Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أين الله؟

وصلت إلى مسامع ملك العراق( عبد الإله بن علي ) أنباء أفادت بانتشار ظاهرة البغاء داخل أحياء متفرقة من العاصمة بغداد.
الأهالي في ذلك الحي شاهدوا الانتهاكات التي قامت بها إحدى السمسيرات الشهيرات بحق مختار الحي الذي تسكنه، فبعد أن طالبها بالجلاء إلى مكان آخر هزأته بصوت عال أمام أنظار الجميع متهمة إياه بشتى أنواع الاتهامات دون أن يفلح في كبح لسانها الحاد مما أثار حفيظة الأهالي وزملائه في بقيه الأحياء، هذا إلى جانب حوادث الاعتداء على أفراد الشرطة من قبل البلطجية التابعين لمن كن يترأسن مجاميع للدعارة فضلا عن وقوع حوادث القتل غسلا للعار المستمرة التي كان ينفذها عادة ذوو النساء ممن يتم العثور عليهن داخل منازل تعمل فيها عاهرات.
الملك عبد الإله( 1941-1953م) الذي كان يحمل صفة(الوصي على العرش)قرر أن تكون للدعارة منطقة مخصصة معزولة عن بقية الأحياء السكنية في بغداد اسوة بالبلدان الأوربية التي كانت تلجأ وقتذك إلى حل المشكلة على هذا النحو، وعليه فقد ترأس بنفسه اجتماعا للتداول بشان قضية اختيار المنطقة المناسبة حضره رئيس الوزراء (نوري السعيد) ووزير داخليته و كبار رجال الدولة ، وتم خلال الاجتماع طرح أسماء لمناطق عدة لم يتم الاتفاق على أية واحدة منها.. إلا أن الجنرال (مزهر الشاوي) الذي عينه فيما بعد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم مديرا للموانيء العراقية كان مصرا منذ بداية الاجتماع على أن تكون منطقة( الميدان) القريبة من وزارة الدفاع هي المبغى المناسب، وبعد اخذ ورد وبعد أن عجز الشاوي في إقناع الحاضرين بذلك قال لهم:(يا جماعة أنا أشوف منطقة الميدان هي الأنسب والمايصدك خلي يسأل أمه) ضحك الحاضرون على مزحته بما فيهم الملك وقرروا جميعا على أثرها الموافقة على اقتراحه فورا على أن يمنع دخول الأحداث إلى المنطقة ممن هم دون سن الثامنة عشر.
ومزحة مثل مزحة الشاوي لا يمكنها اليوم أن تطلق لا بوجه مسؤول عراقي كبير بمستوى ملك فحسب إنما أمام كائن من يكون،فالعواقب الوخيمة المترتبة على ذلك ستكون بانتظار من يفكر قولها،ربما صاحبها يلقى مصرعه في الحال إذا ما قالها أمام مسؤول كبير ومن المحتمل أن يقوم هذا المسؤول بعد أن يطلق النار على رأس قائلها بالردح هاتفا بقول الشاعر : (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم) طبعا هذا إذا افترضنا أننا من الممكن أن نعثر اليوم على مسؤول كبير يترأس اجتماعا فوق العادة لبحث قضية كقضية الدعارة.
ومنطقة الميدان كانت تعرف بالدعارة قبل هذا وشهرتها ناجمة من احد أزقتها، زقاق( الكلجية) ذائع الصيت فقد حولته بريطانيا إلى( مبغى) خاص لجنودها بعد احتلالهم البلاد عام 1917م بعد أن أجبرت سكان المنازل في الزقاق على المغادرة فيما اضطرت العديد من العائلات المجاورة له على الجلاء كما أقدموا على إغلاقه من جهة شارع الرشيد واضعين عبارة تمنع الدخول إليه كتبت بثلاث لغات هي الانكليزية والعربية والهندية وكانت عبارة المنع المكتوبة باللغة العربية تثير الضحك لدى المتعلمين والمثقفين وبقية العراقيين فقد كان نصها:(ممنوع الخشوش من هنانا) .
على أية حال اتخذت الحكومة التدابير اللازمة في منطقة الميدان ووضعت دورية راجلة من الشرطة لحفظ النظام تجوب شوارعها باستمرار، أما بالنسبة للأحداث فقد ابتكروا وسيلة طريفة كسروا بموجبها قرار منع الدخول وهي أن يتولى كل واحد منهم في إحدى الزوايا القريبة رسم شارب سميك على وجه الآخر بواسطة قطعة صغيرة من الفحم يجري تحضيرها مسبقا وذلك من اجل إيهام الشرطة كي تظن بعد ذلك أن القادمين من الكبار لا من الأحداث مع توخي الحذر عند اقتراب عناصرها.
ويروي احد الأخوة عن والده الذي خدم شرطيا في ذلك الحي أن والده خلال عمله كان ذات مرة بجانب إحدى العاهرات وحين رفع الآذان من احد الجوامع القريبة قالت (استغفر الله) قالتها بصوت خافت لكنه مسموع.
أدركت بعد تأمل طويل لرواية صاحبي أن الله مفهوم مطلق لا يمكن لأحد أن يحتكره لنفسه أبدا، لا يمكن لحزب أو طائفة ولا لقومية أو امة من أن تدعي بان الله لها ولوحدها حتى لو ادعت أن له خليفة من بينها في الأرض،ففي الوقت الذي يمكن لله من أن ينفذ إلى نفوس البشر أي بشر كانوا وعلى أية بقعة من بقاع الأرض فان الخليفة هذا لن يستطيع منع ذلك على نوع من البشر ويسمح بدخول الله على نوع آخر مهما كانت القدرات التي يتحلى بها،هو الله يفهمه الناس على هواهم، على وفق فلسفتهم القديمة منها و الجديدة.
يقول المفكر والإصلاحي الكبير جلال الدين الرومي :( ذهبت إلى معبد لليهود كي أجد الله فلم أجده،بعدها ذهبت إلى الكنيسة كي أجده فلم أجده،و حين ذهبت إلى الجامع لم أجده ولكن حين عدت إلى بيتي وجدت الله في قلبي.


رشيد الفهد

المصادر:

1- ذكريات مع الدكتور علي الوردي / قاسم حسين صالح
2-سيرة بغدادية / محمد الحجيري
3-الموالي / جلال الدين الرومي

Opinions