Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الاستشارية: افضل الخيارات الجيدة

محمد علي جواد تقي/
عرفنا وشهدنا تجربة (الديمقراطية) في بلادنا الاسلامية نمطاً مفضلاً لإقامة العلاقة الحسنة بين المجتمع والدولة او بين الشعب والحاكم، لكن لم يظهر أحد حتى الان ويجزم ما اذا كان هذا النمط المستورد هو الحل الاول والاخير لمشاكل البلاد والعباد. وهل حقق بالفعل الطموحات والاهداف؟

اذا كانت الديمقراطية قد ظهرت اول مرة في بريطانيا في القرن الرابع عشر الميلادي فان الاسلام قدم الصيغة الاكمل والافضل لنظام حكم آمن وناجح قبل ذلك بثمانية قرون أي في القرن السادس الميلادي عند بزوغ فجره بنور النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حيث جاء في القرآن الكريم على لسان الوحي خطاباً من السماء موجهاً الى النبي بصيغة الامر: "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر"، وفي سورة مباركة اخرى اندرجت الشورى والاستشارة ضمن صفات المؤمنين لنعرف اهمية المسألة ومكانتها وتأثيرها على الانسان في جميع مرافق حياته، "فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى /36-38).

ففي نظام الحكم النموذجي الذي قدمه لنا الرسول الاكرم وبعده أمير المؤمنين صلوات الله عليهما، لم نر أي شكل من اشكال الحكم الفردي او الاستبداد بالرأي او تجاوز آراء وافكار الآخرين، سواء في السلم او في الحرب، او في البناء او الادارة وكل شؤون الحياة، نظراً الى ان الحكم في الاسلام يتكفل بمعالجة كل صغيرة وكبيرة في حياة الانسان، فان الاستشارة او الشورى يجب ايضاً ان تواكب ممارسة الحكم والادارة. وقد قالها الرسول الأكرم في حديث له: (أشيروا عليّ).

بناءً على ذلك نجد ان المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) ينطلق بكل ثقة واعتداد لأن يطرح حكم وجوب الاستشارة على من يتولى أمور الناس، سواء كان هذا الشخص في منصب رئيس الجمهورية او رئيس الحكومة أو المدير او القائد العسكري او حتى رئيس نقابة او اتحاد وحتى مرجع الدين فيما اذا تولّى أمر الأمة الاسلامية في الوقت الحاضر.

هذا الوجوب يأتي – حسب رؤية الامام الشيرازي- من عدة جهات، وقبل التطرق الى هذه بعض هذه الجهات لابد ان نتذكر مقولة رئيس الوزراء البريطاني الاسبق واحد ابرز الساسة البريطانيين في القرن الماضي (ونستون تشرشل) عندما قال عن الديمقراطية بانها (افضل الخيارات السيئة)! بينما سنرى ولو باختصار كيف ان الاسلام يقدم خياراً افضليته تتصل بفطرة الانسان السليمة التي فطرها الله تعالى، مثل حبه للقيم الفاضلة ونبذ القبيح والتعايش مع بني جنسه وغيرها:

أولاً: صمام الأمان

لقد اعتقد الحكام في بلادنا ان مجرد تشييد مباني ضخمة ومهيبة تحمل عناوين كبيرة مثل (مجلس الشعب) او (مجلس الامة) او (مجلس الشورى) وغير ذلك يكفي لان يضفون طابع الشرعية على نظام حكمهم وانهم بهذا الغطاء الفضفاض يمكنهم جمع شمل الشعب وادارته بنجاح، لكن الايام وحدها هي التي كشفت زيف هذا الادعاء. لننظر ما حلّ بمصر التي كان تعد نفسها رائدة التجربة الديمقراطية والبرلمانية في العالم العربي، وكيف ان الشعب المصري يطارد اليوم مسؤوليه على خلفية سرقات وتجاوزات وفي مقدمتهم رئيس (مجلس الشعب)! وكذلك الحال في البحرين حيث نجد بغير قليل من العجب كيف ان مجلس شورى يطبق حكم الاقلية على الاكثرية؟ حتى ان النائب عن الاكثرية اذا رفع صوته بالاحتجاج رُفع فوق رأسه السوط وضرب حتى الموت! كما حصل لاحد النواب في سلسلة الاحداث المأساوية والمروعة في البحرين.

وربما هنالك من يقول: وما بال الاعوام الماضية وآباؤنا الذين سبقونا.... ألم يكونوا في بحبوحة من العيش فلا دخل لهم (لا بالعير ولا بالنفير)، ولا يتدخلون بين السلاطين، وكانوا آمنين. الامام الشيرازي في كتابه (الشورى في الاسلام) يجيب على هذا النمط من الناس المتخاذلين بان (الناس كما يحتاجون الى الطعام لملء بطونهم فهم يحتاجون ما يملأ اذهانهم)، ومعروف ان جوع الذهن هو الثقافة والفكر الصحيح، فكيف سيحصل على هذه الثقافة ان كان غير ذي شأن واهمية لدى الحاكم، وان كانت ثمة ثقافة وفكرة كالذي نشهده من سيل للعادات والتقاليد عبر القنوات الفضائية وفي مواقع الانترنت، فان الانسان في البلاد العربية والاسلامية عليه ان يقبل كونه دمية تحركها الخيوط الخفية، تقف تارةً وتسقط اخرى او ترقص وتقفز...! وهنا تحديداً يخطأ الحكام خطأهم القاتل عندما يسلبون مواطنيهم انسانيتهم ويدفعونهم من حيث لا يريدون للتظاهر والاحتجاج ثم الانقضاض عليهم.

ثانياً: (الناس مسلطون على أموالهم)

في علم الفقه الذي يدرسه طلبة العلوم الدينية، هنالك حديث شريف يعد اليوم قاعدة فقهية يقول: (الناس مسلطون على أموالهم)، هذا الحديث – القاعدة له دلالات كبيرة، فهناك من يدعي وجود (مجلس الشورى) او البرلمان وانه يمثل الشعب بل ان الشعب هو الذي اوصل النواب تحت قبة البرلمان ليتشاورا فيما بينهم ثم يقدموا على سنّ القوانين وتحويلها للتنفيذ على يد الحكومة ليكون كل شيء على مايرام... لكن هل عرف هؤلاء النواب في تجربتهم الديمقراطية تأثير المشورة التي يمارسوها على حياة الانسان؟ وهل انهم معنيون بجانب معين – خلال علمية التشاور- أم بجميع جوانب حياة الانسان؟

الجواب واضح ومعروف لكن للأسف غائب عن وجه الواقع، فالجميع يدعي ان الشعب وكل ما يتصل بحياته تديره الدولة من خلال البرلمان، والطريف ان معظم هذه البرلمانات في بلادنا الاسلامية تصدّر قاعاتها الفخمة والكبيرة بالآية الكريمة: "وأمرهم شورى بينهم"، في كل الاحوال لابأس بذلك ثم ان (ما لايدرك كله لا يترك جلّه)، لكن الحقائق الموجودة تقول ان الاستبداد والديكتاتورية بدأت من التجارب الفاشلة لبعض هذه البرلمانات وانتشر عدواها الى جميع مرافق الدولة وحتى المجتمع المدني من قبيل النقابات والاتحادات، ثم عموم حياة الانسان، من هنا يدعو الاسلام الى ان تكون الشورى والاستشارة قيمة مقدسة لها مكانتها وحضورها في كل مؤسسة او كيان على صلة بحياة الانسان، من قبيل المؤسسات الصحية والمراكز التعليمية والمعامل والدوائر وغيرها التي تغطي نفقاتها من أموال الأمة وثروتها، فاذا كان حقاً يقال ان الثروات المعدنية وفي مقدمتها النفط والغاز تعد ملكاً للشعب كما يدّعي معظم المسؤولين في بلادنا ومنها العراق، فهذا يعني اننا ملزمون بتطبيق قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم)، وليست الدولة هي المسلطة، وهي التي توزع وتمسك، او تعطي لهذا دون ذاك بقرارات فردية او انطلاقاً من مصالح شخصية.

ان بناء المستشفيات الضخمة وتشييد الجسور وفتح الطرق السريعة واستيراد السيارات الفارهة وتوزيع القروض والمنح المالية، لا يكون بأي حال من الاحوال جواباً مقنعاً للناس في حال سؤالهم عن اموالهم وثروة بلادهم التي تبددت في حين تعيش نسبة لا بأس بها من افراد الشعب بين خط الفقر او تحته، الى جانب طبقة محدودي الدخل، وكم من الافراد ماتوا خلال السنوات الماضية من البرد او حتى الحر الشديد او الامراض في وقت يشهد الناس تنعّم أناس آخرين على حسابهم؟ والبلاد العربية التي شهدت الثورات العارمة خير دليل ما نذهب اليه، مثل تونس ومصر التي كانت تعرف في المنطقة وحتى في العالم من البلاد السياحية والجميلة في شوارعها وأبنيتها وخدماتها لكن كانت تخفي ناراً تحت الارض انفجرت بركاناً وحصل ما حصل.

ثالثاً: الاستقرار السياسي

من جملة الاخطاء القاتلة التي ما يزال الساسة في بلادنا يرتكبونها باستمرار، اعتمادهم العجيب والمثير على (الديمقراطية) لضمان استقرار نظام الحكم، وما ان يحصل خلل او مشكلة يلقون باللائمة على الناس الذين انتخبوا النواب والحكومة، واذا ما تصاعدت اصوات الاحتجاج يرفعون بوجوههم (سوط الديمقراطية)، لمكافحة (الشغب)!! بينما الشورى في الاسلام يفتح الباب على مصراعيه أمام مراكز البحث والدراسة العلمية لأن تتشكل وتقدم المشورة لمؤسسات الدولة سواء كانت السلطة التنفيذية او التشريعية وحتى القضاء والجيش والامن. من هنا نعرف ان اول انفصال بين نظام الحكم في بلادنا وبين الاسلام يبدأ من نقطة (الشورى) والاستشارة، لان التخلّي عن المشورة والاستشارة لا يعني فقط حلول الاستبداد والديكتاتورية، إنما التخلّي عن تطبيق المئات من الاحكام الاسلامية – كما جاء في كتاب الامام الشيرازي-، وعندما يجد الناس ان نظام حكمهم بات وجهاً لوجه أمام التعاليم الاسلامية والقيم الاخلاقية، فانه سيدق المسمار الاول في جنازته.

لقد جرب الحكام في بلادنا لاسيما في العراق على مرّ العقود الماضية، كل السبل والشعارات لإبعاد شبح التشاور او تطبيق المفهوم الحقيقي للشورى، لمعرفتهم بان ذلك يفضي الى المراقبة ثم المحاسبة ونهايةً الغاء كل الامتيازات والمكاسب الحزبية او الفئوية او الشخصية. فكانت شعارات الوطنية والقومية والاشتراكية وحماية الطبقة العاملة و.... لكن كل ذلك لم يحل دون انهيار انظمتهم بانقلابات عسكرية او تآمر هذا ضد ذاك، وكل من يقفز على كرسي الحكم يردد نفس الشعارات، فيما تتحمل الشعوب اثمان باهضة في الارواح والثروات الوطنية.

لنلقي نظرة خاطفة على أحد اسباب الاستقرار السياسي في الغرب لنجده يتمثل في وجود المؤسسات ومراكز الاستشارة والبحث وكلها تقوم بدور المستشار لمؤسسات الدولة. يقول سماحة الامام الشيرازي ان الغرب ألف عشرين الف عنوان كتاب حول دولة المؤسسات والتنبيه الى ان المشكلة كانت متمثلة بدكتاتورية الكنيسة التي حكمت باسم الدين كما حكم البلاط الملكي باسم الدنيا.

وبعد كل ما مرّ، تجدر بنا التفاتة الى ان الاستشارة والمشورة او الشوروية ليست دعوة للحكام والوزراء والمسؤولين وحسب، انما هي مسؤولية على عاتق النخبة المثقفة في المجتمع من اساتذة جامعات وعلماء دين وخطباء وكتاب واصحاب رساميل في السوق بان يتبنوا بدايةً قيمة الشورى في كل اعمالهم ونشاطاتهم، حتى يتمكنوا من نقل التجربة والتنبيه لأهميتها الى مؤسسات الدولة او الحكم، واذا ما تحققت هذه الحالة وتكرست هذه القيمة في المجتمع ولو بنسبة معينة فان المؤكد انخفاض عدد الاسقاطات والإخفاقات في السياسة والاقتصاد والامن، ولن يشهد البلد تراجعاً في الاقتصاد ومستوى معيشة الناس ثم التطلع نحو التقدم والرفاه والسعادة.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com/index.htm




Opinions