الثورة والسلطة
اعقد قضية واجهت البشر في معظم الحضارات عبر التاريخ هي قضية الثورة والسلطة.
كيف تتحول الثورة الى السلطة،؟؟ وكيف للسلطة أن تحافظ على الثورة.؟؟
رغم أن هذه الجملة قصيرة وبسيطة، لكنها كانت وما زالت من اعقد المعادلات التي قلما تمكن البشر من حلها. منذ بداية الثورات على الواقع الحياة الإجتماعية والسياسية في فجر التاريخ الإنساني، وإلى يومنا هذا الذي نفكر فيه بغزو بعض الكواكب التي تطالها تكنولوجيا البشرية.
فالثورة رافقت الفكر البشري منذ أن بدأ حلم التحرر من الأعراف والتقاليد العائلية يراودهم. كما راودهم في الوقت ذاته حلم الوصول الى مواقع السلطة لتغير هذا الواقع.
فبقدر ما يمتلك الثائر من السلطة يستطيع تنفيذ الثورة، وبقدر ما يتمسك بمبادئ الثورة يستطيع تهذيب السلطة.
هذه الجملة القصيرة هي مفتاح أعقد معادلة في التاريخ البشري عبر عشرات الحضارات. ولكن الصعوبة تكمن في المحافظة على مبادئ الثورة والسلطة في آن واحد. وهذا ما حاول أن يقوم به المئات من الثوار وقادة الثورات، ولكن لم ينجح منهم إلا ما ندر.
لماذا يفشل معظم الثوار في المحافظة على مبادئ الثورة بعد وصولهم الى السلطة.؟؟
إنه سؤال قديم قدم التاريخ البشري. والأسباب عديدة ومختلفة، بقدر إختلاف الثورات وظروفها الإجتماعية والسياسية والإقتصادية. ولكن هناك جملة من العوامل تبقى ثابتة ومشتركة بين معظم الثوار والثورات.
أولا- قائد الثورة:
قائد الثورة هو النموذج الذي يقتدي به الثوار، وللقائد أهمية كبرى في مسيرة ومسار الثورة. فالثورة التي تفقد مرشدها الروحي أو فيلسوفها في المراحل الأولى من نشأتها، يبتعد ثوراها عن مبادئها بعد وصولهم الى السلطة، أكثر من الثورة الذي يستلم المرشد أو قائد الثورة السلطة ويحاول تطبيق مبادئ الثورة في سلطته. كبناء سلطة جماعية يكون جميع افرادها تحت حكم الدستور الذي وضع كمنهج من قبل قيادة الثورة. ويتم محاسبة كل من تدفعه رغباته الشخصية للإبتعاد عن مبادئ الثورة.
فكل ثورة أو فلسفة تفقد قادتها في بداية الطريق معرضة للإنحراف عن مسارها بعشرات المرات أكثر من التي يبقى الذين اسسوها على رأس الهرم حتى بعد نجاح الثورة.
ثانيا- فلسفة الثورة: الفلسفة في كل مراحل التاريخ البشري كانت تعني الحكمة في فهم الحياة. وهذا الفهم هو الذي يحدد عمر الفلسفة كما يحدد الإطار الفكري الذي يعيش فيه الفرد أو الجماعة المؤمنة بفلسفة ما.
فالفلسفة التي نؤمن بها تحدد لنا الطريق الذي نختاره في هذه الحياة. كما أنها تحدد الأطر التي تنشأ فيها عاداتنا وتقاليدنا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. بل تتعداها الى إنها تحدد كل مفردات حياتنا اليومية، وعلاقتنا بمحيطنا من الكائنات والجماد، والطبيعة والأرض والسماء بشكل عام.
إذا الفلسفة هي طريق الحياة. بل هي رؤيتنا لسر وجودنا في الحياة، ومكانتنا فيها.
بقدر ما تكون الفلسفة علمية نستطيع تهذيب وإرشاد أنفسنا الى أفضل سبل الحياة وفق المبادئ العلمية التي وصل إليها البشر. وبقدر ما تكون فلسفتنا خيالية نتوه في عالم الخيال اللامتناهي من الأوهام.
فكل مبدأ في العلم قابل للتطوير.
أما الخيال فعلى العكس لا يفرق بين الواقع والوهم. فهو يعيش في الواقع بجسديه ويحلق في الوهم والحلم بفكره. فنكون كمن يطارد الدخان فلا يجني من الحياة إلا الوهن، والشقاء.
ثالثا- موقع اعداء الثورة من السلطة بعد نجاح الثورة:
من طبيعة البشر أن يدافعوا عن نمط الحياة التي اعتادوا عليها لعشرات السنوات، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالسلطة، والمكانة الإجتماعية. فكل تغير في هذا الواقع يكون لمصلحة فئة على حساب فئة أخرى. وإذا كان التغيير ثورة تطيح بسلطة فئة إجتماعية فلا بد لهذه الفئة أن تحاول إستعادة مكانتها وإمتيازاتها بعد أن تتحول الثورة إلى واقع لا مجال لتغييره. فيحاول أعداء الثورة الوصول الى مواقع السلطة من جديد بشكل أو بآخر. بل أحيانا يتمكنون من إجهاض فلسفة الثورة واغتصابها.
رابعا- اغتصاب الثورة:
أبشع ما يمكن أن تتعرض له الثورة هو أغتصابها. وبدل من أن تعمل الثورة لخدمة من قاموا بها. تتحول الثورة الى آداة جديدة بيد أعدائها فيستعيدون سلطتهم، ومكانتهم الإجتماعية بأسم الثورة، ويحرفون فلسفتها بما يتماشى مع مصلحتهم ووجودهم في السلطة. وخاصة أن خبرتهم في السلطة تؤهلهم لإستعادة مكانتهم بعد أن تمكنوا من النفاذ من خلال الثغرات ونقاط الضعف التي وجدوها في بناء الثورة.
إغتصاب الثورة أشبه ما يكون بأختراع جديد لسلاح استراتيجي يقع في أيدي الأعداء دون أن يتمكن مخترعه من استخدامه أو حتى الإستفادة من هيبته.
لقد حصل هذا مع الثورة المسيحية في أيام بولس، والثورة المحمدية في أيام معاوية. فكلا الشخصين اغتصب الثورة وحولها الى سلاح فتاك في محاربة أبناء الثورة. وتمكنوا من تحريف الثورة الى الوجهة التي تخدم أعدائها الذين تحولوا الى قادة ومرشدين للثورة. بالمقابل تمت ملاحقة ألابناء والمخلصين للثورة كمجرمين منبوذين. قتل منهم من قتل ونفي منهم من نفي وخرجت الثورة عن مسارها لتسير بطريق معاكس لما خطط له مؤسس الثورة.
يمكن القول (ليس الدين الشمولي إلا ثورة اغتصبت من قبل أعدائها).
خامسا- كوادر الثورة: بقدر ما يتشبع الثوار بعقيدة الثورة يحافظون على مبادئها. فالثورة التي تتحول مبادئها الى منهج حياة يومية لقادتها ومناظليها لا خوف عليها أبدا. ولكن نادرا ما نجد هذا في التاريخ البشري رغم أن كل منتمٍ الى عقيدة ثورية ما، ينادي بالتمسك بمبادئها، ولكن هو لا يراقب نفسه أو يحاسبها على مدى تمسكه بهذه المبادئ.
فالعقيدة ما لم تتحول الى منهج لفلسفة حياة الثوار ستفقد بريقها ووجودها مع فقدان النخبة لسلطتهم ووجودهم في صفوف الثورة. فكان الحل عند بعض الثورات في إنشاء وتهذيب قادة لكل الأجيال ولكل الأزمنة. وخير نموذج في التاريخ البشري هو الثورة البوذية في التاريخ. ولم تتمكن ثورة أخرى من منافستها في قوة التمسك بالمبادي وتهذيب القادة عبر مئات الأجيال.
سادسا- مباهج السلطة: بقدر ما ينحرف القائد أو القادة نحو مباهج السلطة، يبتعدون عن مبادئ الثورة. فالإنسان عندما يكون في موقع السلطة أوالحكم هو غير الإنسان الذي يكون بعيدا عنهما. مباهج السلطة حرّفت خيرة قادة الثورات من الذين لم يتمكنوا من صد رغباتهم وطموحاتهم الشخصية عندما وقعوا في امتحان الخيار بين المحافظة على نزاهة القائد ومباهج السلطة.
فالفرد عندما يجد نفسه الآمر والناهي في موقع ما، قلما يستطيع الحفاظ على بعض القيم والمبادي التي تعتبرها الثورات أساسيات الحياة اليومية للثائر في كل المواقع. وخاصة عندما يكون القائد عرضة لإغراءات وضغوطات إجتماعية، ونفسية، وشخصية.
وقد تدفع مباهج السلطة بعض الثوار الى الإنجراف الى نزاع للوصول الى الموقع الأول في السلطة، فتدخل الثورة نفق الصراعات الداخلية. تضعفها بل تحولها الى مستنقع المؤامرات والتصفيات الفردية والإغتيالات. فتتحول الى ورم خبيث يجب إستأصاله، لأن الإصلاح في هذه المرحلة يكون أصعب من البدء بثورة جديدة. ومن الشخصيات التي استطاعت أن تكون نموذجا في التمسك بالمبادىء التي نادت بها قبل الثورة في التاريخ الحديث، غاندي في الهند، ماو في الصين، هوشمين في فيتنام، كاسترو في كوبا، ومانديلا في جنوب أفريقيا.
وختاما يمكن القول أن عوامل أخرى كثيرة يمكن أن يكون لها تأثير مباشر على حياة الثورة. منها ذاتية ومنها موضوعية ومنها زمنية متعلقة بواقع التاريخ ومدى تطور المجتمع وتقبله لفكرة الثورة.
المجتمع يتغير ورؤيته الى الأمور تتغير وما قد يكون قانونيا اليوم قد يتحول الى جريمة بعد عصور، والعكس صحيح. فلطالما المجتمع البشري في حركة دائمة تبقى كل المفاهيم والأفكار في تطور دائم، وقابلة للتغيير وإعادة صياغة من جديد.