الأرمن ضحايا تقلبات الزمن / الحلقة الثالثة
وفي فترة الكفاح المسلح توطدت علاقتي ب( احمد) اداري احد الاحزاب الكردية المعارضة( كوك ) في وادي كوماته المحاذي لتركيا، جلب انتباهي بيض بشرته وزرقة عيونه، فقال " يا ابا لينا، لا تستغرب، انا من اصل ارمني". وفي نفس المنطقة ايضا وصلت في ربيع عام 1983 وجبة ملتحقين بالانصار من الخارج ، كان من بينهم على ما اظن( ابو يعقوب) ابن اخت النقابي الارمني المعروف آرا خاجادور، وقد استشهد لاحقا ليضاف اسمه الى قائمة الخالدين.▼ يشدني الحنين والعطف على الارمن الطيبين، وقد اشرفوا بدورهم على الانقراض من بلاد ما بين النهرين( كان ظهورهم فيها قبل الميلاد عندما كان التجار الارمن ينحدرون من اعالي الجبال الى بابل بواسطة اكلاك على نهر الفرات) نظرا للمصائب التي المّت بالبلاد على مدى نصف قرن، تحملوا الضيم والقهر والحروب والجوع اسوة بباقي مكونات الشعب العراقي. اتحدث عن بصمات الارمن في وطننا من خلال كنيسة الارمن الارثوذكس( انشأت عام 1954 وافتتحت في 1957) قرب ساحة الطيران، ذلك الصرح المعماري والهندسي الرائع، فقد كان يجلب تصميمها وطرازها السواح الاجانب، وقبلهم يخطف ابصار العراقيين. وكذلك المدارس الارمنية ومحلات سكناهم في كمب الارمن وكمب سارة خاتون( سارة تاتيوسيان)، ولا يفوتني ذكر ناديهم الرياضي( الهومنتمن - تأسس عام 1949) قرب القصر الابيض، مستشفى اراتون للعيون في بارك السعدون، ستوديو آرشاك، ستوديو اصلان، حلاقة كيغام في شارع الرشيد، محل هاريتون لتصليح التلفزيونات.
▼ من الشخصيات الارمنية الشهيرة في العراق : كولبنكيان الذي بنى ملعب الشعب الدولي في بغداد( انشأ عام 1962- وافتتح عام 1966) وكانت له حصة 5% من نفط العراق حتى عام 1972 حيث اممها نظام البعث، علما بانه كان يصرف جل امواله في المشاريع الخيرية وبناء المستشفيات.
▼ جلب انتباهي جورج آرتين تاجريان ذلك الرياضي الذي رفع اسم العراق عالياً، عندما مثل العراق في اولمبياد مكسيكو عام 1968 في سباق الدراجات للمسافات الطويلة، لا علم لي باخباره من ذلك الحين، فمثله عملة نادرة ترعاها غالبية حكومات المعمورة .
▼ اسماء اخرى مثل المغنية سيتا هاكوبيان المعروفة برقتها وعذوبة صوتها، اتذكر كيف اجبرها نظام صدام عام 1980 للظهور في التلفاز لتغني قادسيته المجنونة، وهي حامل في شهرها الاخير. عندما بث تلفزيون نينوى لاول مرة برامجه في نهاية الستينات وبداية السبعينات، كانت فتيات الموصل اسيرات التقاليد البالية، يخجلن من الظهور على الشاشة، الا الفتاة الارمنية( ريتا سورين) لقد قطع صوتها الجميل صمت الفتيات الموصليات، وكان ظهورها كل يوم في بدلة وشعر وماكياج مختلف، يضيف جمالاً الى جمالها الطبيعي، لا اعتقد من هو من جيلي قد نسي ذلك الوجه المدور المشرق، الذي أطل كل مساء من تلفزيون الموصل، الله يكون في عونها أينما تكون اليوم. لن انسى ابدا المصور الارمني المعروف آكوب كريكور في الموصل- مدخل الدواسة، كم كانت تجذبنا نحن طلبة الجامعة آنذاك الصور التي التقطها بعدسته والتي تضاهي ببهائها وافكارها اشهر الصور في العالم، وقد عرفت ابنه الوسيم مهران في قسم الهندسة الكهربائية، للاسف ورد خبر وفاته مؤخرا وهو طريح الفراش في الموصل، وعلى افقر حال، دون زواج، ومتقاعد من عمله في دائرة صحة نينوى، للحقيقة اقول ان موته حفزني لكتابة ما انا بصدده. وتستمر قائمة الاسماء الارمنية التي طبقت شهرتها آفاق العراق منهم: الباحث ومؤلف كتاب( مباحث عراقية) الاستاذ يعقوب سركيس، الدكتور استارجيان مؤلف كتاب تاريخ الارمن عام 1950 في الموصل، والكاتب يوسف عبدالمسيح ثروت، عازفة البيانو بياتريس اوهانيسيان، الممثلة آزادوهي صموئيل، مصور الاثار كوفاديس ماركاريان، المصور الصحفي امري سليم لوسينيان ، المصور السينمائي خاجيك ميساك كيفوركيان، اغا ميناس مدير ادارة الرحالة الشهير ريج.
▼ الارمن اصحاب صنائع وحرف في بغداد والبصرة والموصل وكركوك، توارثوها عن ابائهم واجدادهم منذ ايام وطنهم في تركيا، عندما غزاهم الشاه عباس محمد خُدابنده( 1603- 1617) ألحق بهم اشد الاذى، ولكن امام خسارته مع العثمانيين وانسحابه الى ايران، جلب معه الصنائعيين الأرمن وانشأ لهم مدينة في شمال ايران ازدهرت فيما بعد بحرفها وصناعاتها، وبعد مدة من الزمن هاجرت مجموعة منهم الى بغداد. اتذكر عندما عملت مهندسا في الطرق والجسور كان يحصل خلل فني في مضخات الوقود او الهواء وفي تقاسيمها ومنظماتها ومصفياتها، فكان لا يتم اصلاحها بالوجه المطلوب الا على ايدي الارمن المتخصصين، ليس في المدارس او الجامعات بل بالخبرة العملية، وهذا ما شهدته بنفسي في محلاتهم في طريق معسكر الرشيد او في كركوك، او في معامل الطرق الشمالية في نينوى على يد الفني طوروس( سلسلة جبال معروفة في الاناضول). وكذلك اشتهر الارمن في لف الماطورات، وتصليح الاعطال في المكائن والسيارات، والاجهزة الدقيقة، والتلفزيونات وغيرها. اما المتداول بين الشعب العراقي بان الارمن من اهم الطوائف المنظمة والمهتمة بمطبخها وترتيب بيوتاتها، كم كانت الست( ديكرانو) انيقة، مهندمة، ومتميزة بين المدرسات في متوسطة القوش، لن انس يوما ربيعيا في حدود عام 1966- 1967 عندما مررنا انا وزملائي امام المدرسة، فقطع طريقنا فراشها المرحوم(عيسى ملو) وبيده ورقة وقلم ليطلب من احدنا كتابة الاسم الذي لم يستطع حفظه للست الارمنية المعينة حديثاً ديكرانو( نسبة الى الملك الشهير- ديكران) كانت الطالبات ينادينها( الست ديكو) تحبباً. وكذلك زميلتي في كلية الهندسة في السبعينات آراكس( نسبة الى نهر شهير يمر في اراضي ارمينيا) آكوب ذات العيون الزرقاء الواسعة ومن صفوة جميلات جامعة الموصل، كنت اهرع منذ الصباح لاحجز مقعدا لها وآخر لصديقتها( سناء غريب) حتى احظى بابتسامة منها او بكلمة ثناء تكشف عن اسنانها البيضاء، اخيرا تزوجت آراكس من المعيد في قسم الهنسة المدنية رمزي عبد الاحد، وتوجهوا من يومها الى اميركا لاكمال الدراسة. في اواخر السبعينات جلب انتباهي والدها آكوب صاحب محل في الموصل- الدواسة لبيع انواع البولبرينات حيث كانت له طريقة فريدة وناجحة في تصنيفها وترتيبها. اتذكر ايضا مجموعة من فاتنات الارمن في الاول عام في كلية العلوم سنة 1971، وقد قصدن الموصل من محافظات مختلفة، جمعتهن اللغة والقومية المشتركة، وقد حدث لتلك المجموعة ان تعرض لهن استاذ علم الحيوان الدكتور عبدالجبار السماك، وحين افتضح سلوكه فصل من الجامعة في عهد رئيسها محمد المشاط، واشيع في وقتها انه باع اسئلة الامتحان الى الطالبات الارمنيات.
▼ عرفت من الارمن ايضا المهندس( غريب عرب) الذي كنت اعرفه من ايام الجامعة وكان قبلي بعدة دورات، عند تنسيبي الى مديرية طرق نينوى عام 1977، كان المهندس غريب امام ناظري، انساناً محبوباً من العمال والادارة معا، لا يحب المظاهر، بسيط الهندام اغلب الوقت يأتي الى الدائرة الكائنة في الجانب الايسر من دجلة، ووجهه لازال معفراً بتراب الطرق التي يشرف عليها في منطقة زاخو، ان الطرق التي حلم بها المنهدس غريب وغيره من الغيارى ان تكون شرياناً للحياة، تحولت في زمن الدكتاتورية الى طرق عسكرية، لسحق اي نهوض قومي وديمقراطي للمنطقة الشمالية.
▼ اضيف اسم اخر وهو مهران( من اهالي زاخو) الذي كان ملاحظا فنيا في معمل سكرين- قرب سرسنك، جمعتني معه والصديق الكردي حسن نعمت سفرة الى بلغاريا في نهاية عام 1979، في مقهى يالطه بصوفيا جلب انتباهي مهران وهو يتكلم بطلاقة مع احدى النادلات، فقلت يا مهران كيف تجيد التكلم باللغة البلغارية، فاجاب بان الفتاة من اصل ارمني، عندها ايقنت ان سيل المهاجرين الارمن وصل الى تلك الارض ايضا، ابان سنوات الابادة الجماعية.
إلى اللقاء مع الحلقة الرابعة والأخيرة .