التاريخ يتكلم الحلقة 111 مذكراتي في دول العالم لطلب اللجوء
بدايات التسعينات, طلبت الدخول الى السفارة الامريكية لنفس الغرض، غير انهم بمجرد رؤيتهم لجوازي العراقي منعوني من دخولها، لان كل عراقي مصنف تحت قائمة الارهاب. اتصلت بالسفارات السويدية والدانماركية والبريطانية مقدمة طلب اللجوء الى بلدانهم معلنة عن تحصيلي العلمي المتقدم، كان الجواب لا يحق لك العمل هناك. جاءني رد السفارة الكندية بوجوب الانتظار لاجراء المقابلة سررت لذلك واعتبرته فاتحة خير.بدأ الآن صراع آخر وهو محاولة الحصول على مستقر نهائي لي. كانت تمر الايام وانا اعاني من الفراغ والبطالة ولم يكن بمقدوري ايجاد مصدر للعيش. وكان هناك متسع من الوقت لا تنفع معه المطالعة فقط، فبدأت انسج الملابس الصوفية لاصدقائي وليس لي لاني لا املك نقودا واحاول عدم الاكثار من حاجياتي الشخصية لانني، كما اسلفت ابحث عن ملجأ آخر لحياتي القادمة.
في صيف 1993 استلمت رسالة من السفارة الكندية في يوغسلافيا تطلبني للحضور لاجراء المقابلة فكانت فرحتي لا توصف. جرت المقابلة في فندق فيتوشا مع ممثل السفارة الكندية؛ شاب وسيم انيق الملبس، يتمتع بقدر كبير من الجاذبية وقوة الشخصية، برفقته مترجمة تتكلم اللغة البلغارية بطلاقة. دخلت المقابلة مباشرة بعد وصولي من فارنا بالقطار وكنت مرتدية بدلة صيفية انيقة تنم عن ذوق رفيع. سألني باية لغة تتكلمين، اخبرته البلغارية والانكليزية في آن واحد، لكني افضل التكلم باللغة الانكليزية. منذ الدقائق الاولى، بدت ملامح غير ودية في سلوكه؛ ابلغ المترجمة بانها تستطيع الانصراف ولكنها مكثت تسمعني لانها تسمع قصة لم تألفها سابقا، خصوصا عندما اخبرته بانني استاذة جامعية وكنت من ضمن تشكيلات البيشمركة في كردستان العراق لمدة سبعة اعوام. بدت عليه امارات الاندهاش وعدم الارتياح بينما والمترجمة تسمعني وتحاول ان تبدي نوعا من التعاطف معي. ادركت انه لا يثق بما اسرده، فاخرجت من حقيبتي صورا لي وانا بزي البيشمركة. سألني عن نوع السلاح الذي كنت احمله وكيفية استعماله ثم انتقل الى مواضيع سياسية وانا احاوره بهدوء بالرغم من القلق الذي كنت احاول التغلب عليه، بعد اكثر من نصف ساعة من المقابلة بادرني بنوع من الاستفزاز: لماذا لم تستعيني بمترجم يتحدث الانكليزية جيدا؟ اثار ذلك حفيظتي، وقلت له الا تلاحظ انك تفهمني جيدا، واذا فاتك شيء ساحدثك باللغة البلغارية طالما المترجمة لا زالت موجودة،" كنت اتنقل بين البلغارية والانكليزية كنوع من التحدي، ذلك ان اناس ذلك العالم، يشعرون دائما، انهم اذكى واكثر حنكة منا، كان هو في موقع القوة وانا على النقيض، ورغب في تأجيل المقابلة ولكنني فرضت عليه مواصلتها. كان واضحا انه لم يقتنع كيف اكون حاملة شهادة (PHD) واغادر موسكو لاقاتل في كردستان؟ ولماذا في وسط اجواء عسكرية صارمة يسودها التخلف والمعاناة؟ ويقول مع نفسه ما هذا الكذب والرياء!
كنت بدأت افهم من خلال تجربتي الطويلة ان معظم الناس المحبين لذاتهم لا يمكنهم ان يصدقوا او يستوعبوا مثل تلك الافكار، ولا يؤمنون بان هناك شريحة من المجتمع اختارت طريق النضال من اجل تقويم اخطاء الانظمة او انقاذ الناس من شرورها. وكيف لهم ان يدركوا معاناتنا او روح التضحية التي ورثتها من والدي وجدتي وعجنتها الايام مع رفاق الدرب الطويل، هذه الروح التي علمتنا البذل والعطاء حتى الرمق الاخير. نسى انه في المجتمعات الاوربية هناك من رضى لنفسه ان يختار العيش في مجاهل افريقيا وآسيا مع اللاجئين يقدمون لهم الخدمات الانسانية والصحية، بل لعله استكثر ان يكون في مجتمعاتنا اناس كرسوا حياتهم من اجل بناء اوطانهم ووضع اللبنات الاساسية لسعادة ورفاهية البشر ويبدو، ان العاملين في دوائر الهجرة تطغى على سلوكهم روح البيروقراطية والتعالي، مع ان مجرد اسمها يحمل طابعا يوحي بالاهتمام باناس اقتلعوا من اوطانهم، وحتى في احسن الظروف فان المهاجر الاعتيادي يحتاج الى رعاية نفسية ليتأقلم وسط بيئة واناس ولغة لم يعتد عليها، بعد ان ترك كل ماضيه واهله واصدقاءه وتقاليده وراءه.
استغرقت المقابلة 55 دقيقة، خرجت منها وانا حاقدة على المجتمعات الغربية وغاضبة على نفسي لاني خسرت آخر فرصة متاحة امامي. اخبرني ضابط الهجرة بانه سيرد علي برسالة لاحقة وما علي الا الانتظار لاستلام جوابهم، فعدت الى فارنا تتآكلني الخيبة ولم اجد بصيص من النور في المستقبل الآتي. خطر لي، في تلك اللحظة العصيبة، ان انعزل عن العالم واعيش في احد الاديرة كراهبة. الطرق كلها والابواب موصدة امامي والوضع في بلغاريا يميل الى تصعيد النعرة العنصرية فالمنظمات المتطرفة يتزايد نشاطها ضد الاجانب الموجودين فيها (Xenophobia) كانت تحاربهم وتطالب بطردهم من البلاد وتتهمهم بامتصاص العملات الاجنبية بواسطة شركاتهم وهم من ثم، يسرقون قوت الشعب البلغاري ويحطمون اقتصادهم، ودائما يكون الضعفاء والابرياء هم الضحية لان المافيات الكبيرة لها من يسندها، اما الاجانب فكانوا على العكس يودعون رؤوس اموالهم في بنوك بلغاريا.
حاولت ان اذهب الى الدير، ما هذا التناقض الفكري الذي اعيشه؟ لست متدينة الى الحد الذي افكر فيه بالرهبنة، وهذا النمط من الحياة يقيد كل طموحاتي للحرية لانني لم اعتد العيش على الهامش، واشعر دائما، بوجود طاقة كامنة داخلي اود الانطلاق بها، وان اتحدى الصعوبات والعثرات. لدي تاريخ حافل فكيف يمكن لي التجانس مع هذه التطلعات الدينية؟ انه تناقض سيفقدني احترامي لذاتي اولا، واحترام وتقدير كل من يمت لي بصلة قرابة او فكر سياسي ثانياً، سيما وانني لا اؤمن باستمرارية الحياة على وتيرة واحدة اذ الاديرة ورجال الدين المنتشرون في العالم لهم عقيدتهم الثابتة منذ فجر الميلاد ولا زالوا حريصين على عدم المساس بطقوسها.
راجعت نفسي، خاصة انني غير متهورة في اتخاذ القرارات المصيرية وصممت على عدم التفكير بهذا الحل ثانية، اذ يجب البحث عن حل آخر. لم اكن استطيع السفر الى اية دولة بجوازي العراقي عدا يوغسلافيا حيث هناك اتفاقية بين البلدين تسمح بالسفر الى كل من البلدين بدون تأشيرة السفر. لكن يوغسلافيا تدور فيها حرب طاحنة والمعيشة فيها غالية ومكلفة، كما لا مجال للعمل هناك والشعب اليوغسلافي هو الذي يهاجر من وطنه. اقامتي في بلغاريا على وشك الانتهاء، فالشركة التي لم تزاول نشاطها ولم تسدد الضرائب تعتبر ملغية بحكم القانون وبهذه الحالة يصعب تجديد الاقامة.
كنت اعيش دوامة الافكار هذه حين وصلتني استمارات الفحص من السفارة الكندية في يوغسلافيا وهذا معناه ان اجراءات اللجوء الى كندا جارية، وبعد الفحص الطبي باشهر اكون قد سافرت الى كندا، وبالرغم من الضائقة المالية توجهت الى صوفيا الى عيادة (BUTA) لاجراء الفحوصات اللازمة، اكملتها جميعا واخبرتني الطبيبة بان نتائجها ايجابية وهنأتني ان اكون بتلك الصحة الجيدة رغم المصاعب التي لاقيتها سابقا وقالت: انك سوف تغادرين الى كندا بعد اسابيع قليلة حيث ستستلمين تأشيرة الدخول." رجعت الى فارنا وانا متفائلة وانتعشت الامال من جديد وشعرت بالفرح والطمأنينة يطغيان على احساسي، فبدأت ببيع اثاث البيت لاستطيع شراء تذكرة السفر.
مرت اسابيع واشهر ولم اتلق أي جواب، اتصلت بالطبيبة التي اخبرتني بان لا مجال غير الانتظار، في كانون الثاني 1994 استلمت رسالة من السفارة الكندية تطلب حضوري الى يوغسلافيا لاجراء مقابلة ثانية معي، فورا غادرت الى صوفيا بالقطار ومن صوفيا الى بلغراد بالقطار ايضا، عند نقطة الحدود سألني واحد من شرطة الحدود البلغارية بعد ان تمعن بجوازي العراقي الذي لم يختمه الا بعد التحقيق التالي: الى اين ذاهبة؟ ما هو عملك في بلغاريا؟ ولماذا انت ذاهبة الى يوغسلافيا؟ وهل لديك اصدقاء او اقارب في بلغراد؟ ومتى ستعودين من بلغراد؟ ماذا تحملين من امتعة معك واين ستمكثين في يوغسلافيا؟ كان ينظر الي بتعال. اجبت على اسئلته وانا منفعلة لان التحقيق هذا جرى معي فقط دون بقية المسافرين وابرزت له رسالة السفارة الكندية، فاقتنع بالامر وختم جوازي. وعند عبورنا الجانب اليوغسلافي اجروا معي تحقيقا مماثلا، بدأت العن الجواز الذي احمله. اخذ الشرطي اليوغسلافي الجواز وبعد نصف ساعة عاد به وناداني الى حجرة خالية في القطار سألني انا محتاج الى 5 دولارات اذا كان ذلك ممكنا؟ رفضت اعطاءه ، قال حتى اذا كان هناك دولارين فقط فهي تسد حاجتي! قلت انا محتاجة الى كل دولار لاستلام الفيزا الكندية، احتقرته من كل اعماقي لانه يتعمد استغلالي. كان معي قطع نقود صغيرة رفضت التخلي عنها، وخرجت من الغرفة دون ان يثير ضجة. بدى انه يفتش عن ضحية اخرى في عربات القطار، وفعلا استدعى فتاة افريقية وادخلها الغرفة وبعد دقائق خرجت وهي تبكي، نزل الشرطي فورا من القطار الذي انطلق بنا الى بلغراد، سألت الفتاة عن سبب بكائها، قالت ان الشرطي اخذ منها 50 دولار حيث هددها في حالة عدم تلبيتها لرغبته فسيقوم باعادتها الى صوفيا ويكون القطار قد فاتها. قلت هذه هي غالبا ما اعتاد عليه الشرطة عامة، وشرطة الحدود بصورة خاصة، يتعرض الكثيرون لابتزازهم بطريقة او باخرى، وخاصة المرأة التي تكون ضحية سهلة في مثل تلك الظروف.
وصلت بلغراد في السادسة صباحا، لم اشاهد أي مظهر من مظاهر الحرب داخل العاصمة، توجهت الى السفارة الكندية وكنت في مدخلها في تمام الثامنة. تعرضت الى تفتيش دقيق ثم اخبروني في الاستعلامات بوجوب الانتظار للمقابلة. وبعد ساعتين كنت في مواجهة نفس الشخص الذي اجرى المقابلة معي في صوفيا. كان وجهه متجهما وحديثه معي يقطر سما، اخذ الورقة من يدي واختفى ليعود بعد عشرة دقائق ليخبرني بان ليس لي الحق في تسلم الفيزا الا بعد اجراء مقابلة اخرى، سألته لماذا اذن ارسلتم لي اوراق الفحص الطبي التي كلفتني 300 دولار اضافة الى الوقت الذي بددته في الانتظار واخيرا استدعائي هنا، وما المانع من اجراء المقابلة الآن؟" بادرني بصراحة البيروقراطي الفظة، حصل خطأ وارسلنا لك الفحوصات." قلت وبهدوء اتصلت بكم قبل توجهي الى بلغراد واخبرتكم باني ساتوجه اليكم" اوضحت له الصعوبات التي يلاقيها الاجانب في الوقت الحاضر في بلغاريا. كان جوابه اقسى من الاول وقال باسلوب خال من الذوق الدبلوماسي: هل تعلمين ان العرب هم المسببون لاكبر نسبة من الجرائم في العالم؟" وبدأ يكيل التهم ويتهجم بطريقة انسان متخلف غير مؤهل لان يكون في ذلك المنصب. انه في سلوكه هذا قريب الشبه من سلوك حكام بغداد. اختتم حديثه الجاف: " ارجعي الى بلغاريا فلا يهمنا ما يكون عليه الوضع هناك".
خرجت من السفارة مكتئبة لا استطيع التركيز، او التفكير بشيء، ومحطمة نفسيا. فتوجهت الى محطة القطار وحجزت الى صوفيا ثانية. وصلتها بحدود الثانية عشرة منتصف الليل. اين اتوجه؟ لم يبق معي نقود للذهاب الى الفندق، ولا اقوى على البقاء في محطة القطار لشدة الارهاق. قررت السفر الى مدينة بلوفدف حيث هناك عائلة صديقة محمد الربيعي ابو هيلين وزوجته ايمان ، فوصلتها في الثانية صباحا، ومكثت في المحطة حتى الصباح اذ من الصعوبة والخطورة التنقل بسيارة اجرة في مثل تلك الساعة. جلست على مصطبة حديدية ونزعت معطفي ووضعته مع حقيبتي في حضني. كنت في غاية التعب بعد سفر لثلاثة ايام متتالية. والقطارات غير مريحة، فقد اعتدت الحجز في العربات الرخيصة. كنت على اكثر ما يكون من الارهاق والتعب بحيث لم اكن استطيع التعرف على ما يدور حولي.
استولى علي النوم وغفوت قليلا ولكنني صحوت اثر لمسة يد على كتفي من رجل بلغاري. ايقظني وقال: البسي معطفك (كان من الفرو الثمين) واتضح ان فتاة شابة جلست الى جانبي ونبهني ذلك الشخص الى انها حاولت سرقة معطفي. عقب متهكما: لدينا الآن ديمقراطية من طراز جديد تتراوح بين الازمات السياسية والاقتصادية والجوع وتدني المستويات العلمية والادبية! في الوقت الذي كانت فيه بلغاريا لا تعرف معنى الجريمة المنظمة او السرقات. الآن في زمن الديمقراطية انتعشت كل الجرائم والمحرمات!" شكرت الرجل على مبادرته فيما هربت الفتاة.
انبلج الصباح وذهبت عند اصدقائي عائلة ابوهيلين فاستقبلوني بحرارة، وقرأوا ملامح الاحباط والارهاق على قسمات وجهي. حاولوا مواساتي ومساعدتي في البحث عن البدائل. بدأت اقضي معظم وقتي مع ام هيلين زوجة زوجة محمد الدْي كان بيشمركة معي ايام النضال في كردستان . هيلين الصغيرة احبها لاني حضرت ولادتها حضرت ولادتها وكنت احبها كثيرا ورافقتها منذ يومها الاول على الارض. بعد يومين نصحني ابو هيلين بالسفر الى الدول الاسكندنافية مثل ما يفعل الكثير من العراقيين. وافقت على الفكرة ولكن من اين لي ان اتدبر مبلغا كبيرا من اجل ذلك؟.
بقيت فترة في ضيافة ابو هيلين وعائلته، وكان حينها الدكتور كاظم المقدادي يرغب الهجرة الى نفس الوجهة حيث زوجته وابنه الصغير في السويد ، حيث نصف العائلة في السويد والنصف الآخر في بلغاريا، وطلبوا مني مرافقتهم، وفي البداية كان يجب السفر الى رومانيا حيث من هناك تبدأ المافيا المتخصصة بتهريبنا الى تلك الدول. صادف شهر رمضان وانتظرنا انتهائه لان زوجة المهرب فهمي الجزائرية صائمة، لا يجوز ان تجلس بجانب زوجها وهو يدخن السيكاير فهو لا يصوم، سافرنا بالقطار الى رومانيا وحصلنا على فيزا ترانزيت الى بوخاريست بسهولة، وقصدت احد الزملاء الذين كانوا يعملون معي في الجزائر الدكتور جرجيس ختي من القوش .