التاريخ يتكلم الحلقة 29 ,الفلاح يودع حيواناته
طوابير المرضى من النساء والاطفال والشيوخ امام تلك الخيم, الممرضات لا يفحصن المرضى لكنهن كن يستعلمن بالايماءات والاشارات, لانهن لا يجدن غير اللغة التركية ولا يوجد مترجم بصحبتهن. كان يتم اعطاء بعض الاقراص الملفوفة بورقة بيضاء فيتناول الاطفال تلك الاقراص للوقاية من المرض او علاجا لبعض الحالات, واعتقد الكثيرون انها للوقاية من الموت! الخيم الثلاثة اصبحت تعمل على مدار الساعة مما بعث الامل في نفوس اولئك الناس الذين يبحثون عن الحياة الواهنة يتعلقون بها. في خضم تلك المأساة اصبح الموت الروتين اليومي للحياة, وقتلت مشاعر الحزن وانقلبت الى التلبد والشرود.قدمت سيارة جيب يستقلها 5 اشخاص بين رجل وامرأة يرتدون سراويل رعاة البقر كاوبوي جميعا, ويحملون معهم آلات تصوير وتسللوا بين جموع النازحين يلتقطون الصور ويسترقون الى احاديث الناس او يحاولون تنظيم لقاء صحفي مع من يجيد التكلم بالانكليزية او التركية, ولكننا كنا حذرين منهم خوفا من كونهم عناصر قد تكون مدسوسة من قبل النظام العراقي, وتجنبنا الاحتكاك بهم او السماح لهم بالتقاط الصور لنا او الافصاح عن اسمائنا, بعد بضعة ساعات انسحبوا بعد ان نظموا بضعة لقاءات مع بعض المسنين والتقطوا صور عشوائية من مسافات بعيدة.
في اليوم التالي وفدت الينا شاحنة محملة بالخبز وتزاحم حولها الملأ الذين اوشكوا على الهلاك بعد ان انقضت ثلاثة ايام بدون طعام وفي هذه الاثناء كانت الطائرات المروحية التركية تحلق باستمرار لالتقاط الصور والمراقبة الدورية.
واذا كانت الاولوية للطعام والشراب والدواء, لكن ذلك لا يقلل من اهمية الامور الملحة الاخرى مثل مواجهة البرد القارص دون افرشة للنوم او ثياب نكتسي بها, ناهيك عن افتقارنا الى ابسط الشروط الصحية بل وانعدامها, لعدم توفر المنظفات والمعقمات الضرورية, خاصة في مثل تلك التجمعات, بل ان مجرد التفكير بها كان يثير السخرية. اذكر انني اضطررت لشراء خيوط صوفية من شخص تركي وعملت سنارة من غصون الاشجار وتمكنت من حياكة سترة صوفية خضراء اللون خلال ثلاثة ايام, ومن دواعي الغبطة والسرور ان تستطع الحصول على شيء حرمت منه, وكان في السابق من الامور المتيسرة والتي لا يفكر بها الانسان او يعمل لها أي حساب. في احدى المرات ونحن في طريقنا الى نبع الماء, صادفنا شخص كردي عرض علينا قالبي صابون مصنوعة من نبتة حبة الخضراء المتوفرة في تلك المنطقة, ابتعناها منه وكأننا حصلنا على كنز! كانت معي صديقتي بسمة, توجهنا فورا لغسل الثياب التي لم يكن ممكنا التعرف على الوانها الاصلية, كانت بسمة قد اصطحبت معها ثوبا احتياطيا لبسته لحين جفاف الملابس التي غسلت, وشاركتني العملية بسمة واستمرينا على هذا المنوال لفترة تناهز الشهرين.
كانت عزلتنا عن العالم الخارجي شبه تامة, الا ما نلتقطه من محطات الاذاعات الاجنبية التي نسترق السمع اليها في الليل اقتصادا في البطاريات التي اصبحت, هي الاخرى, من الاشياء الثمينة, وهي الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري بتتبع تلك الاذاعات عبر الاثير عن الازمة الكردية والسلاح الكيمياوي الذي اصبح حديث الساعة وفي مقدمة نشرات الاخبار, بقينا في هذا الكلي حوالي اسبوعين.
استيقظنا صباح احد الايام من ايلول, لنجد طابورا من شاحنات الحمل من النوع القلاب تتوجه الينا, توجه الينا شخص يتكلم الكردية وامرنا بان نشد الرحال ونمتطي عنابر تلك الشاحنات المخصصة لنقل الاتربة والرمال. زحف اليها القوم بحركة لا شعورية ليحشروا فيها جالسين القرفصاء, ومنهم من اتخذ حاجياته, كالقدور وغيرها, مقعدا له, مستصحبين معهم ما خف وزنه وغلا ثمنه! وهو امر نسبي في تلك الظروف مثل, بضع محارم وقدور ووسائل ادامة الحياة لا غير. حشرنا في تلك الناقلات بصورة لا يمكن للمرء حتى ان يحرك اقدامه او يغير من وضعها, وحرم الاطفال من الطعام والماء لتلافي حاجات الطبيعة مما يعرقل مسيرة القافلة ويؤخرها. لم يكن ممكنا التغلب على الشعور بالخوف لدى كل فلاح في تلك الساعة الرهيبة, الخوف من ان تكون لعبة تنتهي باقتيادنا الى جلاوزة صدام حسب اتفاق بينه وبين اوزال (رئيس وزراء تركيا في حينها). ولكن الامر الاكثر ايغالا في المعاناة هو ان تراقب ذلك الفلاح الذي يودع ابقاره وماشيته وبغاله وكلابه وتلاحظ مدى انفعال تلك الحيوانات وهي تدرك بدورها ان شيئا غريبا يجري, عواء الكلاب الذي هو نذير شؤم واصوات الحيوانات تختلط مع تأوهات اولئك البشر السائرين الى المجهول, كان احد الفلاحين يناجي بهائمه التي تركها وهو يردد: انكم افضل منا, هنا مرتع ومرعى خصب وكلأ وماء وحرية العيش في كنف هذه الجبال اما نحن فمسيرون الى مصير مبهم", خانته دموعه وهو يودع كلبيه (شيرو_ ورشو) قبل ان يتسلق الشاحنة مودعا اياها بلغته الكردية (بخاتريتا)! احتضن طفله ذا السنتين وبدأ يخاطبه: "اين نحن ذاهبون ياولدي؟ هل الموت بانتظارنا؟ ام ستكتب لنا حياة ليس فيها غير الشقاء والمرارة؟" نستشف من ذلك الحديث اللامبالاة لما يدور حوله بعد ان جردت منه انسانيته واصبح مجرد رقم.
ساعة الانطلاق كانت التاسعة صباحا. اخترقت عشرون شاحنة الطرقات الوعرة عبر تلك السلاسل الجبلية المتصلة تارة نجد انفسنا في اعلى قمة, واخرى تهبط بنا الى هوة سحيقة فنتمايل يمينا وشمالا ونحن كأننا ريشة في مهب الريح ويخال الينا بين لحظة واخرى باننا سوف ننزلق من اماكننا لنهوى في متاهات تلك الجبال. وفي كل استدارة او حركة مفاجئة يرتفع الصراخ والعويل والاطفال لا ينفكون من ترديد (برسينا) (آف) أي خبز! ماء! استمرت المسيرة حتى الخامسة مساء دون توقف ودون ان نصادف قرية او ان نلتقي كائنا بشريا, ولحسن الحظ تعطبت احدى الشاحنات فتوقفت القافلة وتسابق الناس الى الهبوط منها والتوجه الى العراء لقضاء حاجاتهم الملحة. اقدامنا متورمة وقد اصابها الخدر بسبب الجلوس طويلا دون حراك, لكن عندما يتاح للابدان ان تجد سبيلا الى قسط من الراحة تذكرهم الامعاء الخاوية والاوردة الجافة, بكسرة الخبز ورشفة الماء! الاطفال يصرخون وهم يتضورون جوعا ويموتون عطشا. انها لحظات حفرت في ذاكرتي ولا يمكن ان انساها. الصراع بين الجميع حول من يجلس ومن يبقى واقفا في تلك الشاحنات, بعضهم قضى المسافة كلها وقوفا. اتذكر عبدالله وشقيقه فتاح كمثال الذين ظلوا هكذا طوال الطريق حيث لا مكان لهما للجلوس. كان هناك نبع قريب تخر منه مياه ينبوع (يسمى ريبار) توجهنا اليه للاغتسال. بعد ان ارتوى الجميع بدأت النساء يغتسلن ويغسلن اطفالهن الذين يصرخون رافضين ذلك, مطالبين بالخبز والطعام, والامهات لا يعيرون ذلك اهتماما فليس بيدهن حيلة. مرة اخرى حشرنا انفسنا في تلك الناقلات والصراخ يتعالى فالجمع بين من يطالب بالجلوس او فسح المجال لايجاد موطىء قدم, وبكاء الاطفال متواصل وبنغمة مختلفة, لقد نسوا الجوع لان البرد بدأ يلفح وجوههم واجسامهم الغضة, خاصة بعد ان بدات الشمس بالمغيب وزحف الينا الليل. لم نعد نسمع غير (صارا) أي بردان, ولا وسيلة لدينا غير الاستعانة بتلك الاغطية والمحارم القذرة, والمتسخة التي استعملناها بادىء الامر للجلوس عليها. انتزعناها من تحت اقدامنا لوضعها فوق اولئك الاطفال او فوق اكتافنا للاحتماء من البرد الذي بدا لا يحتمل. كنا نتوزع كل 10 اشخاص بثلاث بطانيات كان الدهر والقذارة قد اكلا منها وشربا وهي كل ما نستطيع الاحتماء به من البرد في الليل واثناء النوم. كانت رائحتها لا تطاق لان الاطفال قد فقدوا زمام امرهم وسط ذلك الجو غير المستقر الشديد البرودة مما سبب لمعظهم نوبات من سلس البول. اضافة الى تلك الصعوبات فان اغلب النساء اصبن بدوار السفر وبدأن بالتقيؤ خاصة ان بينهن من يركب السيارة لاول مرة. وهكذا استمرت الاوضاع بالتردي على كافة الاصعدة. وزاد الطين بلة ان قسما من الاطفال اصيبوا بالاغماء فكنا نلجا الى تحريك اطرافهم لتنشيط دورتهم الدموية ولا حول للامهات غير التضرع الى الله.
سكون الليل يقطعه صوت الشاحنات المختلط مع عويل الاطفال والصراخ والنقاشات العقيمة كنا نجاهد خلالها للاستماع الى الاذاعات بواسطة الترانسوسترات الموجودة معنا, وكان اول تصريح للحكومة التركية هو موافقتها على استقبال اولئك اللاجئين في مخيمات مؤقتة. انها انباء مشجعة بعثت الامل فينا, فعلى الاقل بتنا في مأمن من ملاحقة السلطات العراقية.