اعدام صدام حسين حسب نظرية ارسطو
اعدام صدام حسين حسب نظرية ارسطو(نظرية العبيد حول التَغني بالماضي غير المجيد)
فارس حامد عبد الكريم
قالَ الفرعون .. يا أيُها الملأ ما عَلِمت إن لَكم إلها غيري.
قالت الاعراب .. اعَدمَ العراقيون (بطل الامة) في يوم عيد.
التوق الى الحريــة غاية انسانية كبرى وهي جزء من الطبيعة الانسانية وحق اصيل من بين كل الحقوق ، بل هي جزء من طبيعة كل الكائنات الحية . واذا كانت الحرية جزءاً من الطبيعة الانسانية فهي اذاً ليست هبة يمنحها الحكام لشعوبهم بل ان الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الناس احرارا . الا ان هذا الحق كثيراً ما تعرض للغصب والغمط عبر التاريخ ، فكان جوهر التاريخ السياسي للبشرية هو صراع من اجل استراد الحق المغتصب ، الحريـة .
وحسب التاريخ القديم والمعاصر ، مارس الحكام السلطة منذ نشأتها بأعتبارها امتيازاً شخصياً تندمج فيه شخصية الحاكم مع شخصية الدولة فالحاكم هو الدولة وفي شخصه تتجسد سيادة الدولة . ولم تتمكن الشعوب الحية من اجبار الحكام على التخلي عن هذه الفكرة الا بعد صراع مرير طويل مخضب بالدماء، لتنتقل الى مرحلة السيادة للشعب وتكوين المجالس النيابية ، ولم يعد الحاكم عندئذ الا ممثلاً للدولة وليس تجسيداً لها .
كان ارسطو يرى ان اصل عبادة الحاكم الفرد هو الشرق ، وكان يعتقد جازماً ان عدوى عبادة الحاكم انتقلت من الشرق الى اليونان عند طريق الغزوات التي قام بها قادة اليونان في البلدان الشرقية ومن ثم تأثروا بما شاهدوه هناك من عادة تقديس الملوك حد العبادة .
ولهذ كان ارسطو يردد في كتاباته إن الشرقيين خلقوا ليكونوا عبيداً لحكامهم . وهو يعترف بوجود بعض الحالات الاستثنائية من الطغيان في اثينا ، الا انه يعتبر ذلك حالة اعتيادية بالنسبة للشرقيين وحالة مرضية بالنسبة لليونانيين .
حيث يروى ان الاسكندر المقدوني اثناء غزوه لبلاد فارس قد لاحظ ان الناس هناك تسجد للملوك وان الملك يتمتع بمزايا خاصة تخوله حق انهاء حياة رعاياه في اي وقت يشاء حتى لو لم يكن هناك من سبب غير الاهواء الشخصية كأن يريد الملك ان يدرب خليفته على الرماية فيوجه سهامه نحو احد المواطنين ليصطاده . فأستغرب الاسكندر من ذلك الوضع تماماً وعندما استفسر عن السبب قيل له ان الملك في الشرق هو بمثابة إله او وكيل للالهة في الارض ، فأعجبت الاسكندر الفِكرة .
وكانت اليونان قد عرفت الحكم الجمهوري في فترة مبكرة وكان هناك قدر كبير من الحرية السياسية ، وكان اليوناني يخضع لقوانين من صنع البشر ، وليس لديه ادنى فكرة عن عبادة الحكام.
وعندما عاد الاسكندر الى اليونان اراد ان يمزج العناصر الشرقية بالعناصر اليونانية ليكون بالفعل امبراطورا عالمياً ، فارتدى ملابس كملابس ملوك الفرس واتخذ تاجاً واصدر قراراً الزم بموجبه القادة والمواطنين بالسجود له عند الدخول عليه. ويقال انه عندما ابُلغ احد قادة الجيش بذلك القرار دخل في نوبة هستيرية من الضحك .
وعلى اثر ذلك ثارت ثائرة اعضاء مجلس المدينة والمواطنين بوجه الاسكندر واعتبروا ان ذلك يشكل عبادة حقيقية للحاكم في حين ان العبادة للالهة فقط حسب المعتقدات السائدة . نعم عرفت اليونان فترات من حكم الطغاة ولكن لم يدر في خلد اليوناني ان يعبد ملكه،وتم في النهاية التوصل الى تسوية وهي ان أمره بالسجود لا يطبق الا مع الشرقيين فقط .
والحق ان عبادة الحاكم عرفت اول ما عرفت في مصر الفرعونية وبلاد فارس والصين ، وفي حضارة بلاد الرافدين كان الحاكم هو ابن الالهه وكان ذلك يخوله حق الطاعة ،وان يتقلد منصب الكاهن الاعظم دون ان يخوله حق طلب عبادته شخصياً ، فلم يستسغ العراقيون القدماء فكرة عبادة البشر .
الا ان ارسطو وبعد ان درس شخصية الحكام وميز بين المستبد الشرقي والطاغية الغربي خرج بدراسة مذهلة عن الخصائص المشتركة بين الطغاة ،تراها صالحة في كل زمان ومكان ، فتراه يقول:
1ـ ان الطاغية يختار الفاسدين من الناس ليكونوا اصدقاءاً واعواناً له في حكمه ،لانهم عبيد النفـاق والتملـق ، والطاغية تسره المـداهنة، وينتشي بالنفاق، ويرغب بمن يتملقه، ولن تجد انسانا حرا شريفا يقدم على مثل هذه الاعمال، فالرجل الشريف يمكن ان يكون صديقا، لكنه لايمكن تحت اي ظرف ان يكون مداهنا او متملقا،اما الرجل السيء فليس لديه الاستعداد للقيام بهذا الدور فحسب ، وانما نراه يسعى اليه.
وقريب من ذلك ما قاله الكواكبي من ان ( الحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها ، من المستبد الاعظم الى الشرطي الى الفراش الى كناس الشوارع ، ولا يكون كل صنف من هؤلاء الا من اسفل اهل طبقته اخلاقاً ، لان الاسافل لايهمهم جلب محبة الناس انما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم )(1).
2ـ تعويد الناس على الخسة والضعة والهوان، والعيش بلاكرامة، ليألفوا العبودية اليومية.
3ـ يسعى الطاغية الى اغراء الناس على ان يشي بعضهم بالبعض الاخر، فتنعدم الثقة بينهم، ويدب الخلاف بين الصديق وصديقه.
ولهذا نجد الطاغيـة يشجع التاثير الانثوي في الاسـرة ، على امل ان تقوم الزوجـات بالابلاغ عن ازواجهن ، وللغاية نفسها تراهم يفرطون في تدليل العبيد والخدم حتى يفشوا اسرار سادتهم .
4ـ استئصال البارزين من الرجال واصحاب العقول الناضجة، لانه ليس من عادة الطاغية ان يحب رجلاً ذو كرامة ،اورجلا شريفا ذو روح عالية . لان الطاغية يدعي انه يحتكر لنفسه هذه الخصال الحميدة ، ومن ثم يشعر ان اي انسان شريف صاحب كرامة او بارز يزاحمه في ذلك، او انه يحرمه من التفوق والسيادة ، ويعتبره اعتداءاً عليه.
5ـ يلجا الطاغية الى اشعال الحروب دائماً، بهدف إشغال رعاياه بصورة دائمة . كما يعمد الطاغية الى افقار مواطنيه حتى ينشغلوا بالبحث عن قوت يومهم،ومن ثم لا يملكوا وقتاً كافياً للتأمر عليه، ويدلل ارسطو على ذلك بالمـنشات التي اقيمت في مصر كالاهرامات والمـعابد الهائلة ،وتشييد المعابد لزيوس التي اقامتها اسرة بيزستراتوس طاغية اثينا، فلم يكن لهذه الاعمال ، حسب رأي ارسطو ، سوى هدف واحد هو افقار المواطنين وشغل فراغهم حتى لايجدوا وقتا للتأمر.
6ـ حجب كل ما يعمل على تنوير النفوس او كل مايبث الشجاعة والثقة بالنفس.
واجبار كل مقيم في المـدينة على ان يظهر للعيان بصفة مستمرة، واكراهه بوجه عام الا يجاوز ابواب المـدينة الا بموافقة الطاغية او اعوانه.
7ـ يعمل الطاغية على بث العيون والجواسيس لجمع المعلومات عن كل ما يفعله رعاياه او يقولونه ،على نحو ماكان طاغية (سيراكوسه) يفعل عندما كان يستخدم جواسيس من النساء، اوالمتنصتون اللذين كان يبعث بهم الطاغية ( هيـرو ) الى المحافل واﻟﻤﺠالس العامة.
لانه بوجود مثل هؤلاء كان الناس يكتمون اراؤهم في دواخلهم، لانهم يهابون العيون والاذان المـنتشرة حولهم، فإن تجرأوا وتحدثوا عن الطاغية انكشف امرهم .
8ـ ان الطاغية يهدف الى ان يجعل رعاياه عاجزين عجزا تاما عن اي فعل ، ومن ثم يكون السعي الى القضاءعليه ضربا من المحال.
واخيراً فأن ارسطو يعتقد ان حكم الطغاة غير مستقر بسبب الكراهية التي يبثها الحكم التعسفي . (2)
ولا يعدم الطاغية ، في كل مكان وزمان ، من اعوان من المفكرين والشعراء وبعض مشايخ الدين ، ييبررون له افعاله ، ويزينـون لـه قبيـح افعالـه . حيث تذكر الروايات التاريخية انه عندما تولى يزيد الخلافة اتي له باربعين شيخاً شهدوا له على انه ( ما علـى الخلفـاء حسـاب ولا عـذاب ) .
بل والقيام بتفسير الاحكام الشرعية وفقاً لما يلائم تصرفات الحاكم ‘ وفي ذلك يقول عبد الرحمن الكواكبي ( ... وقد عدد الفقهاء من لاتقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم فذكروا حتى من يأكل ماشياً فى الأسواق ، ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسقوا الأمراء الظالمين فيردوا شهادتهم . ولعل الفقهاء يعذرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين فى مواقع أخرى ، ولكن ما عذرهم فى تحويل معنى الآية (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) الى ان هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين ؟ والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض ، لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير فخصصت منها جماعات باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية السياسية والمالية والتشريعية ... ومن يدرى من أين جاء فقهاءالاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا الحمد أذا عدلوا ، وأوجبـوا الصبـرعليهم أذا ظلمـوا ، وعـدوا كـل معارضـة لهـم بغيـاً يبيـح دمـاء المعارضيـن ؟)
واذا كان هناك قدر من الصحة في نظرية ارسطو عن احوال الشرقيين ومعتقداتهم فان الخطأ فيها هو انها جاءت مطلقة، وكما يبدو فان خيبة امله من تصرفات الاسكندر المقدوني قد ساهمت في تكوين عقيدته ونظريته ، خاصة اذا عرفنا ان الاسكندر المقدوني كان قد تتلمذ على يد ارسطو بتوجيه من الملك الوالد فيليب المقدوني ، حيث كان يسعى الى ان يغرس في ذهن الفتي دعوة ارسطو الفلسفية التي نادى بها في مؤلفه الشهير ( السياسة ) .
حيث كان يرى ارسطو ان الناس في هذه الحياة قد خلقوا اطواراً ومنازلاً وطبقات متباينة ومنهم الاغريق الذين رسمت لهم الدنيا دور السيادة والحكم . الا ان الاسكندر حينما تولى الحكم ، خرج عن تعليمات معلمه واختط لنفسه سياسة خاصة ، وسرعان ما تحول الى طاغية وابتدأ حكمه بمجزرة حينما غدر باقرب اصدقائه .
وكان الاسكندر يعتقد ان الالهة قد ارسلته لينقذ الشرقيين من ظلم واستبداد ملوكهم ، ولما عاد من مهمة تحريرهم طلب من اليونانيين السجود له .
فضلاً عن ان اليونان لم تخلوا ومن بعدها روما وبعض دول اوربا من ملوك ادعوا الالوهية ، وفق ما يعرف في الفقه الحديث بمرحلة الطبيعة الالهية للحكام .وعندما دخل الملوك في صراع مع المسيحية وهزموا في النهاية وخاصة مع تنامي انتشار المسيحية بقوة في الغرب ، شعر اولئك الملوك بضرورة المهادنة مع المسيحية بل واستثمارها لصالحهم ، وفي هذه المرحلة اعتنقوا المسيحية واعلنوا انهم انما خولوا الحكم بتفويض من الله وعرفت هذه المرحلة من التاريخ باسم مرحلة التفويض الالهي، وفي عصور لاحقة وبعد ان اسقطت الجماهير ملوك التفويض الالهي ، بدأت مرحلة اخرى لايعد فيها الحاكم الهاً ولا مفوضاً من الالهة ، بل ان العناية الالهية هي التي قادت لاختياره لحكم الشعب ، وسميت بمرحلة العناية الالهية ، وكان هتلر يردد دائما ان العناية الالهية هي التي قادته الى حكم المانيا.
والحال ان الشعوب الغربية وبعد صراع مرير مع مختلف اشكال الدكتاتورية والاستبداد والطغيان وثورات تاريخية كبرى تقف على قمتها الثورة الفرنسية ، تلمست طريقها منذ قرون ، مع ردات استثنائية هنا وهناك ، نحو الحرية واصبحت السيادة للشعب حقاً واصبح الحاكم لا يعدو ان يكون كبير موظفي الدولة .
ان اضفاء القداسة على شخص الحاكم فكرة شائعة لدى اغلب الشعوب ومن ذلك من ذلك ماجاء فى دستور الحبشة لعام 1931 الذى وضعه الامبراطور هيلا سيلاسى وجاء في المادة(3) منه من أن ( شخص الامبراطور مقدس، وكرامته مصونة ، وسلطته لاتقبل الشك ).
وحَكم امبراطور اليابان بوصفه ابن السماء .
ان مثل هذه الافكار اختفت تماماً من العقلية الغربية المعاصرة ، واضحت جزءاً من التاريخ .
هذا هو وجه الخطأ في نظرية ارسطو ، الا وهو التعميم ، فأين وجه الصحة ؟
ان وجه الصحة ان بعض الشرقيين، والعرب في مقدمتهم ، بقوا بشكل او بأخر على عاداتهم القديمة ، مستعدين في كل مرة يظهر فيها محتال او دجال مفوه ، تفرزه ظروف شاذة او غير طبيعية ، ان يسيروا خلفه وان يصدقوه او ان يعبدوه لدرجة تكاد ان تعمى بصائرهم عن حسابات الواقع الدقيقة ، وهكذا تُهيج الخطب الرنانة والوعود الكاذبة والمغامرات الدونكشوتية مشاهرعم ، فيقودهم من صنعوا منه قائداً اوحداً الى مواطن الهلاك والبؤس والخراب ، دون ان يحقق لهم ولو وعداً وحداً من الوعود الكبيرة ،او ان يقدم لهم بعض الانجازات التي تتلاشى قيمتها امام الهزائم والظلم الذي يلحقه بشعبه ، وقديماً قيل ( ما جدوى ان يكسب الانسان العالم ويخسر نفسه ) ولا شك ان الخسارة المقصودة هي الحرية ، ومع ذلك يبقى في ذهن الكثير منهم رمزاً خالداً ، وقائداً كان من الممكن ان يحقق اعظم الانجازات لولا المؤامرات والدسائس الغربية .
والتاريخ ، هنا في الشرق ، يعيد نفسه في كل مرة مع ذات الحكاية ، ولكن بعض القوم لا يَعتبرون ولا يَتعظون ، وعلى سبيل المثال ، استوقفت دارسي التاريخ السياسي ظاهرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد نكسة حزيران وتقديمه لاستقالته، مع احترامنا لذكراه، حيث خرجت مصر عن بكرة ابيها لثنيه عن قراره ، كما استقبلته الجماهير استقبالا لا مثيل له (بعد الهزيمة) في السودان حيث خرجت الناس هناك عن بكرة ابيها لا ستقباله عند حضوره مؤتمر القمة . وكذلك الامر عند وفاته حيث لم يقف الامر عند حد خروج الملايين لتشييعه بل كانت الملايين تبكي بحرقة شديدة وصلت في بعض الحالات الى حد الهستيريا بحيث علق احد الكتاب الغربيين بدهشة قائلاً انه اول قائد مهزوم في التاريخ يستقبل ويودع توديع الابطال الفاتحين .وحاول بعض الكتاب الغربيين تفسير ذلك وفقاً لنظرية ارسطو عن الشرقيين ، الا ان ذلك ليس صحيحاً بالطبع .
ولكن ما هو رابط الكلام وما هي الحكاية ؟
الحكاية بإختصار ، ان العراقيين ، اذا طرحنا نظرية المؤامرة جانباً ، قد اسسوا دولتهم الوطنية الحديثة سنة 1921، ونال بلدهم استقلاله بدخوله عصبة الامم المتحدة سنة 1932، وسار العراق بعد ذلك على طريق التنمية والاعمار ، فقد شقت الطرق وادخل الكهرباء وفتحت المدارس والجامعات والمستشفيات ، وعندما استلم خالد الذكر عبد الكريم قاسم الحكم في العراق ، وهو اول حاكم عراقي يتولى حكم الحكم العراق الموحد منذ الاف السنين ربما منذ سقوط الدولة البابلية ان لم اكن مخطئاً، وفي عهده صدرت قوانين الاصلاح الزراعي ووضع العراق يده على ثروته الوطنية ، وبوشر بحركة اعمار واسعة النطاق .
والزعيم عبد الكريم قاسم هو الزعيم الوطني الوحيد الذي اجمع كُل العراقيين على حبه ، ولأن العراقيين غير محظوظين مع حكامهم فقد غدر بهم اعدائهم وقتلوا زعيمهم المحبوب ، في مؤامرة خسيسة مدبرة من خارج العراق قادها مجموعة من العسكريين الفاشلين وبعض الاشقياء ( البلطجية ) والنكرات .
ورغم ان صدمة العراقيين بفقد زعيمهم كانت بالغة ، الا ان العراقيين بشكل عام كانوا سعداء ، ينظرون للمستقبل بتفاؤل ، وطموحاتهم لا يحدها حد .
ولم لا وقد انعم الله عليهم بنعمه الواسعة فالعراق بلد الخيرات . بلد النهرين العظيمين والنخيل الباسقات .
بلد الاضرحة والمقامات المقدسة ، بلد مقام حيدر الكرار داحـي بـاب خيبـر ...وبلد مقام احفاد الرسول الحسين واخيه العباس وموسى الكاظم والاماميين العسكريين وبنات الحسن ... عليهم السلام ، بلد مقام الامام ابو حنيفة النعمان والامام عبد القادر الكيلاني ... رضي الله عنهم وارضاهم .
بلد الجواهري ومصطفى جمال الدين والسياب ونازك الملائكة والبياتي وجواد سليم وعبد الستار ناصر ومدني صالح وغائب طعمة فرمان ... وحضيري ابو عزيز وناظم الغزالي وحسين نعمة ...
بلد قيمـر الحلـة وبرتقـال ديالـى وكمـأ الغربيـة وراشـي الموصـل ونومي حلو كربلاء وبرحي البصرة.
والمهم من بين ذلك كله انه بلد ابناء العشائر الاجاويد الكرام الاباة اهل الفضل والغيرة والناموس ، العامرة مضائفهم دوماً بالكرم والجود ، فضلاً عن ثروة نفطية ومعدنية هائلة .
ولكن العراقيون مبتلون في احيان كثيرة بحكامهم غرباء كانوا ام وطنيين ، وهكذا وفي غفلة من الزمن تسلط عليهم حاكم ليس ككل الحكام ، حاكم لا يبغي الا الانتقام من العراقيين فحسب ، حاكم اشبه بالغراب ، كان مجيئه نذير شؤم وخراب على العراق والعراقيين الا انه كان نعمة كبيرة على بعض الاعراب . ابتدأ حكمه بمجزرة وانهاه قابعاً في حفرة لا تليق الا بالجرذان ، بعد ان اغرق العراقيين في حمامات دم ، وبسبب مغامراته المجنونة قضى خيرة شباب العراق مصارعهم في حروب مدمرة ، ومورست ابشع انواع العقوبات بحق الالاف من الابرياء بناءاً على رؤى وطروحات الطاغية الانية المزاجية ، فضلاً عن حصار عمق هو واعوانه مأساته واهلك الناس والعباد ، ومليارات ذهبت سدى في شراء اسلحة لمغامراته اتلفت فيما بعد امام انظار العراقيين وفي عقر دارهم ، والاسوء في ذلك كله هو الخراب والخواء الفكري الذي نال من الناس والاجيال الناشئة في عهده ، وفي النهاية عاد البلد الى مرحلة ما قبل سنة 1921.
وبعد كل ذلك نقرأ ونسمع عن من يجهد في الدفاع عن الطاغية والتمجيد بانجازاته ، بل ان هناك من وضع اكاليل الورد على قبره .
ونحن على يقين اكيد انهم لو كانوا قد فعلوا مثلها مع قريب لهم اعدمه صدام في زمنه المشؤم، لأبادهم عن بكرة ابيهم ، بعد ان يرغمهم على دفع ثمن الاطلاقات ، فضلا عن وضع اقربائهم الى الدرجة الرابعة في قائمة الشبهات والحرمان من تولي الوظائف العسكرية والمدنية.
واقام له بعض الشوفينين العرب مجالس عزاء ، ولا غرابة في هذه الحالة فهو سيدهم وولي نعمتهم.
نعم اليوم الكل احرار في العراق الجديد ولا رجعة للعبودية وفكر خنق الحريات ، ولا ينبغي ان يحاسب اياً منهم على ذلك ، ولكن ليست هذه هي نهاية المطاف ، فليست السلطات وحدها يمكن ان تحاسب ،ولكن ينبغي عليهم ان يتذكروا ان حكم الشعب العراقي والتاريخ عليهم سيكون قاسياً ، بل انه سيضعهم في خانة من خانوا ذكرى ضحاياه وتنكروا لشهدائه ، والتفتوا الى الطاغية وذرفوا عليه الدموع ، الا انهم لم يلتفوا الى ام حمودي وام حيدوري وام عموري وام علاوي .. وكل الامهات الثكلى اللائي انتزع منهن الطاغية فلذة اكبادهن ، بعد ان سهرن الليالي تلو الليالي ليجعلن منهم رجالاً يفخر العراق بهم ، وزج بهم الى مهاوي الموت والمقابر وهم في عنفوان الشباب .
لم يلتفتوا الى الاباء الذين ماتوا حسرة على ابنائهم ودفنوهم قبل ان يزوجوهم من بنت الحلال ، نعم لم يلتفتوا الى اللائي ترملن وكن صبايا في عمر الزهور.
ولان للعراقيـيـن سـبق الفضـل التاريخـي على الدنيـا باسـرها في اشيـاء جوهريـة عديدة منـذ فجـر التاريـخ ، فـَسجلوا لهم بفخر ايضاً ،ايها العرب وغير العرب ، بأنهم اول شعـب عربـي واسلامـي يعـدم طاغيتـه بيديـه .
ولا فرق بعد ذلك ان كان اعدامه في يوم عيد او في اي يوم اخر ، فيوم اعدامه بحد ذاته كان يوم عيد وسرور في بــلاد الـرافـديـن .
فكم اعدم الطاغية من شباب العراق وسلم رفاتهم الطاهرة في اول ايام العيد الى ذويهم ؟ انا شخصياً اعرف واحداً منهم على الاقل ، وسَمعت عن أخرين .
ايها الاحـرار ، ابناء الرافديـن النشامـى ، ضعوا اكاليل الورد على رؤسكم فرحاً بسقوط الطاغية وبأعدامه ، فرحاً بالعراق الحر، وسروراً بزوال رمز البغي والعدوان والكذب المنقطع النظير ، ولا تلتفتوا الى من اطلقتم عليهم اسم ايتام صدام ، وتكاتفوا من اجل من بناء عراقكم ولا تدخلوا في دوامة القيل والقال فتتفرقوا . ولا تُشمتوا اعدائكم فيكم وهم ما برحوا يرسلون اليكم الموت والخراب ليزرعوا اليأس في قلوبكم املا في بث الحنين في نفوسكم الى الماضي ، ولكن هيهات . واذكروا شهداء الحرية والخلاص فما ضحوا بانفسهم الا من اجل خلاصكم ، ولا تجعلوا ارسطو ومن جاء بعده يقول عنكم ما لايليق بكم قطعاً .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الهوامش
(1) ـ ولد عبد الرحمن الكواكبي في مدينة حلب لأسرة تعنى بالعلم ، ودرس في مدارسها حتى أتقن العربية والتركية وعلومهما. توجه بعدئذ إلى الصحافة والتأليف فحرر جريدة (فرات) ثم أصدر (الاعتدال) و (الشهباء) . تقلد الوظيفة العامة،وفتح ذلك عينيه على ما يكابده شعبه في ظل حكم الطغاة ، فانتقد الاوضاع السائدة في تلك الفترة ودخل في صراع مع رجال السلطان عبد الحميد . فلفقت السطات له تهماً وطرد من الوظيفة ، وعلى اثر ذلك غادر بلده الى مصر التي كانت حينئذ مركز رجال الحرية والفكر. وقد جلبت له كتاباته التي اخذ ينشرها في (المؤيد ) شهرة واسعة جمعت حوله المثقفين ورجال الفكر .
وكان عبد الرحمن الكواكبي في قمة عطائه حين توفي بشكل مباغت، ويرى الباحثون أن رحيله كان نتيجة لمؤامرة دبرتها السلطات ضده لاسكات صوته الذي كان بدأ يفعل فعله في مصر وبلادالعرب،والبلاد الإسلامية عموماً.
(2) ـ حول سلوك الطغاة لارسطو بأختصار عن كتاب (الطاغية) تاليف ا.د إمام عبد الفتاح إمام .
المراجع العلمية
ـ أ.د إمام عبد الفتاح إمام ، الطاغية ـ دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي ، سلسلة عالم المعرفة الكويتية ، العدد183 ، 1994.
ـ تيرانس راتيجان ، الاسكندر المقدوني ، ترجمة وتقديم محمد كامل كمالي ، دار الاندلس ـ بيروت ،1982.
ـ عبد الرحمن الكواكبي ، طبائع الاستبداد ـ التنوير ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1993 .
ـ الدكتورة سعاد الشرقاوي والدكتور عبدالله ناصف ، القانون الدستوري والنظام السياسي المصري دار النهضة العربية 1993.
ـ د. محمد رفعت عبدالوهاب و د. ابراهيم عبدالعزيز شيحا،النظم السياسية والقانون الدستوري، دار المطبوعات الجامعية الاسكندرية 1988.
ـ الدكتور أحمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، دار الشروق ، طبعة 2000 .