Skip to main content
التاريخ يتكلم الحلقة 84 تركيا المحطة الثانية Facebook Twitter YouTube Telegram

التاريخ يتكلم الحلقة 84 تركيا المحطة الثانية

كان ذلك في بداية ايلول 1982، الساعة الثانية بعد الظهر وبعد وجبة الغذاء اسستلمنا الملابس العسكرية وهي بلون الخاكي، بدلة بيشمركة مع مسدس جيكي سريع الطلقات يسمى (مسدس رشاش) وهو مسدس ضخم يربط على الحزام واثناء الاستعمال يطلق مفرد ويتحول الى رشاش يطلق 20 اطلاقة في الدقيقة وطلقته بحجم طلقة المسدس العادي. زودت كل رفيقة بمثل ذلك المسدس، جيكي الصنع وهو اخف من البندقية، وكان السلاح الذي يحمله الرفاق عادة هو رشاش كلاشنكوف.
اثناء الوداع وقف الرفاق الذين كانوا معنا في البيت لتوديعنا. كان توديعا حارا، قبلنا وجوههم الواحد تلو الآخر، وحين وصلت الى الرفيق ابو داؤد( د. سلمان جبو من القوش ) قال مازحا:" ان شاء الله سوف تقعون في كمين تركي!"، كان تارة يمزح وتارة يقول:" لماذا سبقتيني الى كردستان؟" اذ كان في اشد الشوق للعودة الى كردستان، كان قادما من الجزائر حيث كان يعمل استاذا في كلية الهندسة وعانى كثيرا في الجزائر، هو الآخر، من التغرب. لكنه لم يحس بطعم الوطن ونكهة ترابه ولم تتحقق امنيته. واحسرتاه! ان يموت المناضل قبل الوصول الى ساحات النضال وقبل ان يمتشق السلاح.
توجهنا بسيارة بيك آب الى الحدود التركية، كان الليل قد ارخى سدوله واحتوتنا دكنته، بلغنا آمر المفرزة الرفيق عامل بقراره العسكري: على الجميع ان يلزموا الصمت التام. الرفيق عامل الارمني من زاخو هادىء الطبع، شجاع، قليل الكلام، كثير القلق على سلامة الرفاق، جدي، حذر من العدو، سريع البديهة، له خبرة عسكرية كبيرة. فهو مهندس مدني، ومعه المهندس الطيار خليل القادم من انكلترا وهو ايضا شاب ذكي لا يهاب الموت، وسيم الطلعة، لا يعرف الخوف والتخاذل الى قلبه سبيلا. يرافقنا، ايضا، الرفيق ابو حسن العربي الذي ينتظر دخولنا الحدود التركية بسلام اذ يبقى على مشارف الحدود واذا لم يسمع صوت اطلاق نار حتى الثانية بعد منتصف الليل يعود ويطمئن بسلامة الموقف فالمفرزة عبرت بسلام.
كانت مجموعتنا مكونة من 12 رفيقة ورفيق، بيننا من سبق لهم التعرف ببعضهم ومنا من كانت معرفتنا له قريبة العهد. اصبحنا اكثر تقاربا في ايام السفر الصعبة تلك. كنا كلنا نتخاطب باسماء حركية. ابلغنا بكلمة سر الليل (دجلة وفرات) كنا نجيد استعمال كلمة السر فقد القيت علينا من خلال المحاضرات في الدورة العسكرية. انها المرة الاولى التي ندخل فيها الحياة العسكرية ونتعرف الى مفرداتها الصعبة، الخطرة. كنا نرتدي الزي العسكري ونتأبط السلاح ونستعمل سر الليل ونسير في مسيرة عسكرية عبر الجبال الوعرة في ليل داكن الظلمة ونعرف ما معنى الاوامر العسكرية والسياسية، وكل هذا ونحن فرحين جذلين.
وصلنا الحدود التركية البالغة الخطورة، تلقينا الاوامر بالجلوس، مال الجو الى البرودة ونحن ننتظر الاستطلاع. ذهب الرفيق عامل لاستطلاع حركة الجندرمة التركية في المنطقة ونحن صامتين وكأن على رؤوسنا الطير، مصطفين بنسق: الواحد تلو الآخر، والهدوء يخيم على المكان لا يقطعه غير صوت الاشجار التي تلعب بها الرياح او الشجيرات الصغيرة التي ندهسها باقدامنا. كنا مصطفين رفيق ثم رفيقة ثم رفيق جالسين القرفصاء والبرد يسري في اجسامنا. كنا في اعالي الهضبة ننتظر لحظة الانطلاق، حتى استلمنا الاوامر من الرفيق بسيم البصراوي الدْي استشهد في بشتاشان : انهض واركض بهدوء دون اثارة ضجيج او صوت. اسرعنا، بمعنويات عالية، نعبر الشارع الترابي العريض ثم شبكة الاسلاك الشائكة وبعدها، بدأنا مسيرة طويلة عبر هضبة قليلة الصخور ترابية تغطيها الاعشاب اليابسة تسمع قرقعتها من خلال وقع اقدامنا عليها وعلى الاشواك الموجودة هناك. امرنا آمر االمفرزة بالجلوس فورا اذ سمع الاستطلاع صوت خشخشة قادمة. أَمَرنا بحمل وتهيئة السلاح استعداداً للاطلاق، الاصابع على الزناد، وفجأة عبر امامي حيوان صغير بسرعة خاطفة وفي ذلك الليل البهيم الذي لا نستطيع فيه رؤية اصابعنا. نهضنا وامرنا بمواصلة المسير. لعنا ذلك الحيوان وسألنا ما هو؟ قال الرفيق امر المفرزة انه حيوان جبلي يسمى (سيخور) يطلق من جسمه اشواكاً قوية وبسرعة هائلة عند شعوره بالخطر قد تنفذ الى العيون والاجسام، لكنه لم تصدر عنه ردة فعل لاننا لم نصدر أي صوت او حركة فمر دون ان يشعر بالخطر.
السؤال عن اسم المنطقة التي نعبر منها محرم، اذ يعتبر ذلك من الاسرار العسكرية. السؤال عن المسير ووجهته ممنوع، كل شيء يوضع في لوائح الاسرار العسكرية، مدة السير مجهولة، المسموح به قلة الكلام والصبر الطويل وتحمل المشاق.
وصلنا الى منطقة تسمى بالكردية (كلي) أي السهل المحصور بين جبلين لا يمكن رؤية ما يضمه من بعيد. كانت الساعة الرابعة صباحاً، القلق والتعب اخذا منا الكثير، اخبرنا الرفيق عمر انه بامكاننا ان ننام، وان على كل واحد ان يختار مكاناً للنوم واضاف انه سيبدأ باشعال النار، وفعلا اشعل نارا قوية فبدأ الدفء يسري في اجسامنا المنهكة.
منذ ذلك اليوم بدأ نمط عسكري آخر وهو الحراسات الليلية والنهارية، أخذ الرفيق عامل ورقة لف التبغ وكتب اسماء الرفاق المكلفين بالحراسة بالتسلسل، بدأ باسمه ومن يليه بعد ساعة كان يسلم الورقة الى الخفر الذي يتولى الحراسة بعده وهكذا، النار ملتهبة في الوسط. كنا احد عشر رفيقة ورفيق نحيط بدائرة النار والرفيق الذي يتولى الحراسة اعتلى قمة مرتفعة تشرف على المنطقة وكان يراقب النار. نمنا حتى التاسعة صباحا، استيقظنا والكل يشكو من آلام مبرحة في قدميه بالرغم من احتذائنا لأحذية رياضية (تركية صفراء اللون) اسمها (Addidas)اعتاد البيشمركة استعمالها في المناطق الجبلية، لانها المرة الاولى بعد عودتنا من اوربا التي نقطع فيها تلك المسافات وفي تلك الطرقات الوعرة، ظهرت انتفاخات وفقاعات بيضاء في اصابع القدمين، لكن لا أحد يتذمر. كنا نكتم الالم خوفا من اتهامنا بالتراجع او التردد، كان مبدأنا دائما: الى الامام، كل شيء يهون حتى نصل كردستان.
كل مقاتل ومقاتلة كان يحمل حقيبة فيها لوازمه الشخصية البسيطة، فرشاة ومعجون اسنان، جوارب، ملابس داخلية، علب صغيرة من اللحم التركي مع خبز. كانت وجبة الفطور، تتكون من معلبات وخبز توزع بالتساوي، فكل عنصرين يشتركان بعلبة لحم وقرصة خبز واحدة لكل واحد، ونتيجة للاعياء الشديد عاودنا النعاس ثانية. مكثنا نترقب الغروب في ذلك الكلي لنباشر مسيرتنا في الليل. ثم ما لبثت ان صادفتنا سلسلة جبلية في الاراضي التركية، عرفنا ان الجندرمة التركية لا تتواجد هناك قبل الحادية عشر مساءً، اذن نحن في مأمن. تسلقنا السلسلة الجبلية الشامخة في ظلام داكن نكاد لا نميز حتى موطىء اقدامنا لكن المسير بغياب القمر كان هو القاعدة العسكرية لحياة البيشمركة لنكون بعيدين عن انظار الدوريات العسكرية الليلية في اية دولة سواء كنا في العراق او في تركيا. العطش انهكنا والعرق بللنا والريح الباردة التي تنحدر من الجبل تشعرنا ببرودة الجو، المسيرة متواصلة عسكرية / سر الليل( وطن شعب )، كنا في اليوم الثاني من المسيرة الى كردستان العراق. اصعب ما كان يلاقيه المدخنون خلال سيرهم في الليل هو منعهم من التدخين. الكلام فقط من اطراف الشفاه، ممنوع الكلام الا في الحالات الضرورية، حين الشعور بالخطر وبصوت خافت جداً، كنا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل حين قرر آمر المفرزة الوقوف، لا نعلم لماذا؟ كان ينادينا الواحد بعد الآخر. كان هناك ينبوع ماء صغير يصب في بركة امامه. كنا نشرب الماء مباشرة من البركة الصغيرة ونحن لا نعلم، في الظلام الدامس هل الماء نظيف ام لا؟ وصلت لاشرب، وضعت فمي على البركة فأحسست طعم الطين في فمي لكن رغم ذلك شربته وانا اسند جسدي على يدي اليمنى لانهض، سقطت داخل البركة الصغيرة فتبللت ملابسي لا بل تطينت واختلط الماء بالطين، مما حرم بقية الرفاق من شرب الماء. في تلك اللحظة شعرت بذنب كبير لاني حرمت الآخرين من شرب الماء في الوقت الذي كانوا محتاجين لذلك. واصلنا المسير حتى الصباح، فاخذت الشمس ترمي شباكها علينا. رقدنا في كلي امين بعيد عن انظار الطيران والقرقول*، كل اثنين يجلسان تحت شجرة ويفتحان علبة من المعلبات التي نحملها في حقيبتنا الظهرية مع قرصة خبز، بدون ماء، كاد العطش والبرد يقتلاننا الا ان الشمس اخذت تدفئنا. اكلنا وجبة الفطور وكنا ما نزال جوعى ولكن لا بد من تحمل ذلك. انطرحنا منهكين على الارض لنأخذ قسطاً من النوم. كانت الحراسة، كالعادة، تتداول بيننا فكل ساعة يبدل الحارس سر الليل_ جبل وادي _. مكثنا نائمين حتى الخامسة مساءاً لنعاود شد الرحال للمسيرة القادمة. نهضنا جائعين ليس لدينا خبز ولا شيء نأكله فبدأنا نبحث عن البلوط. كان العطش هو القاسم المشترك لنا كلنا، *( قرقول: حرس الحدود التركي). والبلوط جاف لا نستطيع بلعه بدون ماء وارجلنا مليئة بالفقاعات المائية لكن المسير مفروض علينا رغم كل الحجج لاننا قريبون من نقطة قرقول. واصلنا المسير ليلة اخرى، بنفس النسق العسكري، سر الليل (عيد-عمال)، في هذه الليلة العسيرة لا نعرف مما كنا نشكو:
من الجوع،
من التعب،
من وجع الارجل المتورمة، المتقيحة
من الشعور بالخطر،
من العطش،
ام نشكو من صعوبة المسير على ارض جبلية صخرية وما يزيد من صعوبتها المسير على سفح الجبل حيث تنزلق ارجلنا، ويصعب علينا تثبيت اقدامنا ويصبح تسلق الجبل اكثر مشقة ويتطلب جهدا اكبر. القافلة العسكرية تواصل طريقها دون تذمر، دون التعليق على المتاعب والمخاطر، الصمت يطغى على الجميع. لا حق لدينا بالاستفسار من آمر المفرزة عن وجهتنا واي مصير ينتظرنا؟ قبل منتصف الليل وبينما كنا سائرين على هضبة صخرية سمعنا آمر المفرزة ينطق بصوت هادىء:" برزاني " استغربنا جميعا واخذنا حالة الانذار واذا بصوت من الطرف الآخر يجيب " كردا " فهمنا انها كلمة السر بين طرفين يلتقيان. ظهر ثلاثة مسلحين امامنا وتحدثوا مع آمر المفرزة بصوت هادىء. لم يكن بيننا من يتكلم التركية او الكردية لكن الرفيق بسيم آمر المفرزة كان يتكلم اللغتين. ذهب مع المسلحين الثلاثة لجلب العبارة (الدوبة) التي لا بد من استعمالها لعبور النهر العريض الذي كنا وصلنا ضفافه وكان علينا اجتيازه. كانت (الدوبة) عبارة عن الواح خشبية مثبت تحتها اطار عجلة منفوخ مربوط بحبلين طويلين يسحبها شخص آخر من الطرف الثاني، كل ذلك يجري في جو صامت والظلام الدامس يخيم على المكان، تقسمنا وجبات تضم كل واحدة ثلاثة رفاق، وعبرنا ذلك النهر الذي لم نعرف اسمه، اذ لا يسمح لنا بتوجيه الاسئلة بل لا وقت لها في مثل تلك الظروف. التحق بنا الرفاق الثلاثة الذين عبروا بعدنا وسرنا الى كلي قريب وصلناه بعد مسيرة ساعتين تقريبا. كانت ملابسنا مبتلة بسبب عبور النهر والجو شديد البرودة. وصلنا مدخل الكلي فنادى الحرس (توكي) وتعني بالكردية: من أنت؟ اجاب احد الرفاق بالكردية ايضا (هافال شدرفا) أي الرفاق من الخارج. سمح لنا بدخول باب الكلي وطلب منا آمر المفرزة بان يتناول كل فرد قليلا من الخبز وقطعة جبن صغيرة كان قد حملها الينا الرفاق الذين التحقوا بنا.نيسان 2007
Opinions