إنّ حـبة الحـنـطة إنْ لم تـمـتْ في التربة لن تحـيا ( بمناسبة أربعـينية المرحـوم جـلال جـرجـيس جـلو )
يُـراودنا سـؤال في مخـيَّـلتـنا : كـيف ستـصبح حـياتـنا لو ألغي الموت ونصبح خالـدين عـلى الأرض ؟ الإجابة المنـطقـية لسؤالنا هي إنـّها سوف تـتـوقـف بعـد عـشر أيام أو خـمسين شهـراً أو بعـد ....... سنة ! نعـم سوف لن تـكـون هـناك ضرورة لتـناول الطعام أو الذهاب إلى العـمل مبكـّرين ، ولا نـفـكـّر بالحاجة إلى الإنـدفاع بإلحاح وتـفان نحـو الإنـتاج وتحـسينه أو التخـطيط للمستـقـبل بدقة وإخـلاص لبنائه ، وإنما ستـتـاح لنا فـرص لا نهائية فـنؤجـل أو لا نـؤجـل نشاطات كل يوم إلى يوم غـد أو بعـد ..... شهـر أو كـذا من الوقـت حـسب مزاجـنا أو دون حاجة إلى مزاج ! فالزمن يصبح مُـلـكـَنا ونـفـقـد الإحـساس بالبقاء ولن نـتـذوّق أيَّ طعـم للـوجـود .لقـد جُـبــِلَ آدم من تراب الأرض ليعـمل عـليها ومن عـرقه يسقـيها فـيأكل من ثـمرها ، وبعـد زمن يعـود إليها فـيُواريه ثــَراها ، ونحـن نـُسَـطـِّر كـِتابَـنا عـلى هـذه المسكـونة بلغات عـديدة وخـطوط متباينة وألوان مخـتلفة ، لابل فـمِنـّا مَن يكـتب بـيُمناه وآخـر بـيساره ، بعـضنا يكـتبه بحـبر عـرق جـبـينه وآخـر بدم شرايـينه وثالث بدموع عَـينيه وغـيرنا بماء نـهر يجـري بجانبه ، بعـضنا تــُمحى كـتاباته وتــُنسى ذكـرياته فـلا يـبقى أثـره ، وبعـضنا الآخـر يـدخـل التاريخ من الباب الذي يُـتاح له فـيسجـِّل إسمه بـين ثـناياه فـتـخـلـد ذكـراه عـنـد الأجـيال مِن بعـده ، فأين فـقـيـدُنا جـلال جـلو مِن كـل هـذا الذي عـرضناه ؟
ترجـع ذكـرياتي بجـلال إلى عام 1960 وكِـلانا في الصف السادس الإبتـدائي نـفـسه في مدرسة ألقـوش الأولى للبنين بعـد أن إنـتـقـل سـكـن عائـلته إلى بلدتـنا ألقـوش ، وأتـذكـّر جـيـداً نشاطه الصفي وإهـتمامه بمادة التأريخ حـيث كان المعـلم يـكـرر تـوجـيه الأسئـلة إليه أكـثر من غـيره . وعـلى مستوى صداقة الأحـداث مِن أعـمارنا أتـذكـّر ما قالتــْه والدته المرحـومة ( مـكـّو ) مِن أنّ أخاه الأكـبر السعـيد الذكـر ( يونس ) أوصاه بأنْ يرافـقـني أكـثر مِن غـيري نظراً لإهـتمامي بواجـباتي المدرسية وسلوكي المنـظـَّم ولكـن لم يـدُمْ في ألقـوش طويلاً حـيث كان قـد غادرها لاحـقاً .
كـَـبُـر جـلال وكـبرتْ معه أفـكاره فإخـتار طريقاً وفـلسفة في الحـياة مقـتـنـعاً بأنها هي الأصوَبُ شأنه شأن شباب كـثيرين في تلك الحـقـبة الزمنية من عُـمر الشعـب العـراقي حـين كانـت أمواج الأفـكار تـتلاطم يميناً ويساراً ، وهـنا أتـذكـّره في عام 1969 أو 1970 حـين زار كـلية التربـية ( الملغاة ) - الوزيرية وسمعـْـتــُه يقـول لبعـض الأصدقاء : تأتـون إلى المدائـن عـنـد آثار طاق كـسرى الجـمعة صباحاً ! ولم أسأله عـن ذلك شيئاً فالأمر لا يخـصّـني ، إلاّ أن صديقاً لي ولثـقـته بي ، طلب مني أن أرافـقـهـم - ربما ليكـسبني إلى أفـكاره - موضحاً لي بأنها أشبه بسفـرة طلابـية . ولما حـضرتُ في الزمان والمكان المحـدّدَين شاهـدتُ بضعة أفـراد من شباب مُوَحَّـدي الزي ذوي قـمصان زرقاء فاتـحة وسروال نيلي متـناثـرين هـنا وهـناك بـدَوا أمامي وكأنهم رجال أمن ، أما شبابنا الذين سأرافـقهم في سفـرتهم الطلابـية تلك شاهـدتهم يشكـلون مجاميع بسيطة لا تـجـذب الشك ويـتجـهـون إلى جـهة واحـدة بعـيـدة عـن الآثار وبسبـب تضاريس الأرض المتموّجة فإنهم سرعان ما كانوا يخـتـفـون عـن الأنـظار . قـلتُ لصـديقي : إلى أين نحـن ذاهـبون ؟ فأجاب بما لا يقـلقـني ، وفي نهاية المطاف تجـمّـعـنا في بقـعة أشبه بوادي فـلا يرانا أحـد ولم يكـن جـلال معـنا ، وعـنـدها إستـلم أحـدهم القـيادة فـصار يخـطب وكأنه في إجـتماع رسمي ومِن خـلال كـلماته عـلمتُ بأنه إجـتماع تعـبوي للأفـكار التي تسمى تـقـدمية إشـتراكـية جـبهـوية وغـيرها من المصطلحات التي لم تـكن تـثيرني فأنا إبن الكـنيسة ما الذي جاء بي إلى إجـتماع كـهـذا ؟ وبـدأتْ تراودني أفـكار وإحـتمالات تـقـلقـني بعـض الشيء فأنا حاضر في إجـتماع حـزبي دون أن أدري وهـل يمكـنـني أن أنـكر ذلك ؟ وقـلتُ مع نـفـسي ليس من الكـياسة والذوق والمنطق أن أستأذن وأغادر هـذا التجـمّع منـفـرداً ولكـن أعـترف الآن أنّ منـطقي كان خـطأ ً.
وفي سياق مناسبة الأربعـين للمرحـوم جـلال ، فإنّ أكـثرنا يتـذكـّر كتاباته المسرحـية حـيث كان مولعاً فـيها وتحـكي قـصة الإنسان في المجـتمع وعـلاقـته بالأرض وعـمله فـيها ، في الحـقـيقة كانـت أفـكاراً بنـّاءة تـخـدم الفـرد والمجـتمع حـتى لو إفـترضنا أنّ مِن ورائها كانـت مقاصد فـكـرية أخرى . وتـواصلاً مع محـطات حـياته فإن نشاطاته وإهـتماماته الفـكـرية لم تـكن منسجـمة مع السلطة الحاكمة الغاشمة وهـذه جـعـلتْ حـدسه يخـمّن لابل يتـيقــّن أن عـواقـبَ وخـيمة تـنـتـظره مما دفـعـته إلى مغادرة العـراق لوحـده إلى بلغاريا سنة 1978 ثم إلتحـقـتْ به زوجـته سـلوى ومِن هـناك إلى اليمن وأخـيراً إسـتـقـرّ به الدهـر في أستراليا عام1981 .
وحـين قـدومي إلى أستراليا 1997 كان جـلال من بـين معارفي القـليلين فـيها ثم عـلمتُ أنه من بـين الناشـطين عـلى مستوى جاليتـنا الألقـوشية والكـلـدانية وعـلى مستوى الجالية العـراقـية بصورة عامة . نعـم كان جـلال ودوداً مسالماً خـدوماً ومحـباً للجـميع أمميّ التصوّر ولكـن في الوقـت نفـسه يتـذكـّر جالية بلـدته ألقـوش بحـرارة وقـوميته الكـلـدانية بإفـتخار، متـميَّـزاً بنقاء القـلب وطيـبة الأخـلاق ومحـبة القـريـب والغـريـب . وقـد كـتبتُ عـن نشاطه في جـمعـية الألقـوشيـين في هـذا المجال ما يلي :
المؤسّـسون الأوائل :
(( وفي نهاية الثمانينات أخـذ بعـض من الشباب عـلى عاتـقهم متابعة الترتيبات اللازمة لهـذه اللقاءات حـتى تـبلوَرتْ الفـكرة فـصارت تقام عـلى المروج في موسم الربان هـرمز ( شيرا الربان هـرمز) واستمرّتْ عـلى هـذا المنوال حـتى أوائل التسعـينات حـين إقـترح أولئك الشبان الغـيارى ومنهـم : ( سـعـيد اسطيفانا ، جـلال جـلــّو ، رمزي قـلــّو ، طـلال گـردي ، وأسعـد گــُـلاّ ) تـنظيمَ هـذا المهرجان في موعـده بشكـل بسيط فـكانوا يخـرجـون إلى المنـتزهات ومعـهم مأكولاتهم ومشروباتهم ، وبتوالي السـنين إنضـمّ إليهم الوافـدون الجـدد والمتحـمّـسون للعـمل الجـماعـي فأصبحـوا جـميعهم يُنــَظــّمون تلك السفـرة الكـبيرة إلى الـمكان الذي يتـّـفـقـون عـليه للأحـتفال بهـذه الذكـرى المقـدّسة الذي كانت في أول سنـَـتيها مقـتصرة عـلى الألقـوشـيين فـقـط ولكن بعـد ذلك صارت إحـتفالاً جـماهـيرياً ومـهرجاناً عاماً لكـل الفـئات ، ولكن الكل يعـرف لِما لهـذا الشيرا عـنـد ألقـوش مِن مكانة وخـصوصيّات .
ولمّـا حان موسم شـيرا الربّان هـرمز( في 26 نيسان 1998 كما أعـتقـد ) لم تكن لـدينا سيارة ، فـتدبّـرَ أمْـرَ نقــْـلنا مشكـوراً الـسيد جلال جـلـّو- منْ أقاربي - بسيارته إلى مكان الإحـتفال في منتزه (Lieutenant Cantello Reserve) وفي الطريق صار يُحـدثـني عـن نشاطات جاليتـنا الألقـوشية في سدني وذكـَر لي أن نخـبة من الـشبّان الألقـوشيّـين المتحـمّسين لخـدمة الجالية تسـمّى ( لجـنة شيرا دْ ربّـان هـرمز) يتحـمّـلون عـبء تـنظيم الحـفلات والسفـرات وبالأخـص مهرجان ( شيرا الربان هـرمز ) وقال : أنّ الغاية الأساسيّة من نشاطاتـنا هـذه هي الحـفاظ عـلى هـويّـتـنا وأولادنا من الضـياع في هـذا المجـتمع المتعـدّد الجـنسـيّات ، وتوفـير فـرص تعارف بعـضهم عـلى البعـض الآخـر، فـغـداً سيكـْبرون ويخـطـّطون لمستقـبلهم وزواجهم فـيجـب أنْ نفـتح أمامهم المجالات المناسبة للتفاهـم فـيما بينهم . فـقـلتُ مع نفـسي ......هـنيئاً ، إنّ خـميرة الآباء محـفـوظة بأمانة عـند الأبناء )) .
رحـل عـنا المرحـوم جـلال وذكـراه تبقى خالدة عـنـد أفـراد أسرته : زوجـته سلوى وإبنه منار وبناته مسار وأور ويسار وجـميعـنا أقاربه وأصدقائه ومعارفه فإن آثاره الجـميلة التي تركها في قـلوب الجـميع لن تــُمحى بسهـولة ، فـهـنيئاً لمَن تبقى له ذكـريات طيـبة في قـلوب الناس .
جـلال : إرقـد قـريـر العـين فأنـتَ حيٌّ في أفـراد أسرتك التي ستواصل الحـياة والمسيرة مِن بعـدك ومكانـك في القـلوب ونحـن جـميعـنا إلى مصير واحـد حـيث نـتساوى عـنـد خـط النهاية دون إستـثـناء أو تـفـرقة وليهـبك الله مكاناً في ملكـوته الأبـدي .