاش من احترام متبادل وصراحة تامة في تبيان وجهات النظر المختلفة.

وجرى حوار بين الصديق العزيز الدكتور عبد الخالق حسين وبيني حول عدة مسائل ولكن حافظنا بأريحية تامة على الاحترام والود المتبادل رغم الصراحة التامة في تبيان وجهات النظر المختلفة. الكثير من الكاتبات والكتاب تناقشوا واختلفوا ولم تكن هناك أشياء تثير الإساءات المتبادلة, ولكن كان هناك الكثير والكثير جداً من الإساءات المتبادلة أيضاً, وخاصة في مجال التعليقات.

لم يكن كل ما كتب في المقالات والآراء المتبادلة بين الصديقين العزيزين الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل والسيد الدكتور عبد الخالق حسين هو خال من ضرورة ممارسة النقد, بل كان إبداء الملاحظات والنقد واجباً, رغم أني لم أشارك فيه. ولم يكن كله قائم على الهدوء في إبداء الملاحظات, إذ لا بد من قول ذلك, إذ كان فيه الكثير من التشدد والقناعة بامتلاك الحقيقة كلها. وكان الأفضل, وخاصة في قضايا خلافية مثل دور الدولة العثمانية والعهد الملكي ورموز هذا العهد, أن نقتنع بوجود وجهات نظر متباينة ويحترم بعضنا وجهة نظر البعض الآخر مع ردنا على ما نختلف عليه.

ولم تكن بعض التعليقات التي وردت على آراء وملاحظات الأستاذ سيَّار الجميل سليمة, بل كانت نامية ومرفوضة حقاً. ولكن لا دخل للدكتور عبد الخالق حسين فيها, وهو صادق تماماً في ما أكده لي في رسالته. وإثارة الضجة حوله غير صحيحة. كما علينا أن نتوقع مثل تلك التعليقات النابية. وعلينا أن نقتنع أن بعض المواقع ترتاح لمثل هذه التعليقات المثيرة على طريقة المجلات الفضائحية المعروفة في كل أنحاء العالم. وهناك من يهتم بها قبل غيرها.

إن البيان الذي أصدرناه بشأن الموضوع غير موجه بأي حال ضد الأخ والصديق العزيز السيد الدكتور عبد الخالق حسين ولا إدانة له, بل هو رأي أردنا به أن نحافظ على العلاقة الودية التي تجمع بين الكاتبين من جهة, وإدانة للتعليقات النابية التي وردت على تلك المناقشات من جهة ثانية, ورجونا الجميع إلى التزام الأسس السليمة في النقد عبر الكتابة أو التعليق من جهة ثالثة. نحن أنفسنا, أيها الأصدقاء, غير معصومين عن الخطأ ولسنا حكاماً على آراء الآخرين, بل كان نداؤنا رجاءً عاماً لنا وللجميع وليس غير ذلك.

أتمنى من القلب أن لا نهتم كثيراً بتلك التعليقات التي يراد منها الإثارة وليس النقاش الراغب في الوصول إلى الحقائق, ولكن علينا أن نتوقع حصول ذلك.

كم أتمنى أن يتوقف النقاش حول هذا الموضوع, إذ إن الاستمرار فيه يؤدي إلى مزيد من الإشكاليات شئنا ذلك أم أبينا.



29/8/2010 كاظم حبيب
Opinions