Skip to main content
التاريخ يتكلم الحلقة 23 حلبجة الشهيدة Facebook Twitter YouTube Telegram

التاريخ يتكلم الحلقة 23 حلبجة الشهيدة

1988 يوم القيامة في حلبجة:
سليل هولاكو ونيرون وهتلر, اولئك الذين يمثلون رمزا يندى له جبين الانسانية لما ارتكبوه من آثام وما ابتدعوه من وسائل الافناء بحق الشعوب, طمعا في توسع او فتوحات ونزوات, لكن صدام تحداهم جميعا وتجاوزهم فبدوا امامه اقزاما حينما سلط على مواطنيه اشنع ما شهده القرن العشرون من ابادة جماعية لا تستطيع مرثيات الشعراء البليغة الاحاطة بابعادها المأساوية, وينعقد لسان هوميروس صاحب الاوديسا والاليادة لو بعث حيا وشاهد هول الفاجعة.
حلبجة المدينة الوادعة الباسطة اذرعتها في اقصى الشمال الشرقي لكردستان العراق, المكتظة بالحيوية والحركة في يوم الاستجمام والتعبد, الجمعة من اذار 1988 , حام حولها ملاك الموت والناس في غفلة من امرهم, واحالها الى محض اطلال لا تأوى اليها حتى وحوش البراري, وحتى الطيور المتبقية هجرت اعشاشها, وتحولت الى بانوراما حقيقية للموت, في غضون دقائق ازهقت انفاس من فيها من بشائر وبهائم, ازيز الطائرات ووميض القنابل والدخان الابيض المنبعث منها ومن بعدها رائحة الخردل والسيانيد تزهق الارواح زرافات زرافات, طفل متعلق بثدي امه, امرأة تخبز, عائلة مجتمعة حول مائدة الطعام, رجال مبعثرون في قبو الجامع الذي تصدح مأذنته وتصرخ الله اكبر من دون مؤذن. اطفال في الازقة لم يستطيعوا اللحاق بالكرة التي تتدحرج لتركن, هي الاخرى, الى السكون الابدي. الجثث مكدسة في المساكن في اوضاع متباينة, من ايماءات الايادي والحركات الاخيرة للاشلاء من قراءة قسمات الاوجه المضرجة والعيون المبحلقة تدرك ان الموت الزؤام قد دهمهم على حين غرة. اطفال ونساء وشيوخ ازدحمت الازقة والشوارع بجثثهم ولطخت الدماء كل بقعة وزاوية وجدار. آلاف من الجرحى في العراء يلفظون انفاسهم الاخيرة في محاولة لاستنشاق نسمة من الهواء واصوات استغاثتهم تذهب ادراج الرياح. بعد يوم من تلك الكارثة التي لا تقل في هولها عن هيروشيما وناغازاكي ( مع فارق السلاح الكيمياوي المستعمل) غدت خالية من الحركة, والصوت باستثناء انين النزر اليسير من الجرحى الذين قدر لهم النجاة باجساد مشوهة.
هرعت العشرات من الوفود الاجنبية ومندوبوا وكالات الصحافة والاعلام عبر ايران والكل يتسابق لتغطية الحدث المهول, كثيرون يدلون بالتصريحات المنتصرة لحقوق الانسان والمستهجنة لتلك الفعلة الشنيعة. الاذاعات ومحطات التلفزة وعناوين الصحف الرئيسية قد استحوذت حلبجة على مجمل برامجها. الامم المتحدة واروقتها, المجتمع الدولي, قادة الامم يعبرون عن سخطهم, ولكنها لم تكن سوى سباق في التظاهر والنفاق السياسي وذرف دموع التماسيح على ضحايا مجرم عتيد, عريق, هو في منأى عن الحساب. ومحمي من قوى خفية لها كل المصلحة في ان تضمن استمراريته خدمة لاستراتيجية ابعد من ان تمت للاهداف الانسانية بصلة.
اخذت المعارك والتهجير والقصف الجوي والبري يزداد علينا وعلى كل المنطقة تلك الصورة المأساوية كانت تخيم على كل الانشطة السياسية في المنطقة, في شهر تموز وفي خضم تلك الاحداث كنت في الفوج الاول مع صديقتي ام سربست , عضوة رابطة المرأة العراقية منذ السبعينات اليزيدية من شيخان , انها مقبلة على الولادة وتعاني ما تعانيه في تلك الاجواء الغنية عن الوصف, وهي بحاجة لمن يعضد من ازرها في تلك الساعة الحرجة في وسط المحنة التي بدت كل الآلام والمعضلات تافهة امامها, لم اتأخر في تلبية طلب ام سربست ان اكون بجانبها ساعة الوضع, فهي بحاجة الى الدعم المعنوي الذي وصل ادناه عند الجميع, فما بالك عند امرأة في ساعة المخاض العسيرة؟ تبكي بدموع ساخنة عندما تتذكره ابنها لوركا فهو رهينة عند السلطات مع انه لم يتجاوز الاربعة عشر ربيعا,. اسمع صوت نحيبها وسط الليالي ثم تجهش بالبكاء لوحدها ويضطر زوجها لتهدأتها وتطييب خاطرها الى ان تستسلم للواقع وتستدرك قائلة اننا سوف نلاقي ايضا مصيرنا المحتوم هنا. تهجع الى فراشها ثانية وكلها قلق وهواجس وتسكت على مضض.
منتصف الليل. نفترش سطح الغرف لانها المكان المفضل للنوم في فصل الصيف الحار. اسمع صوت ام سربست وهي تنادي سعاد , انها آلام الولادة ثم ايقظت زوجها كاوا للبحث عن المرأة المسنة لمساعدتها في الولادة. امرأة عجوز امية لكن لها خبرة في التوليد. بعد دقائق وصلت, ونزلنا داخل الغرفة. ادركتها طلقات الولادة وهي لا تستطيع الصراخ والتعبير عن آلامها وتضع منشفة تعض عليها باسنانها فبجانبها اناس يغطون في النوم, وتشعر بالخجل من ان يكتشف من حولها امرها, بعض الرفاق لا زال مستسلما للنوم والآخر يهم بالنهوض.
مع اشعة الشمس الاولى واذا بدوي الطائرات المقاتلة يقترب بسرعة خاطفة, وبنفس السرعة توجه الجميع الى الملاجيء, ولكنني والمرأة العجوز بقينا مع ام سربست . صرخت المرأة المولدة باعلى صوتها: سنموت جميعا كما مات اطفال حلبجة, فسيطر الذعر والخوف على ام سربست وكانت ردة فعلها طلقة قوية انحدرت الطفلة اثرها وصوتها يختلط بازيز الطائرات وصراخ والدتها وهي لا تعلم هل تصرخ من الم الولادة ام بسبب خوفها من اغارة الطيران علينا. فتحت الطفلة عيونها لتطل على عالم غارق حتى اذنيه بجرائم الابادة والاستباحة والطغيان. كانت كأنها تستغيث من عالم استقبلها بأزيز الطائرات ودوي القنابل.
اخذت الطفلة المدماة ووضعتها في اناء فيه ماء دافيء للاستحمام, بدأت اغسلها في الوقت الذي بدأت الطائرات جولتها الثانية, اختلط ضجيجها ببكاء الطفلة وصراخها كأنها ترفض تلك الحياة وترغب في الاستسلام للموت! والدتها ام سربست في شبه غيبوبة والمولدة تصرخ بها لتحفزها على اطلاق المشيمة التي لازالت في الرحم وتحذرها من انها ستموت ان لم تستجمع قواها وتلفظها خارجا. في هذه الاثناء حامت الطائرات حومة ثالثة واختلطت الامور عند ام سربست , كانت مسرح صراع بين الوعي واليأس وصمود من أجل الحياة التي يزحف اليها الموت متعلقا باردافها. لحظات خاطفة رهيبة اطلقت خلالها الام المشيمة.
اهتمت المولدة بقطع الحبل السري بمقص لم يعرف معنى التعقيم, نزيف حاد اعقب نزول المشيمة, فخرجت بانفعال جنوني من الملجأ اصرخ في طلب الطبيب. استجاب زوجها وهو في الملجأ ونادى على الطبيب, عندها رجعت لاكمل غسل الطفلة.
حضر الدكتور حجي وزرق الام بمضادات النزيف. بعد نصف ساعة رقدت ام سربست في فراشها وطلبت ان تحتضن طفلتها, ناولتها تلك المخلوقة التعيسة البريئة فبدأت تخاطبها هي الاخرى: "هل ولدتك للعذاب؟ قلبي يعلمني انك سوف لا تعيشين. لونك يميل الى الاحمرار لانني كنت مولعة باكل الطين في فترة الوحام, أي اسم ترغبين ان اطلقه عليك, كاترين ؟" تبتسم متحسرة. زوجها يهنؤها على تلك الولادة العسكرية! التي اجتازتها. قال مازحا: "اصبح لدينا الآن في العراق ولادتان مدنية وعسكرية, زوجتي اختارت العسكرية منها", فضحكنا لمداعبته تلك. بعد قليل خلدت الطفلة للنوم وهدأت بعد ذلك الارهاق والتعب. حاولنا ايجاد ماينفع في تغذيتها فحصلنا لها على دجاجة طبختها حالا لاطعامها.
السؤال هنا ما هو مصير ام سربست مع طفلتها في الحلقة القادمة تجدوها ؟

Opinions