أ.د. محمد الدعمي
لم يستقم العمل الحزبي في تاريخ العراق الحديث (وربما في سواه من بعض دول الشرق الأوسط) منذ بواكيره في بدايات القرن العشرين.وترد أسباب ذلك إلى أن فكرة الأحزاب السياسية بمعناها الأوروبي الليبرالي لم تفهم ولم تطبق بالشكل الصحيح، خاصة بعد تحول الأحزاب إلى أدوات أو وسائل لنقل نخبها أو مموليها إلى السلطة تلبية لمصالح فردية أو فئوية ضيقة متعامية.كما لا يمكن للمرء، من ناحية أخرى،أن يتجاوز طرائق التعامل التعسفية للسلطات المختلفة التي تناهت إلى سدة الحكم في التعاطي الحذر المعتمد على ثقافة الخوف والتخويف، الثواب والعقاب، مع الأحزاب، ليس بوصفها مكونات لبنية سياسية وطنية، ولكن بوصفها قوى منافسة ترنو أو تتوثب للهيمنة على السلطة.وهكذا كان تاريخ العمل الحزبي والأحزاب في العراق الحديث تاريخاً مضمخاً بالدماء والتعذيب والقسر والقهر. إن اية محاولة لتورخة هذا التاريخ، حتى في العديد من دول الشرق الأوسط كلبنان مثلاً، لابد وأن تأخذ بنظر الاعتبار حرف العمل الحزبي عن مفهومه الحقيقي وتحوله أو تحويله إلى رحلة مضنية،غير بناءة، تتطلب التضحية بكل شيء، وبضمنها التضحية بالنفس.لهذه الأسباب بقي العارفون بالحياة السياسية في بلدان المنطقة يحذرون من "اللعب بالنار" بمعنى الانخراط في العمل الحزبي. وهذا هو ديدن أولياء الأمور، من الآباء، في العشيرة والعائلة وحتى في الجماعة الاجتماعية المتسقة أو المتماسكة. كانت وصايا هؤلاء لأبنائهم أو لمن يهمهم مستقبلهم من الشبان في أن: "ابنِ مستقبلك ولا تتورط في العمل الحزبي لأنه لا يجر إليك سوى الويل والثبور".
ربما كان هذا صحيحاً ، خاصة في العهود السابقة التي توالت على حكم العراق ، حيث كانت الأحزاب السياسية من نمطين:الأحزاب الرسمية ، والأحزاب السرية التي لا تحظى بإجازة من وزارة الداخلية أو الأجهزة الأمنية المختصة. هذه الحال تصح بدقة على العهد الملكي، حيث كانت الأحزاب السرية ، افتراضاً وربما تعسفاً، تمثل الضمير الوطني والاجتماعي للشعب. بيد أن هذه لم تكن هي الحقيقة المطلقة، ذلك أن هذه الأحزاب التي بقيت متضامنة مع بعضها البعض، إبان العمل الحزبي السري ضد النظام الملكي، سرعان ما تخاصمت خصاماً من النوع الدموي الثأري الذي يريد،ليس فقط الاستئثار بالسلطة، وإنما كذلك الاستئثار بالهيمنة والكسب المادي على حساب الجمهور. وقد تجلى التعصب والتنافس الحزبي (بين ما كان يسمى بالأحزاب الوطنية والتقدمية) عندما صعد نجم الحزب الشيوعي بعد عام 1958، حيث أطلق حملة ضد الأحزاب القومية، باعتبار أنها عميلة ومضادة للـ"أممية" ولسياسة الشيوعيين التي كانت تتطلع للانضمام إلى موسكو. ولم تنته هذه الحملة إلاّ بالعنف الذي رمز له بالحبال (رمزاً لسحل المنافسين وشنقهم على أعمدة الكهرباء).
وسرعان ما أسقطت جمهورية قاسم الأولى (علماً أن عبد الكريم قاسم لم يكن شيوعياً) على أيدي القوميين والبعثيين الذين أطلقوا حملة مميتة على رفاقهم (سابقاً) الشيوعيين، فلم تكن الحملة رد فعل مجرد فقط، وإنما كانت عملية اجتثاث واستئصال عمياء، لقي خلالها الشيوعيون، بل وحتى من كان مؤيداً لهم، ما لم يسبق لأحد أن فعله بخصومه السياسيين من تعذيب وتنكيل وتقتيل وتشريد وانتهاك حرمات. وهكذا بقي العمل الحزبي مصدراً للعذاب وللصراع والعنف، بدلاً من أن يكون عملاً سياسياً حضارياً أو سلمياً politics as civility طوال تاريخ العراق الجمهوري، حتى إذا ما استلم حزب البعث السلطة عام 1968 ثانية، تحول العمل الحزبي إلى وسيلة للارتزاق والكسب ، مناقضاً للرعب الذي يمكن أن يجلبه العمل المناوئ للبعث بالنسبة للفرد: فكان الخيار بين الثواب (الحصول على قبول في الجامعة أو على الوظيفة أو على الحياة الآمنة...إلخ)، وبين العقاب (التغييب أو التعذيب أو الحياة تحت ظل إرهاب الدولة والأجهزة البوليسية). هذا كان جوهر العمل الحزبي في العراق طوال ثلاثة عقود ونصف حتى عام 2003 حيث حدثت "الانتقالة" الجديدة المفاجئة على أيدي الماكنة العسكرية الأنكلو-أميركية، بعد أن سلمنا ولاة الأمر للأجنبي.وإذا كانت المرحلة السابقة لعام 2003 قد أفرزت أعداداً لا بأس بها من المناضلين الحقيقيين الذين أفنوا سني شبابهم، وأحياناً حياتهم، من أجل مبادئهم، فإنها قد تمخضت عن أعداد مضاعفة من المنتفعين واللاعبين المصلحيين والانتهازيين الذين خدموا فيما بعد مرتزقة لمرحلة ما بعد الغزو. وقد تبلورت الحال على النحو التالي: فبينما لم يكن في العراق من الأحزاب الفاعلة سوى عدد ضئيل قد لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، نجد اليوم هذا البلد زاخراً، حد التقيؤ، بالأحزاب التي ما أنزل الله بها من سلطان: أحزاب يسارية وأخرى يمينية، أحزاب دينية وأخرى طائفية، أحزاب قومية وأخرى أممية، أحزاب إصلاحية وأخرى بيئوية. لذا ضربت قائمة الأحزاب في العراق اليوم الرقم القياسي (حوالي مئة حزب سياسي) مقارنة بجميع دول المنطقة. والطريف أننا نشهد اليوم ظهور أحزاب من النوع الذي لا يمكن أن يظهر إلاّ في دول مستقرة مزدهرة تسودها الديمقراطية، كحزب الخضر، وكأننا نحيا حياة سياسية من النوع السائد في النرويج أو السويد، حيث القلق على طيور النورس من تصاعد تلوث الهواء والضوضاء !
إن تبرعم وانتشار الأحزاب السياسية في العراق بهذه الطريقة التي تذكرنا بانتشار الفطر إنما تعكس شيئاً مهماً من مأساة العراق: فإذا كنت من "المتمرسين" بالعمل الحزبي في منظمات عدة قبل تاريخ 2003، يمكنك أن تقدم خدماتك لأية جهة يهمها تأسيس حزب يرعى مصالحها في العراق؛ وهذه الجهة، محلية أو أجنبية، مستعدة لتزويدك بالمال والدعم الاعتباري والإعلامي للمضي قدماً على "طريق النضال" الحزبي "المرتزق". ولأن العراق واحد من أكثر بقاع العالم "المبتلاة" بالمصالح الأجنبية،غربية وشرقية، إقليمية ودولية، لذا تبقى دول العالم وأجهزة مخابراتها في انتظار من يتقدم إليها بطلب تأسيس حزب سياسي ترتهن رؤاه وايديولوجيته بمصالح تلك الدولة أو ذاك الجهاز !
مؤسسو مثل هذه الأحزاب الاعتباطية أو "الموسمية" لا يحتاجون لسوى بدلة أنيقة وربطة عنق جميلة، إذا كانوا من النوع الذي يدعي "التقدمية"، أما إذا كانوا من النوع "الرجوعي"، فإنهم سيكونون بحاجة إلى الكوفية والعقال والعباءة المزركشة بالذهب وسواها من مكونات اللباس العربي التقليدي، ليؤسسوا حزباً جديدا. ولأن "المستشيخين" (من لفظ شيخ) يتزايدون في هذا العصر، فإن ظاهرة الانقلاب من البدلة إلى اللباس العربي التقليدي صارت واحدة من أكثر الظواهر إثارة للملاحظة في مجتمع يفتقر إلى أساس للتيقن. وليس هذا ببعيد عن ظاهرة انقلاب أعداد غفيرة من "الأفندية" إلى وضع العمائم على رؤوسهم (من بينهم شيوعيون و ديمقراطيون وعلمانيون سابقون) في مرحلة صارت فيها العمامة أو الكوفية من وسائل البروز والنفوذ. وليس ببعيد أن تقوم الجهات الممولة لتأسيس مثل هذه الأحزاب بمساعدة المرشح لتأسيس هذا الحزب على اختيار الزي وانتخاب نوع العمامة وإضافة بعض الرتوش على صورة هذا "المناضل" ليظهر بالمظهر اللائق على رأس الحزب المطلوب حسب الرغبة وحسب الطلب !
لم تعد العديد من الأحزاب السياسية كما كانت الأحزاب في العهود الماضية، معتمدة على العمل الطوعي المنبعث من الإيمان بفكرة أو بايديولوجية (الحزبي أول من يضحي وآخر من يستفيد) لأنها غدت "مهنة" أو وظيفة ارتزاق في حالات عدة. فإذا ما كان من شروط تأسيس الحزب أن يكون له أعضاء يزيدون على المئة، فإن المال كفيل بأن يجلب لأي حزب الآلاف من الأعضاء المخلصين الذين ضاقت بهم السبل بسبب عدم وجود عمل والذين هم على استعداد لأية "مهمة عقائدية" أو نضالية (حتى لو كانت عملية اغتيال أو تفجير) على طريق تحقيق أهداف الحزب الممول من الخارج أو من المتنفذين واللاعبين بالنار في الداخل !
لقد كانت قصة الأحزاب السياسية المبكرة في العراق قصة دموية، وتحولت اليوم إلى قصة تمويلية. ولكنها، في كلتا الحالتين، بقيت لا حزبية ولا سياسية بالمعنى الديمقراطي الصحيح. وبطبيعة الحال، فإن هذا التعميم لا يمكن أن يشمل عدداً محدوداً جداً من الأحزاب السياسية الحقيقية التي عملت بإخلاص وتفان عبر تاريخنا الحديث حتى اليوم.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
maldaami@yahoo.com
عن جريدة الوطن