التاريخ يتكلم الحلقة 96 تجربة مريرة مع المهربين "القجخجيا "
في اليوم التالي ذهبت لالقاء محاضرتي في الجامعة، استقبلتني صديقتي الجزائرية فتيحة. كانت تعرف انني من المعارضة العراقية ولديها تصور مسبق عن مجمل نشاطاتي وهي متعاطفة معي. وفي فترة الحرب شعرت انها تبدي بي اهتماما خاصا وكانت تقدر آثار النكبة التي يعاني منها كل عراقي غيور، وحدثتني عن احدى الطرائف التي انتشرت في الشارع الجزائري، فصور صدام كانت تباع باثمان غالية ويفتخر بها الجزائريون فهي تحتل الصدارة في بيوتهم، حيث يضعونه في مرتبة القادة التاريخيين العظام، فاقبل شخص ليشتري احدى تلك الصور فوجدها غالية ولا يمتلك ثمنها، فما كان من البائع وليبدد حيرته، الا ان يبادره بالحل قائلا: اذا لم تمتلك ثمن صورة البطل صدام الغالية، فاشتر صورة للشاذلي بن جديد (رئيس الجزائر حينئذ) فهي رخيصة!" ضحكنا لتلك النكتة، وهي تدل على مدى بغض المتطرفين والاسلاميين لرئيس جمهوريتهم.في الفترة نفسها بدأ التلفزيون الجزائري يعمل 24 ساعة مكرسة للتضامن مع الشعب العراقي ، واعلن عن((Teleton حملة تبرعات قامت بها مختلف الاوساط الجزائرية لدعم المجهود الحربي العراقي، ومساندة لشعبه، كما عرضت مذبحة العامرية على شاشة التلفزيون: مئات الجثث المحروقة والمشوهة منتشرة وسط الاكوام من بقايا الملجأ الذي احاله صاروخ موجه، الى مقبرة جماعية. كان منظرا مروعاً لاشلاء اولئك الابرياء الذين قصدوا الملجأ ليحتموا به فاذا به يتحول الى مقبرة! ولا يقل منظر الجماهير الحزينة الغاضبة وهي تشيع اولئك الشهداء. كان ذلك مدعاة للأسى والالم الذي يدمي القلوب. ذهبت الى الجامعة في اليوم التالي لالقاء محاضرتي، فوجدت العيون شاخصة نحوي وهي تعبر عن مشاركتها لمشاعري والحزن للمأساة التي القت بظلالها على اهلي وشعبي في العراق. لم اتمالك نفسي حيث خانتني دموعي ووجدت ان الطلبة في مدرجات القاعة ويربوا عددهم على المائة تقريبا، يشاركونني البكاء. اعتذرت لعدم استطاعتي القاء المحاضرة في ذلك الجو المشحون بالالم. لكن صديقتي الجزائرية لم تتركني اعاني وحدي من ذلك الوضع النفسي الاليم فاصطحبتني الى منزلها وكانت تعتذر لعدم اصطحابها لي الى مكان عام يستطيع المرء ان يريح اعصابه فيه، كأن يكون متنزهاً عاماً او مكاناً للراحة نستطيع ان نسمع فيه موسيقى هادئة. اذن لا مجال لنا غير المنزل. علقت صديقتي قائلة باننا نتقهقر الى الوراء في ثقافتنا وحضارتنا. كنا في السابق طليقين نستطيع التجوال في كافة انحاء الجزائر، فتيانا وفتيات، دون ان يثير ذلك حفيظة احد. الان نجد انفسنا محاصرين من قبل اهواء ورغبات الاميين والقرويين الذين يفرضون علينا اراءهم بقوة السلاح! والمرأة المثقفة معاناتها اكبر لانها لم ولن تقتنع بذلك الواقع المجحف، ويزيد في الطين بلة ان المدارس تربي النشء على نهج خاطيء، وتصور للحياة فيه كثير من المغالاة والتطرف، وكانت تلمس ذلك من خلال ما تعانيه طفلتها ايمان وما زرعوه من بوادر التمييز بين الانثى والذكر.
كنت ازداد قناعة ان هناك قوة خفية تريد تحطيم الشعب الجزائري والقضاء عليه. فاية ديانة تسمح بان يتسلط ناس على اخرين وان يقودونهم كما يشاؤون وبالاكراه؟ لم يكن الاسلام، يوما، حجر عثرة في سبيل التقدم والمعرفة حيث المقولة المشهورة التي كان يرددها الصالحون تحث : (اطلبوا العلم من المهد الى اللحد) و (اطلبوا العلم ولو في الصين) وكذلك فان الاسلام لم يحرم المرأة من حقوقها في العمل والمشاركة في المجتمع، بل العكس هو الصحيح، فزوجة النبي محمد السيدة خديجة كانت تعمل في التجارة حين تزوجها. كما كانت هناك شاعرات انبرين للتعبير عن آرائهن بجرأة وثقة في النفس. لكن المتطرفين تمسكوا بقشور اغلب الظن انها دخيلة على الديانة الاسلامية.
ومن افرازات هذا الواقع المرير ان لا خيار للطبقة المثقفة والمتعلمة الا ان تهجر اوطانها، كما يحدث الان، حيث فقدت قوتها وتأثيرها السياسي وفعاليتها في المجتمع، واخلت الساحة لموجة التطرف والانسياق وراء الحقد الاعمى.
انتهت العمليات العسكرية لحرب الخليج ولكن كيف يتسنى لي معرفة ماذا حل بالاهل والاصدقاء؛ من استشهد؟ ومن بقي على قيد الحياة؟ خاصة بعد انعدام وسائل الاتصال حيث دمرت البنية التحتية برمتها في العراق. يضاف الى تلك الهموم، الخطر الناشيء عن نشاط الاسلاميين وتزايد حملتهم على المرأة. كنت اشعر بان رياحها ستلفحني، وانتظر فصل الصيف لاستطيع اتخاذ القرار المناسب. الاضرابات مستمرة طوال الايام في الجامعة ولكن لا بد من الحضور. وفي الطريق كنا نتحسب للمفاجات ويتسلل الخوف الى قلوبنا، وهو ما يشكو منه جميع الاساتذة الاجانب.
كانت لدي سيارة واحيانا اصطحب معي الدكتور ابو شدْى الذي لم تكن لديه واسطة نقل، ونحن في طريقنا الى الجامعة صباح احد الايام صادفنا تظاهرة للاخوان المسلمين. يا لها من كارثة لو تحققوا من هويتي! تولى د.ابو شدْى زمام الامر وقال اتركي الحديث لي فقط. اوقفوا السيارة بامتعاض شديد، سألوني لماذا انت تقودين السيارة وزوجك بجانبك؟ اجاب د. ابو شدْى لدي آلام شديدة في قدمي اعاقتني عن القيام بذلك فلهذا سمحت للمدام قيادتها هذا اليوم فقط، فعادة انا اقود سيارتنا، سألوه من اين انتم؟ قال من العراق، وهل زوجتك عراقية؟ اجابهم نعم، كيف تسمح لنفسك ان تجلس بجانب امرأة وهي تقود السيارة؟ اين شهامة الرجل؟ الست مسلما يا رجل؟ انتم العراقيون اسلام مثلنا، يجب ان لا يتكرر ذلك مستقبلا! تركونا نشق طريقنا الى الجامعة مسرورين بهذا الانتصار! لكن ما هذه الحياة التي نضطر فيها كالاطفال، ان نكذب على انفسنا ونحن مسؤولون عن تربية الاجيال فكريا وعلميا؟ كيف ونحن استاذان جامعيان، نبرر موقفا يعتبر من ابجديات الحياة في اكثر الدول النامية تخلفا، ونغالط انفسنا ونسكت على الحقائق او نتجنبها خوفا من سطوة الافكار البربرية المعشعشة في اذهان اولئك المتمردين على منطق الحياة اليومية الطبيعية. شر البلية ما يضحك قال ابو شدْى اخ لو تعلمو عن حقيقتنا . كلانا لسنا مسلمين ونحن اخت واخ ايها الاغبياء واخدْنا نضحك مع بعض .
لا مجال لقضاء او قتل الوقت غير اللقاء بصديقتي الجزائرية التي،كانت هي الاخرى، تعاني من ذلك الوضع. كنت عندما ارجع الى داري يتبعني زوجها بسيارته خوفا من ان يعترضني احد من اولئك المتطرفين في الطريق ولا يتركني الا بعد ان اصل باب داري فيقفل هو راجعا.
واخيرا، وفي نهاية العام الدراسي، نصحني اصدقائي بترك الجزائر، وفعلا عملت بنصيحتهم وهربت من ذلك الجحيم متوجهة الى بلغاريا خوفا من ان اتعرض للاعتداء على حياتي تاركة مرتباتي لثلاثة اشهر وسيارتي وامتعتي الشخصية وملابسي الشتوية ايضا.
توجهت الى فارنا عند المرحوم اخي باسل وعائلته واخي ازاد وقضيت فصل الصيف هناك، وانا احاول طوال الوقت، الحصول على تأشيرة سفر الى احدى الدول التي تمنح اللجوء. سافرت الى صوفيا في نفس الموسم، اكثر من عشرة مرات احاول ايجاد من يستطيع تهريبي الى الدول التي تقبل اللجوء فلم افلح، وقضيت ليالي كثيرة بين صوفيا وفارنا، علما بان المسافة تستغرق اكثر من ثماني ساعات في القطار، واثناءها اتصلت هاتفيا بالدكتور ايو شذى وزوجته اسأل عن وضعهم واحوالهم واحوال الجزائر. نصحوني بعدم العودة، زوجته حامل وممنوعة من السفر فاتخذت قراري بالبقاء في بلغاريا، لكن مدة الاقامة في تأشيرة السفر انتهت وفكرت انه لا مجال للبقاء بغير الاستثمار, وهي الطريقة التي تمكنني من الحصول على الاقامة هناك وذلك بفتح شركة استثمار. خلال ذلك علمت ان هناك مهربا عراقيا يعتبر من كبار المافيا في هذا المضمار، ابدى استعداده لتسفيري انا ولينا زوجة اخي باسل وطفلتها سوزان، الى بلد نستطيع تقديم اللجوء اليه.
كان ذلك الشخص يمتلك شركة تجارية للملابس والحلي قرب نتاريوس وعند اتصالي به اوضحت له بانني اجيد عدة لغات. اعرب عن استعداده للاتفاق وتنفيذ العملية وقال ان ذلك سيسهل الامر وقال موضحا استطيع تسفيرك بجواز انكليزي لانك تتكلمين الانكليزية بصورة جيدة، واشترط ان امزق الجواز في حالة وصولي الى الهدف ولا ابقي أي اثر له.
كانت الخطة تقضي بان اغادر مطار صوفيا مباشرة الى اوتاوا بدون ترانزيت على متن الخطوط الكندية / البلغارية، حيث تقلع الطائرة من تايوان وتقف في صوفيا وبعدها تطير الى كندا لتهبط في اوتاوا وهناك ستطلبين اللجوء. اتفقنا على المبلغ وهو (5000) دولار يستلمها قبل صعودي الى الطائرة، سألته في حالة انكشاف الامر واعتقالي كيف اتصرف وماذا يمكن ان يحصل لي؟ وهل سيسفروني الى العراق او اطرد من بلغاريا، حيث سأخسر كل نقودي واكون في موقف لا احسد عليه، قال انه في حالة حدوث ذلك يجب ان اتدبر امري فانا مسؤولة عن كل ما يطرأ من امور ولا علاقة له بمصيري. ومع ذلك، بالرغم من انها مجازفة غير محسوبة النتائج ولا تحمد عقباها وافقت على امل ان استقر في بلد ما، فرجعت الى فارنا على هذا الامل.
اقبل الخريف مبكرا، ولم يكن لدي سوى الملابس الصيفية، كنت اعيش مع لينا وابنتها سوزان واخي ازاد ، وها نحن ندخل فصل الشتاء ولا ملابس لدي ولا استطيع شراءها اقتصادا واعداداً للامر الذي ينتظرني. ولا اتمكن من استعارتها من زوجة اخي لانها اضخم مني واطول، وانتظر كل يوم اربعاء على امل ان يتصل ذلك الشخص بي، ويخبرني بموعد السفر. كان ذلك يتم بمنتهى السرية، وبعد طول انتظار وفقدان الامل، اتصلت لينا بشخص غيره، وسافرت الى صوفيا لهذا الغرض واتفقت مع شخص اسمه انور حيث طلب مبلغ (11000) دولار لتهريبنا انا ولينا وابنتها على ان ندفع له عربونا مقداره (2700) دولار لعمل جوازات مزورة ووعدنا بانه سينفذ العملية خلال اسبوعين. كان ذلك في خريف 1991 ونحن بانتظار السفر على احر من الجمر.
كنت انا وسوزان في البيت حين هرعت الى الهاتف الذي كنا نترقب رنينه بلهفة، واذا بابن خالتي رمزي على الطرف الآخر، في صوفيا، يخبرني بان انور قد هرب بالنقود وانه رجل مقامر، خسر كل المبالغ التي كان قد جمعها مني ومن اناس آخرين، حوالي (25000) دولار، على مائدة القمار. توجه اخي ازاد الى صوفيا يبحث عنه، لكن جهوده لم تفلح بشيء ولحقت انا به لاثنيه عن عزمه اذ لا فائدة من المجابهة مع اناس ارتباطهم المباشر بالمافيا، وهم يتواجدون عادة في المقاهي وعلب الليل الخاصة بتلك الشراذم من الناس. اقنعت اخي ازاد الذي كان يسكن بلغاريا حينها، ان سلامته وسلامتنا اهم من النقود ومن عزمنا على السفر الى بلد آخر.
فكرنا بموسكو لينا لها شقيق هناك. اتصلت به فشجعنا على السفر اليه واوضح بان لديه صديق يعمل في المطار بامكانه ان يرتب لنا السفر الى أي بلد نرغب. حصلت لينا لكلانا على تأشيرة الدخول من القنصلية الروسية في فارنا فقد اوضحت لهم باننا خريجات الدراسة في موسكو ونرغب في زيارتها. تمت الموافقة بعد عشرة ايام، غادرنا الى موسكو بالقطار واستغرقت الرحلة 36 ساعة، تملكني شعور بالحزن والاكتئاب لانني تركت اخي ازاد لوحده في فارنا، لكني كنت افكر بانني سوف اجد له حلا حالما استقر في مكان ما، ومن ضمن المحاولات اللاحقة، اتصالي بصديق اخي باسل اسمه حكمت الياس، المقيم في النمسا، سألته ان كان بامكانه ترتيب لجوء سياسي للاخي ازاد في النمسا، فوعدني خيرا، كان ذلك مبعث اطمئنان لي. ثم مرت اشهر على فراقنا وعلى الرغم من مرارتها كان لدي شعور ينبئني بان كل شيء سيتغير.
وصلنا موسكو نهاية شباط 1992 ، وكان في استقبالنا شقيق لينا عادل. الجو شديد البرودة، وانا لا املك ما البسه سوى تلك الملابس الصيفية, حيث وكما اسلفت, تركت كل ملابسي الشتوية في الجزائر. لكني كنت انسى ظروفي الخاصة تلك وجل اهتمامي ينصب على ايجاد منفذ للسفر. اتصل عادل مع المدعو (سيروان) كان يعمل في الخطوط الجوية العراقية داخل مطار موسكو وزوجته روسية حيث تخرج من موسكو، دعوناه الى البيت لتناول الغذاء والتعرف عليه، وفعلا كان يبدو شخصا مثقفا ثقافة جيدة ولم تتعدى معرفتنا به غير ذلك. اتفق مع عادل بان ندفع له مبلغ (4000) دولار مقابل تسفيرنا نحن الثلاثة، ولم نكن نحتكم الى اكثر من (1000) دولار اتصل اخي سلام بابن عمتي ريمون برنو في كاليفورنيا ليسعفنا بباقي المبلغ. حاول ذلك عبر المصارف السوفييتية ولكنه لم يفلح. ففي تلك الفترة لم تكن المصارف الامريكية تقبل بالتعامل مع المصارف الروسية التي تعمها الفوضى وعدم المصداقية حيث كانت آلاف الدولارات تتسرب وتتلاشى نتيجة عمليات مشبوهة، حالها حال كافة المؤسسات التي تفتقر الى النظام. موسكو تلك المدينة الجميلة التي كان فيها كل شيء نظامي وامين، اجدها الآن مأوى للمافيا واللصوص، تغوص في عالم مأساوي يعاني من آثاره اولئك الذين اعتادوا النظام والاستقرار الذي قل نظيره في العالم، ونتيجة لفشل محاولاتنا في الحصول على المبالغ المطلوبة، اتصل المرحوم اخي باسل بصديقه في النمسا (حكمت الياس) الذي لم يبخل علينا به وفعلا وصلنا المبلغ بعد ثلاثة ايام. استلمه عادل فورا متوجها به الى (سيروان) الذي كان عليه الآن شراء تذاكر السفر. ذهبنا الى المطار بانتظار الطائرة التي ستقلنا الى مونتريال وهناك نطلب اللجوء، ونحن ننتظر اشارة من سيروان وكنا في الوقت نفسه نلاحظ حركة الطائرات واذا بطائرتنا موشكة على الاقلاع! بعد مغادرتها بربع ساعة، جاء سيروان ليخبرنا بانه لم يستطع التحرك لان الشخص المعني بالتوسط في تلك العملية كان في وضع صعب حيث الرقابة مشددة على المطار.
اقتنعنا بذلك التأويل وقفلنا راجعين الى البيت ونحن كلنا ثقة بسيروان ,ننتظر الاسبوع التالي الذي سيتمكن خلاله من انجاز المهمة. لكن العملية تكررت ايضا، وبنفس الاسلوب، مما جعلني اعيد حساباتي فاراجع ثقتي به وتقييمي له، واخذت اركز على سلوكه وابحث عن اصله ونتيجة جهودنا في ذلك المجال، اتضح لنا انه هو الآخر مقامر كبير وقد انفق ما استلمه من عندنا، بنفس الطريقة السابقة.
كان وضع عادل محرجا في وقت يتهيأ فيه للدفاع عن اطروحة الدكتوراه، واخبرنا بان سيروان خسر المبالغ على موائد القمار وله مشاكل مع زوجته التي تطالبه بالطلاق. عاودتني دوامة اليأس وشعرت ان الابواب، جميعها، موصدة امامي فلا استطيع ان اخطط حتى لليوم الذي اعيش فيه لاني اعيش الضياع وعدم الاستقرار.