التاريخ يتكلم الحلقة 31 معسكر سلوبيا
كنا على علم في سلوبيا بوجود مصابين بالكيمياوي معنا وكان عددهم يربو على العشرة اشخاص ولكنهم تلاشوا وسط الزحمة والضياع الذي نعيشه. كانوا قد وصلوا قبلنا حيث نقلوا بسيارة خاصة وبعد يومين من قدومنا اخذ الصحفيون يبحثون عنهم لاجراء مقابلات معهم, لكن المسؤولين عن المخيم, بايعاز من الحكومة التركية, نقلوا اولئك المصابين الى المستشفى. طلب الصحفيون زيارة المرضى ولكن طلبهم رفض من قبل مسؤولي المخيم, والانكى من ذلك انهم انكروا وجودهم! مما ادى الى اثارة الشكوك حول مصيرهم وزيادة قلق ذويهم الذين بدأوا بالمطالبة بهم. وبدات شجارات عنيفة بين الصحفيين ومسؤولي المعسكر بهذا الصدد. خلال ذلك قدم شخص يتكلم التركية وامر اهل المرضى ان يلوذوا بالصمت وبعكسه سيكون مصيرهم التسليم الى السلطات العراقية. كان مجرد الاشارة الى ذلك يثير الرعب لدى اولئك المساكين الذين يرثى لحالهم, بينما الدموع لا تفارق عيونهم. فاضافة الى مأساتهم فانهم محرومون من مجرد الاطمئنان عن مصير فلذات اكبادهم. هذا الموقف السلبي من السلطات التركية جعلنا نعيد حساباتنا واستنتاجاتنا, مرة ثانية, واخذ الشك يساورنا بان المكيدة ستكون بتسليمنا لاحقا الى السلطات العراقية وتكون بذلك نهايتنا.أمضينا عشرة ايام على هذه الحالة, واعيد المصابون بالكيمياوي, وكانوا قد تحسنوا قليلا, وبعد الاستفسار منهم علمنا بانهم كانوا في المستشفى وقدمت لهم رعاية خاصة ولكن لم يسمح لهم بالاختلاط مع الناس او التحدث الى أي كان. وبقوا طيلة تلك الفترة معزولين عن العالم الخارجي, ولم يكن باستطاعة أي صحفي الوصول اليهم. الا اني لم ارى المصابين بنفسي بعد رجوعهم من المستشفى . لكن رأيت احدهم على الحيوان وهو حقا مريض فكرت انه رجل مريض بعدها قيل لي انه كان احد الضحايا من الكيمياوي .
بدا الصحفيون يتقاطرون علينا يريدون الحصول على احاديث من اولئك المصابين ولكن الاتراك لم يفسحوا لهم المجال, ولم نعلم ما هو السر في ذلك حتى اللحظة هذه.
تزايدت وفيات الاطفال والشيوخ, يوما بعد يوم, وبمعدل اكثر من 10 وفيات وتصاعدت هذه النسبة مع قدوم فصل الشتاء, فلا تدفئة, ولا طعام يكفينا ويعطينا المناعة, ولا نقود نملكها لشراء ما نحتاجه من مواد غذائية, رغم وجود حانوت تتوفر فيه تلك المستلزمات ولكن باسعار فاحشة, شرب الشاي واعداده يعتبر علامة على الرفاهية, اما ارض المعسكر فجرداء لا يتوفر فيها قليل من الحطب لجمعه واعداد الشاي عليه او للتدفئة. كنا محظوظين اذا تناولناه مرة في الاسبوع, كنا نتوسل الى صاحب الحانوت ليعطينا الكارتونات الفارغة والملابس البالية لاستعمالها كوقود.
معسكر سلوبيا! (هكذا كان اسم ذلك المخيم التعيس) ان مجرد ذكر اسمه يثير القشعريرة في جسدي وتتجسد امامي كل اسباب العذاب النفسي.
بدأنا نبحث عن الحمام كانوا قد هياوا حماما مركزيا يقف امامه الناس على شكل طابور يستغرق منا انتظار ساعات الصباح لنحظى به. كنت قد اعتدت انا وبسمة ان نحجز لنا دورنا في الحمام. يستحم الاطفال اولا ثم نحن الكبار, ياله من عذاب في ان لا يجد المرء ما يستر به جسده حين يضطر الى تنظيف ما علق بثيابه من القذارة وحتى الملابس الداخلية لا بديل لها. اضطررت الى استعمال شروال وقميص بدلا عنها وارتديتها بعد ازالة الاوساخ عن الاولى. نظف جسدي وشعرت بانني انجزت شيئا ذا اهمية بالغة.
بعد اسبوع من تواجدنا في المعسكر نهضت فجر احد الايام في حدود الثانية صباحا. كان ظلام دامس يخيم على المنطقة. الخيم متراصة الواحدة جنب الاخرى لا تبعد الواحدة عن الاخرى بما يزيد على نصف المتر بحيث يتاح لقاطنيها سماع انفاس بعضهم البعض واقرب حمام الينا كان يبعد 10 دقائق عن خيمتنا. فجأة شعرت بمغص شديد اصبت بعده باسهال حاد اضطرني لقطع هذه المسافة عشرات المرات. خارت قواي بحيث لم اعد اقوى على الحراك. كنت اسحب اقدامي بصورة عشوائية والانكى من ذلك ان تلك المراحيض التي كانت قبل استعمالنا لها جيدة وحديثة لكن القرويين لا يجيدون استعمالها فقد تعودوا ان ينظفوا انفسهم بالحجارة او علب السكاير ليتسببوا في سد منافذ تصريف المياه وعند استعمالها يجب تنظيفها يوميا من تلك الحجارة والاوراق المتراكمة المرمية فيها كيفما اتفق. ليس التعذيب بالضرورة ان يكون فيه الشخص نفسه مستهدفا, فهذا نوع آخر من انواعه لحق بنا, واصبح مجرد التفكير في الذهاب الى دورة المياه محنة حقيقية, ابتداءا من الانتظار الطويل وانتهاءا بذلك الوضع المقزز.
لازمني ذلك الاسهال حتى العاشرة صباحا بدأت بعدها اتقيأ بشدة, الم فظيع يمزق معدتي وامعائي ولم اعد اقوى على الوقوف على قدمي, شحب لوني واصبت بدوار ومن ثم بالانهيار التام. اسندني عبدالله على ذراعه ليساعدني في الذهاب الى الطبابة. كنت اجرجر قدمي حين سقطت على الارض مغشيا علي بعد مسيرة ثلاث دقائق والعرق يتصبب من كل بدني, يكاد قلبي يفارق صدري, اسمع اصوات النساء وهن يرثين لحالي ويقلن ستموت هذه الفتاة! بقيت طريحة الارض فترة عشرة دقائق حيث هرعت بسمة لنجدتي بعد ان اخبرتها ابنتها روندكي بوضعي. حملتني مع زوجها عبدالله متوجهين الى مقر الطبابة. كان هناك كادر طبي عراقي, كان ضمن تشكيلات البيشمركة في منطقة زاخو اسمه سربست, عرفني للتو لكنه تظاهر بعدم معرفته لي واسر الى صديقه بذلك. شرحت له حالتي فاسعفني باربع كبسولات تتراسيكلين. فرحت لمجرد وجود أي نوع من الدواء لاسعافنا. نصحني انه في حالة عدم الاستجابة للدواء بمراجعة ثانية, لكنني, بعد الكبسولة الثانية, شعرت بان حالتي تحسنت. نهضت من الفراش وذهبت للمساعدة في نقل الماء الذي كنا نجهزه الى المخيم من صنابير الحمامات بواسطة اوعية بلاستيكية (جليكان) فشاهدتني احداهن وقالت مندهشة: "كيف تستطيعين الحراك؟ كنا نعتقد بانه سوف لا تكتب لك الحياة بعد تلك الاصابة وذلك الانهيار الذي الم بك حيث كنت ملقية على الارض جثة هامدة تنتظر دورها الى المقبرة!"
كان وباءا اصاب معظم نزلاء المعسكر, نوع من البكتريا او الفايروس الذي يتفشى في مثل تلك الظروف التي تنعدم فيها اسباب النظافة والحد الادنى من الشروط الصحية ويسمى بالكردي (ايش) أي الوباء. ولقد كانت وطأته شديدة على الاطفال والمسنين, فسيارات الاسعاف تعمل على مدار الساعة تهتم بالحالات الجدية والخطرة واكثر الاحيان تعود تلك السيارات او النقالات بجثثهم ويواروها في المقبرة القريبة الينا, ولقد ظلت افواهها مفتوحة تلتهم القوم بشراهة ونهم . بعد ايام قلائل عاودتني حالة الاسهال, كمية التتراسيكلين لم تكن كافية لاكمال دورة العلاج ولا بد من ايجاد الغذاء المناسب في مثل تلك الحالات, كلفت عبدالله بصرف مائة دولار ابتاع بها جبن وكيلو رز وبصل وزيت ومعجون الطماطة, كانت تلك المستلزمات البسيطة مبعث فرح وسرور لدى الاطفال. هب الطفل (رافاند) قاطعا الطريق على والده وهو يؤشر الى تلك المؤونة التي وصلتنا وهو يرقص طربا. كان عشاؤنا مميزا, قطعة جبن مثلثة لكل واحد منا والرز الاحمر للجميع, روندكي كانت قد انتقلت اليها العدوى ومنها انتقلت الى اخوها رافاند وهم في هذه الحالة يحتاجون الى تغذية جيدة ليشفوا من المرض.
كان بحوزتي 200 دولار اخرى ومع عبدالله 700 دينار عراقي, لكنه مبلغ زهيد نسبة لتلك الظروف المزرية في سلوبيا. ارسلت الى ابن عمتي ميخا برنو في كاليفورنيا اناشده المساعدة فاسعفني على الفور برسالة وبداخلها صك بقيمة 500 دولار. كانت مفاجأة سارة ومذهلة في الوقت نفسه بعد ان كان الاهل والاقرباء والاصدقاء قد فقدوا الامل في بقائي على قيد الحياة.
انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم, وفي كل الدول التي يتواجد فيها اقاربي ومعارفي, وفي الرسالة ذكر ابن عمتي استعداده لاسعافي باي مبالغ اضافية او اية طلبات اخرى, لكنه لم يتطرق الى مصير اخي ازاد, مما زاد في شكوكي وقلقي على مصيره. وفي غمرة ذلك الفرح ذهبت لاصرف الصك عند مسؤول المخيم ولكنه افاد ان ذلك غير ممكن اذ يحتاج الى ضمانة مواطن تركي. طلبت منه الذهاب الى مصرف قريب بصحبة سيارة الاسعاف لان عائلتي بحاجة ملحة الى النقود لشراء الدواء والغذاء, وافق بعد اقتناعه بالامر. دار حديث في الطريق بيني وبين السائق الذي يسوق سيارة الاسعاف وهو يتكلم اللغة الكردية, سألني : ماذا تشتغلين؟ اخبرته انني معلمة مفصولة من الوظيفة لان اخوتي ملتحقين بصفوف البيشمركة, طلبت منه ان يأخذني الى المصرف ومن ثم الى سوق الخضار والمواد الغذائية فابدى تعاونه وتعاطفه واخذ بدوره يشرح قصتي لكل من يصادفه من الباعة ويقول لهم ان اولاد اخيها مرضى ويحتاجون الى الغذاء والدواء. فتبرع الكثير منهم بتلك المواد دون مقابل. كان معي 20 دينار عراقي ابتعت بها احذية للاطفال ورجعنا الى المخيم واصر السائق ان يوصلني الى باب خيمتي. وحال نزولي من السيارة احاط بي الاطفال وعلائم بشر وفرح لا يوصفان على محياهم احتفاء بالعيد الذي هل عليهم. صاح رافاند مناديا اخته: انظري! لقد اصبحنا اغنياء" كان يحث والدته على جلب الحطب لاعداد الطعام والشاي بعد ان بات بامكانهم الاستمتاع بطعام يسد رمقهم, وكذلك نال الرضع حصتهم من الحليب المجفف. ومقابل ذلك الشعور العارم بالفرح كان هناك من يتحسر على قطعة خبز او بسكويت, فبدأت بتوزيع ما كان متيسرا لاولئك الذين فرض عليهم الصيام, وشعور من الرضا يغمرني لاني اقدم ما باستطاعتي تقديمه في مثل تلك الظروف. وحينما اذهب الى السوق بملابسي الكردية المميزة, اذ يحظر على الاكراد في تركيا ارتداؤها في الاماكن العامة داخل المدينة, كانوا يتعرفون علي كوني من معسكر اللاجئين في سلوبيا فلا يبخلون علي بما تجود به ايديهم, وكنت عندما اعود الى المعسكر محملة بالمواد الغذائية, يستقبلني اولئك الاطفال بوجوه تغمرها السعادة, ويلتهمون كل ما تصل اليه ايديهم. كما استطعت ان احصل لهم على احذية بلاستيكية زهيدة الثمن تقي ارجلهم الغضة من البرد, اذ كان الكثيرون منهم حفاة. كان الاطفال يغوصون في الطين, دون احذية تقي ارجلهم عند هطول المطر وينقلون ذلك الوحل والطين الى داخل الخيم والافرشة, هذا فضلا عما كنا نعانيه اثناء هطول الامطار فالمسافات بين الخيم تتحول الى جداول من الماء تنفذ الينا وينقلب كل شيء الى كارثة طينية. كنا نضطر احيانا الى حصر الاطفال ايام المطر في خيمة صغيرة لا تزيد مساحتها على المترين المربعين يصعب عليهم مغادرتهم وعند اضطرارهم للذهاب الى دورة المياه التي تبعد حوالي 150 متر, كنا نقتادهم اليها بصعوبة بالغة وغالبا ما كانوا يسقطون في الطين ويتمرغون به.