التوافق السياسي انقلاب على الدستور
لم يكن هيناً على المواطن العراقي الخروج من بيته صوب صناديق التصويت على الدستور الدائم وسط ظروف في غاية من الصعوبة لا يمكن نسيانها إلا لشعوره إلى الحاجة الكبيرة والملحة لدولة القانون التي تضمن حقه في العيش بكرامة وطمأنينة، وإلا لما كان الملايين من العراقيين يعرضون أنفسهم للقتل بكافة وسائل القتل المتبعة آنذاك ويخرجون رجالاً ونساءً شيوخاً وشباباً للتصويت لصالح الوثيقة التي تم سنها من قبل نوابهم في البرلمان المنتخب.اليوم وبعد مرور ما يقارب الثلاث سنوات على سن تلك اللائحة ومقارنة ما نصت عليه مع الممارسات التي تعتمدها الكتل السياسية في اتخاذ القرارات داخل مؤسسات الدولة الدستورية، فانه يتم خرق تلك الوثيقة، بل،القانون (الأسمى) في البلاد في السلطات الثلاث(التشريعية والقضائية والتنفيذية)؟.
بعد كل تلك التضحيات وأنهار الدم التي دفع ضريبتها المواطن العراقي، سواء في فترة الحكم الشمولي للنظام الدكتاتوري البائد أو ما أعقبه من تغيير، وبعد العديد من الوعود التي أدلى بها السياسيون وأقسموا عليها في الحفاظ على النظام واحترام القوانين، أصبح لدى المواطن الخشية في الابتعاد عن حلم (دولة القانون) التي توفر له حياة كريمة وآمنة، والسبب في ذلك هو التوافقات السياسية التي يريد البعض حكم العراق من خلالها، والتي تحصل خارج المؤسسات الدستورية ثم تلقي بظلالها على السلطات الثلاثة وعلى النحو الآتي:
أولاً: اثر التوافقات على السلطة التشريعية؛ فالعديد من القرارات والقوانين الهامة والمصيرية التي من شأنها دفع عجلة التقدم والبناء داخل البلد معطلة بسببها ابتداءً من قانون استثمار النفط والغاز الذي يعتبر من أهم القوانين التي تحقق طفرة كبيرة ونوعية في الاقتصاد العراقي وبناء اقتصاد قوي، مروراً بمشروع قانون دائرة الخدمة العامة الذي يأخذ على عاتقه تأهيل موظفي الدولة وصولاً إلى تعطيل وعرقلة استجواب الوزراء والمسئولين المتهمين بفساد مالي وإداري في وزاراتهم ودوائرهم، إذ تشير بعض المصادر إلى وجود حوالي (50) مشروع قانون معطل داخل البرلمان لم ينجز منها سوى (13) فقط، كونها لا تحظى بموافقة بعض الكتل رغم الوصول لنصاب كافي للتصويت عليها.
ثانياً: أثر التوافقات على السلطة القضائية؛ وهي الطامة الكبرى التي تشعر المواطن العراقي باليأس والخيبة وعدم الثقة بقرارات القضاء، فالعديد من الأحكام التي صدرت من القضاء والمحاكم الجنائية العليا لم ترى النور وبقية حبراً على ورق رغم قانونيتها واكتسابها الدرجة القطعية ومرور المدة الكافية لتنفيذها بحكم القانون، إلا أنها لم تنفذ بسبب الخوف من(زعل) جهة ما على تنفيذها ولم يتم التوافق السياسي عليها، كالأحكام الصادرة بحق المدانين في قضية الأنفال على سبيل المثال، كما عطل التوافق السياسي العديد من مذكرات إلقاء القبض بحق مجرمين قاموا بنهب المال العام أو انتهكوا حقوق الإنسان، وبقيت يد العدالة بعيدة عنهم رغم تأكيد الدستور على إن الجميع متساوون أمام القانون.
ثالثاً: أثر التوافقات على السلطة التنفيذية؛ ابتعدت السلطة التنفيذية بما شرعه الدستور العراقي الدائم بالصلاحيات المقررة لها بسبب جعل التشريعات الدستورية مبنية على حالة من التوافقية، وبما إن المتغيرات السياسية التي تطرأ على المشهد السياسي العراقي كثيرة وكبيرة في كثير من الأحيان وبسبب كثرة التحالفات السياسية صار لابد من وجود توافقات جديدة على ما يستجد من القضايا السياسية.
فمع إقرار الدستور العراقي لوجود منصب رئيس الجمهورية جعل السلطة التنفيذية برأسين، ومع تحديد صلاحياته دستورياً، إلا أننا نجده في كثير من الأحيان يتجاوز تلك الصلاحيات الممنوحة له وفق الدستور، وبالتالي تعلل على إنها لم تبنى على أساس صلاحياته الحكومية وإنما تنطلق من كونه زعيم حزب سياسي ووفق توافق سياسي كما هو الحال في المجلس السياسي للأمن الوطني الذي لا أساس دستوري له وغيرها من التصرفات الأخرى كما حصل في امتناعه من التوقيع على حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة الجنائية بحق الرئيس العراقي السابق ومجموعة من معاونيه.
أما بالنسبة إلى رئاسة الوزراء، فالسلوك التوافقي أَثَرَ على أدائها بشكل كبير بحيث لا يستطيع رئيس الوزراء تغيير أي من وزرائه ما لم توافق كتلة الوزير السياسية أو الجهة التي ينتمي إليها على ذلك، لا أمام محاكم الدولة المختصة ولا أمام البرلمان إلا بخضوع هذه الإجراءات إلى حالة من التوافق السياسي.
ومع الحاجة إلى التوافقات لدفع عجلة العملية السياسية الفتية إلى الأمام، إلا أنها يجب أن تنحصر-التوافقات- في القضايا السياسية دون إقحامها على النصوص الدستورية وجعل القرارات التوافقية تسموا على الدستور والقوانين المتفرعة منه.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com