Skip to main content
التاريخ يتكلم الحلقة 37 المعونات الدولية للاجئين Facebook Twitter YouTube Telegram

التاريخ يتكلم الحلقة 37 المعونات الدولية للاجئين

زار مخيمنا وفد من الائمة السعوديين وبصحبتهم شاحنتان من الاغطية وزعت على المخيم كذلك شاحنتان اخريان محملتان بالتفاح والبرتقال, لم نكن نعرف طعمها منذ فترة طويلة. حديث اليساريين قصيري النظر يشكك في تلك المساعدات كونها من جهات يمينية معروفة بولائها للأمريكان! لكن أليس ذلك نوع من انواع التعصب الاعمى ونحن في ظرف نحتاج فيه الى قطرة ماء وحبة دواء وقطعة رغيف من أي مصدر كان؟ نحن نتطلع الى من يقدم يد العون لاولئك الاطفال وينتشلهم من براثن الجوع والموت والمرض حتى لو كانت من الشيطان, اذ عندما يتعلق الامر بانقاذ مريض مشرف على الموت, فان منعه من تناول دواءه لانه من مصدر يميني, يبدو غير مبرر وغير مفهوم, ولا يمكن فهم الاهداف الانسانية النبيلة, التي هي جوهر المعتقدات السياسية وتدعو الى خير للبشرية اذا لم تنعكس في مواقف ملموسة تتفاعل مع مشاكل الانسان في ظروف قاهرة كالتي نعيشها.
والسعودية بالذات دولة اسلامية غنية ولكنها تجعل من الدين غطاءا لمصالحها في تعاملها مع العالم الاسلامي, ولكنها هل تقاطع العالم الغربي لانه لا يدين بديانتهم؟ على العكس ان علاقتها بالغرب او الامريكان خاصة لا يمكن ان تنفصم.
في كانون الاول 1989 زارنا وفد اوربي من احدى المنظمات الانسانية, اعتقد ان التكتم على اسمها من الضرورات الواجبة, كان برفقتهم رجال من الامن التركي, زاروا خيمتي مباشرة ودون انذار سابق. بدأنا نتكلم عن ظروف قدومنا الى تركيا. سألوني: اذا كنت استاذة في الجامعة فكيف حشرت نفسك هنا؟" وخشية من رجال الامن التركي لم اصرح لهم بانني كنت في صفوف البيشمركة. وكذلك فان الدعاية السياسية لم تعط للمرأة حقها في الانتشار والتعريف بها, ووجود كوادر نسائية ذات مستويات ثقافية في صفوف الحركات النضالية, فالكثيرون لا يكترثون لوجود العناصر النسائية في التنظيمات الثورية والعسكرية ويعتبروها عبئا ثقيلا عليهم. كانت اجوبتي تتعلل بكون اخوتي من المعارضة وضمن تشكيلات البيشمركة, لذا طردتني السلطات العراقية من وظيفتي ولاحقتني. اخبروني بانهم سيساعدونني, بشكل خاص, عبر الامم المتحدة وقنواتها. كان الوفد مكونا من فتاتين ورجل وبصحبتهما ضابط امن تركي, لمحته منشغلا مع رزكو وابونزار فانتهزت الفرصة لاضع ورقة مكتوبة باللغة الانكليزية, كنت قد اعددتها لمثل تلك الفرصة, كانت عبارة مكتوبة على ظهر علبة السيكاير " ظروفنا صعبة والمساعدات القليلة الممنوحة لنا تصادر معظمها من قبل جهات الله عارف بها , لذا نحن بحاجة الى المعونات المادية والاغذية والملابس." في اليوم التالي اتصلوا بي هاتفيا معربين عن فهمهم لتلك الملاحظة المكتوبة, قالوا لي: درسنا قضيتكم وعند رجوعنا الى بلادنا سنقيم لعبة كرة القدم نجمع ريعها لصالحكم, لصالح اكراد ماردين, سنسلمها لكم باليد لدى زيارتنا لكم ثانية وسيستغرق منا ذلك حوالي الشهرين." وطلبوا مني ان اكون دائمة الاتصال بهم, وعند التكلم بالهاتف سيوجزون لئلا يثير الامر الشك.
بعد شهر اتصلوا هاتفيا من بلادهم يعلنون ان العملية تستمر بنجاح وسيتوجهون لزيارتنا بداية شهر آذار 1989 . وفعلا تم اعلامي قبل يومين من وصولهم في السادسة مساء سيكون موعد قدومهم ليسلموا الامانة لي, حضر الوفد ومعه حقيبة تحتوي على ملابس شتوية مع كمية من الشيكولاتة, وطلبوا مقابلتي وكان يرافقهم ضابط امن تركي.
كنا قد رتبنا الامور مع لجنة المخيم للعمل على الهاء الضابط لصرف نظره عن الموضوع. بعد عشرة دقائق من الحديث وكيل المديح للحكومة التركية (لتغطية العملية) طلبت الفتاة ان ارافقها الى دورة المياه وكانت انجح وسيلة. وبدلا من ذلك ذهبت الى خيمة رزكو, وكانت زوجته بانتظارنا, خلعت الفتاة ملابسها, فقد كانت ترتدي معطفا عريضا حشيت النقود في ثنياته وبطانته, وكذلك كانت قد شدت قسما منها على ساقيها, بطريقة فنية ماهرة, وعلى ظهرها وبطنها. بعد ان انتزعتها كان المبلغ (64 الف مارك الماني). عدنا ادراجنا الى الخيمة وبعد عشرة دقائق خرج الوفد مودعا ايانا. بعد استلامي للنقود وضعتها تحت فراشي, ابن رزكو الذي كان يغط في نوم عميق وضعنا النقود تحت فراشه, وقبل ان تودعنا الفتاة اخرجت من حقيبتها دفترا وقلما فوقعت لها باستلامي للمبلغ, كتبته رقما وكتابة, بخط يدي. اخذت الورقة واحتفظت بها في حقيبة يدها معلنة بانها المرة الاولى في حياتها التي تمارس عملا سريا كهذا, ثم غادرتنا ونحن في سعادة وفرح لا يوصفان.
بعد ان ودعهم رزكو وابو نزار والآخرون رجعنا الى خيمة رزكو لنحصي النقود للتأكد من صحة الارقام, كان المبلغ مطابقا تماما. واجهتنا الآن مهمة صعبة اخرى وهي صرف النقود خارج المعسكر. في نفس الوقت كانت الفتاة سلمت لي رسالة باسمي فتحتها لاجد فيها هدية شخصية لي بقيمة (500 مارك) من تلك المنظمة, للجهود التي ابذلها في المعسكر. تبرعت بالمبلغ بدوري الى اللجنة المسؤولة عن المخيم, ولكن رزكو اخبرني بانهم لا يقبلون استلامها مني لان جهودي لا تثمن وهذه ابسط هدية يمكن تقديمها تثمينا للجهود الجبارة والحثيثة التي ابذلها (والقول لرزكو) "لذا دعي النقود بحوزتك" ونزولا عند رغبتهم والحاحهم احتفظت بها.
اتخذنا قرارا في اللجنة وهو تكليف احد اعضاء اللجنة للذهاب الى المدينة ليصرف قسما من تلك النقود حتى لا تنكشف العملية امام المسؤولين الاتراك. وبعد عشرة ايام تمكنا من صرف المبلغ بكامله, فاتخذ قرار في اللجنة بتوزيع المبلغ بالتساوي على كل افراد المعسكر وكان نصيب كل فرد (4000) ليرة تركية, وكان مبلغ لابأس به للعائلة, وطلبنا من نفس المنظمة تزويدنا بالادوية. لكنه بدأت الاقاويل والتساؤلات عن مصدر تلك النقود ودعي مختارو القرى للاجتماع ومجموعهم حوالي سبعون عنصرا وكنت المرأة الوحيدة بينهم. كان المتطرفون المسلمون يثيرون الشكوك ويحرضون ذوي العقول المريضة, ويفتون بفتواهم بمناسبة وبدونها: كيف تستطيع امرأة انجاز كل ذلك؟ حضرت الاجتماع ووضحت ابعاد العملية وكيف تمت بين اطراف ثلاثة هي لجنة المخيم المتكونة من الاعضاء النشطين من الاكراد وانا والمنظمة الدولية تلك. كنت انا التي استلم النقود ولدي محضر موقع من قبلي ومن قبل الفتاة الاجنبية, اخرجت الورقة وقرأت عليهم مضمونها والرقم المدون فيها. اجابني احدهم: نشكر جهودك ونشكر ونثمن امانتك لكن نتساءل كيف تمكنت من ترتيب العملية؟ قلت لهم لا داعي للخوض في التفاصيل.
بعد اتصالاتي الكثيرة ونشاطي الدائب وحضوري في كل المآزق والاجتماعات والمشاكل, بدأ البوليس التركي بمراقبة تحركاتي, خاصة في شهر آذار, حيث انهمكت في فعاليات ونشاطات محمومة مجموعة من رفيقات البيشمركة في المعسكر جمعنا تواقيع وجهنا عريضة الى الهيئات الدولية لانقاذنا من الوضع المزري . ادركت انني يجب ان احتاط لذلك وان اخفف من تلك الاتصالات, خاصة ان الناس والمنظمات بدأوا بالاتصال بي من خارج تركيا يسألوني عن مدى حاجتي للنقود. كنت بدوري ارفض استلام اية مبالغ من أي شخص لان ذلك يمكن ان يفسر من باب العطف, فانا مناضلة اخترت طريقي في الحياة بنفسي, وواجهت الموت في سبيل المبدأ, في اوقات ومناسبات عدة. ومن الصعوبة بمكان ان يشعر المناضل بان الناس يعطفون عليه, وان يضع نفسه في موقف طالب الرأفة, ويمكن ان تقود الى الامتهان والمذلة. وعندما تتردى الامور بالثوار الى هذا الدرك فانهم يضعون انفسهم في موقف لا يحسدون عليه, فهم يحكمون على انفسهم بالنهاية غير المشرفة. لذلك لم اضعف او انحني امام الملمات واتمنى ان ابقى كذلك مدى الحياة.
د. كاترين ميخائيل ‏02‏/11‏/2006
Opinions